في الأيام الأخيرة، ثارت ضجة كبرى في أوساط الرأي العام المصري، وعلى مواقع التواصل الاجتماعي، تأثرًا بواقعة وفاة طفلة تبلغ من العمر 15 عامًا، نتيجة غيبوبة سكرية خطيرة نجمتْ عن ارتفاعٍ شديد في سكر الدم وحموضة الدم، وذُكر أن السبب في ذلك كان خطأً طبيًا في وصف العلاج الملائم لها من قِبَل طبيبٍ غير متخصص بشكلٍ جيد.

ولسنا هنا بصدد مناقشة تفاصيل تلك الواقعة المؤلمة، أو محاولة استجلاء حقيقة دور الطبيب المذكور في تلك القضية، لكننا كالمعتاد سنحاول استغلال الأضواء المسلَّطة حاليًا من أجل مزيد من الوعي حول قضية إصابة الأطفال والمراهقين بداء السكري.

يُقدَّر عدد الأطفال والبالغين صغار السن (تحت 20 عامًا) في مصر والمصابين بداء السكري بأكثر من 175 ألفًا، مما يجعل مصر تحتل المركز العاشر عالميًا في معدلات الإصابة بالسكر في تلك الشريحة العمرية، بينما يبلغ في الولايات المتحدة الأمريكية -عدد سكانها 3 أمثال مصر- حوالى 210 ألفًا عام 2020.

يتعرَّض الآلاف من هؤلاء الأطفال سنويًا لمخاطر مضاعفات السكر، وعلى رأسها الوفاة، لكن في المقابل، فقد شهدت العقود الأخيرة تحسنًا كبيرًا في تقليل نسب وفيات الأطفال المصابين بداء السكري حول العالم، قدََّره مركز السيطرة على الأمراض الأمريكي CDC بما يقارب 61% في الولايات المتحدة الأمريكية، مردُّه إلى التحسن الكبير في الوسائل التشخيصية والعلاجية. وللأسف الشديد، فإن أعداد المصابين الصغار بالسكري تتصاعد، نتيجة تفاقم مشكلة زيادة الوزن والسمنة المفرطة عالميًا.

تحديات لا بد من مواجهتها

هناك العديد من التحديات التي يجب مواجهتها جيدًا لكي يمكن أن يتمتَّعَ الطفل المصاب بالسكري بحياةٍ طبيعية قدر الإمكان، ويمكن تلخيصُها في خمسة تحديات رئيسة:

  • المشاعر النفسية السلبية، والعجز عن التأقلم الإيجابي مع وجود المرض.
  • نقص الوعي الأسرى، والذي يؤدي إلى غياب الدعم النفسي الحيوي.
  • الضغوط المجتمعية، وردود الأفعال الخاطئة تجاه الأطفال المصابين بالسكري.
  • الاضطرابات الغذائية زيادةً ونقصانًا، وصعوبة الالتزام بالجرعات الدوائية المطلوبة، وإجراء المتابعات الطبية والتحاليل الدورية.
  • ظهور مضاعفات السكر باكرًا في العمر لا سيَّما أمراض شرايين القلب، والكلى، والتهابات الأعصاب، وشبكية العين… إلخ، والعبء الجسدي والنفسي الكبير الناجم عن هذا.

وهذه التحديات ينبغي معالجتها جميعًا لكي يمكن أن مواجهة السكر بشكلٍ شامل في هذه الشريحة الحسَّاسة نفسيًا وجسمانيًا على ما سنُفصِّل في السطور المقبلة.

كيف يمكن للطفل المصاب بالسكري الاستمتاع بحياة طبيعية؟

في فقراتٍ موجزة، سنرسم معًا خطة بسيطة وعملية يمكن لمعظم الأفراد والعائلات والمجتمعات تطبيقها في هذا الأمر، مع التأكيد على أن تلك الخطة لا تكتمل بغير عمل فعّال ومتكامل على مستوى الدول، والمنظمات الصحية العالمية.

1. الوعي بنوعي السكر في صغار السن

قبل مواجهة أي مشكلة، لا بد من الفهم الجيد للتفاصيل الأساسية عنها. ومن أهم ما ينبغي معرفته هنا أن الغالبية العظمى من حالات السكر لدى صغار السن هي إصابات بمرض السكر من النوع الأول، والذي ينجم عن عجز الجسم بشكلٍ شبه كامل أو كامل عن إنتاج هرمون الإنسولين الذي ينظم السكر طبيعيًا، نتيجة تلف الخلايا المنتجة له في البنكرياس، بسبب خلل في جهاز المناعة يدفعه لمهاجمة تلك الخلايا.

وهناك بعض العوامل الوراثية التي تُسهِّل حدوث هذا الخلل المناعي، ولذا نلاحظ أن هناك عائلات يتفشى فيها هذا الأمر مقارنة بغيرها. ولا تصلح معظم العلاجات الدوائية بالفم للسيطرة على هذا النوع، لأنها تعمل على تحسين إفراز الأنسولين والاستجابة له في الجسم، ولا بد من العلاج بحقن الإنسولين بمختلف أنواعها، وبجرعاتٍ تناسب حالة كل طفل.

لكن لوحظ في السنوات الأخيرة تزايدًا تدريجيًا في أعداد الأطفال المصابين بالنوع الثاني من السكر، والذي ينجم عن زيادة مقاومة خلايا الجسم وضعف استجابتها للأنسولين الذي يُفرَز داخليًا، والسبب في ذلك إلى جانب بعض العوامل الوراثية هو زيادة نسب الأطفال الذين يعانون من السمنة المفرطة وزيادة الوزن، وهذا النوع الذي يمكن علاجه دوائيًا، بينما يُلجَأ للأنسولين في الحالات المتقدمة.

2. الكشف المبكر والمتابعة الطبية الدورية

يجب على الآباء معرفة الأعراض المرضية التي تثير الشكوك حول إصابة الطفل بمرض السكري، مثل زيادة ملحوظة في مرات وكمية التبول، وكذلك العطش والجوع المتكرريْن، وفقدان الوزن خلال أسابيع قليلة، وشعور الطفل بإجهاد شديد ليس له تفسير آخر. وتُلخِّص جمعية السكر البريطانية تلك الأعراض الإنذارية المبكرة لإصابة الطفل بالسكري في 4Ts هي (Toilet- Thirsty – Tired- Thinner).

وفي حالة الشك في تلك الأعراض، يجب استشارة طبيب أطفال مختص بأمراض الغدد الصماء، والذي سيطلب التحليلات اللازمة لتأكيد التشخيص مثل (نسبة السكر صائم وفاطر – الهيموجلوبين السكري HBA1c)، وتحديد الجرعات العلاجية الأولية للطفل حسب كل حالة، ويجب الالتزام بالمتابعة الدورية في مواعيدها، لا سيَّما في البداية لحين الاستقرار على الجرعات المناسبة.

وللأسف الشديد فإن كثيرًا من الآباء لا يلتفتون لتلك الأعراض، فيُصاب الطفل فجأة بما يُعرف بغيبوبة التحمض الكيتوني DKA، والتي تنجم عن ارتفاع شديد في سكر الدم، يؤدي إلى جفاف شديد، وارتفاع حموضة الدم نتيجة لجوء الجسم بكثافة لتكسير الدهون وإنتاج مواد حمضية هي مركبات الكيتون keton bodies.

ويحتاج هؤلاء الأطفال للعناية الطارئة فورًا، حيث يُعطوْن محاليل الإنسولين الوريدية، مع تعويض الجفاف بالسوائل الوريدية، وتعويض فقد عنصر البوتاسيوم الحيوي، ومتابعة العلامات الحيوية ووظائف الأعضاء المهمة. وكثيرًا ما يكون تشخيص إصابة الأطفال بالسكري لأول مرة بعد إصابتهم بتلك الحالة.

3. طعام صحي وغير مُحبط

ملف الطعام من أكثر ما يُسبِّب الضغط النفسي لصغار السن المصابين بالسكر، لا سيَّما إذا تجاوز الأهل دائرة الحرص والوعي، إلى الوسوسة المفرطة، التي تؤدي إلى تفاقم حرمان الطفل من الأطعمة الشهية التي يجد أقرانه غير المصابين مقبلين عليها. وبالفعل، فإن إعداد طعامٍ صحي وشهي في نفس الوقت لتلك الشريحة الحساسة، يمثل تحديًا كبيرًا، لكن الوسائل المعاصرة التي بين أيدينا، يمكن أن تساعدنا كثيرًا.

سيُحدِّد الطبيب أنواع وكميات السعرات الحرارية المطلوبة للطفل من تصانيف الطعام الرئيسة (النشويات والسكريات – الدهون – البروتينات)، ومعظم الأطعمة- لا سيَّما المعلَّبة- مُدوَّن عليها تفاصيل الكميات والسعرات الحرارية من كل تصنيف.

لحسن الحظ هناك أنواع عديدة من الطعام مفيدة للغاية ولا ترفع سكر الدم بشكلٍ كبير (الخضروات بكافة أنواعها – اللحوم الحمراء قليلة الدهون – اللحوم البيضاء – الألبان منزوعة الدسم – الدهون المفيدة باعتدال مثل زيت الزيتون – الحبوب الكاملة باعتدال مثل الشوفان).

أمّا بخصوص النشويات والسكريات، والتي ترفع نسبة سكر الدم، وفي نفس الوقت لا يمكن الاستغناء عنها لأنها مصدر الطاقة الأهم للجسم، فيجب أن يتم الالتزام بالكميات المعقولة وفق حساب السعرات الذي حدده الطبيب، وبتوزيع جيد على مدار اليوم. ويمكن تعويض الطفل عن السكريات التي يحبها، باستخدام المحليَّات التي لا ترفع السكر (سكر الدايت) بكمية معتدلة، وتقديم بعض الأصناف الحُلوة له.

وبالنسبة للفاكهة، فلا مشكلة في معظم أنواع الفاكهة باعتدال، أمّا الشوكولاتة وأمثالها من الأطعمة المغرية للأطفال، فلا مانع من كمياتٍ صغيرة منها، مع حساب السعرات، وكل أنواع الشيكولاتة مُدوَّن عليها تلك التفاصيل، وكذلك محاولة الإبداع في تقديم أصناف الطعام الصحية للطفل حتى لا يملّ منها. وبكل ما سبق، نقلل بوجهٍ عام من شعور الطفل بالحرمان.

وفي البداية، لحين التعود على تنظيم غذاء الطفل بشكل ملائم، يجب تدوين كل ما يأكله الطفل على مدار اليوم بالتفصيل، ومراجعة هذا مع الطبيب في كل زيارة، للتأكد من سلامة الخطة الغذائية.

اقرأ: دليلك لحمية غذائية غير مؤلمة.

اقرأ: الشوفان: هل هو غذاء سحري؟

4. تسهيل طرق تعاطي الإنسولين لتقليل الألم

هناك العديد من أنواع الإنسولين تختلف حسب سرعة ظهور تأثيرها، فهناك فائق السرعة، وسريع المفعول، والمتوسط، وطويل المفعول الذي يدوم تأثيره لما يقارب 24 ساعة، وتعطى جميعها بالحقن تحت الجلد، فحتى اللحظة لم نتوصَّل إلى إنتاج إنسولين يؤخّذ بالفم.

ويُحدِّد الطبيب المختص النوع والجرعة وعدد مرات التعاطي يوميًا حسب كل حالة، لكن النمط الأكثر شيوعًا هو جرعة واحدة من طول المفعول، مع ثلاث جرعات من سريع المفعول أو فائق السرعة قبل الوجبات، أي أن أكثرية الأطفال المصابين يحتاجون 4 شكَّات من الإنسولين يوميًا، وهذا يمثل عبئًا نفسيًا كبيرًا على الأطفال لا سيَّما إذا كانوا مضطرين لاستخدام محاقن الإنسولين المعتادة.

لكن هناك وسائل سهَّلت من عملية إعطاء الإنسولين للأطفال، مثل أقلام الإنسولين للحقن المتكرر، والتي تسبب ألمًا أقل من الحقن العادي، ومؤخرًا ظهرت مضخة الإنسولين، وهي جهاز صغير يمكن أن يوضع في الجيب، ويتصل بإبرة مزروعة في جلد البطن، ويقوم بضخ الإنسولين على مدار اليوم دون الحاجة للحقن.

وتزود تلك المضخات بمجسّ دقيق يُزرع تحت الجلد لقياس نسبة السكر في الدم كل بضع دقائق، وضخ جرعات الإنسولين على مدار اليوم وفقًا لنسبة السكر، وهذا يوفر على الطفل عناء المزيد من الشكَّات المطلوبة يوميًا لقياس السكر، والتي لا تقل عن 4 مرات يوميًا، 3 قبل الوجبات، وأخرى ليلًا للاطمئنان على عدم تعرض الطفل لهبوط السكر أثناء النوم.

5. الدعم الأسري والنفسي 

يعاني صغير السن المصاب بالسكري من أقدار متباينة تحديات نفسية معقدة، مثل الإنكار والإحباط والاكتئاب والغضب والقلق والشعور بالاعتمادية والشعور بالدونية، والميل للعزلة… إلخ، ولكن يمكن بدعمٍ نفسي فعّال وذكي التغلب على كل هذا عبر ما يلي:

  • الاستماع الجيد للطفل، وشكواه النفسية، وأخذها على محمل الجد، وعدم الاستهانة بها، أو مهاجمته بسببها.
  • إدارة تعقيدات الوالدين النفسية بعيدًا عن الطفل، فلا يظهر له ما يمثله مرضه من ضغطٍ نفسي ومادي على الأسرة، فيمثل هذا ضغطًا إضافيًا مدمرًا عليه.
  • الحرص والاهتمام دون وسوسة وتقييد.
  • تنمية الاستقلالية، والاعتماد على النفس، في قياس نسبة السكر وفي تعاطي الجرعات الدوائية، بعد تدريبه بالطبع.
  • إدماجه في الأنشطة الاجتماعية، ودوائر الأصدقاء بشكلٍ طبيعي تمامًا.
  • تعويده على تقنياتٍ صحية لمواجهة التنمر، مثل الرد بأسلوب فكاهي على المُتنمر، أو إهماله والابتعاد عنه ببساطة. وبالطبع منحه الثقة في نفسه.

اقرأ: كيف أحمي طفلي من الاضطرابات النفسية.

6. دور إيجابي للأصدقاء والمعارف

يُعاني الأطفال المصابون بالسكري من حساسية مفرطة تجاه إصابتهم، ويحتاجون بشدة للشعور بأنهم طبيعيون، وأن من حولَهم لا يعاملونهم بشفقة أو بحساسية مفرطة، تّذكي لديهم الإحساس بأنهم مختلفون بشكلٍ سلبي.

ومن أبرز الأدوار الإيجابية الداعمة للأصدقاء والمعارف ما يلي:

  • كسر حالة العزلة التي يعاني منها المصابون بالسكري، والاندماج معهم في علاقة طبيعية تمامًا.
  • معاونتهم على الالتزام بالجرعات الدوائية في مواعيدها، وبالمشاركة في تناول الأطعمة الصحية التي لا ترفع معدلات السكر، وعدم دفعهم للقيام بعاداتٍ غذائية سلبية كتناول الوجبات السريعة أو المشروبات عالية السكر.
  • مشاركتهم في الأنشطة الرياضية المعتدلة التي ترفع الحالة المعنوية وتسهم في ضبط معدلات السكر.
  • الوعيْ بعلامات الخطر الصحية التي قد تظهر عليهم مثل (الإغماء – العرق الشديد – اهتزاز درجة الوعي – آلام الصدر) وذلك للمساهمة الفاعلة في إنقاذ حياتهم إن لزم الأمر باستدعاء الخدمة الطبية العاجلة في أوانها.
  • عرض المساعدة عليهم بذكاء من دون إشعارٍ لهم بالاعتمادية، وكذلك تجنب أساليب الزجر والإلحاح في النصيحة في ما يتعلق بالعادات الصحية المناسبة للسكر.
  • مواجهة التنمًّر على هؤلاء الأطفال بشكلٍ حازم، ودعمهم نفسيًا في حالة تعرضهم لمثل هذا في حضورنا.