على الرغم من أن السرطان ليس مرضا معديا؛ إلا أن الواقع يثبت أن السرطان قادر على الانتشار داخل الجسد البشري من موضع لموضع عن طريق النقيلات، وقد ظل هذا الجزء فيما يتعلق بمرض السرطان مصدرا للكثير من التساؤلات التي ظلت مصدر حيرة للعلماء للعديد من السنوات، ومع تطور فهمنا للطبيعة الخلوية للمرض وما يسببه وكيفية علاجه، كان من المهم وضع تصور واضح لكيفية انتشار المرض من موضع لآخر داخل الجسم، مما استلزم مجهودا كبيرا وعملا شاقا عبر السنين للوصول لمعرفة الحقيقة عن تلك العملية.


السرطان عبر التاريخ

في المراحل الأولى من تعامل الإنسان مع مرض السرطان، سيطرت العديد من المقترحات النظرية غير المثبتة على فهمنا للمرض، كانت تلك النظريات تدّعي أن المرض بسبب اختلال التوازن ما بين سوائل الجسم المختلفة وغيرها من النظريات التي لا يمكن أخذها على محمل الجد في العصر الحالي. في ضوء تلك النظريات، كان العديد من الأطباء يعتقدون أن السرطان مرض ذو طبيعة عامة من الأصل، وأنه ينتج نتيجة لاستعداد جسدي عام لنمو الأورام السرطانية[1]، كانت ذلك الاعتقاد السائد حينها مبررا بسبب الاكتشاف المتأخر لمعظم حالات السرطان بعد انتشارها لأماكن أخرى بالجسم، بدلا من الاكتشاف المبكر الذي ازداد مؤخرا مما يساعد على اكتشاف المرض في المراحل الأولى قبل انتشاره في أعضاء أخرى في الجسم البشري[1].

http://gty.im/1316392

على الرغم من التاريخ القديم لنظريات تفسير مرض السرطان وكيفية انتقاله؛ إلا أن إحدى أقدم الإشارات العلمية لفكرة انتشار السرطان تعود إلى العالم الفرنسي نيكولا إبراهام عام 1959م حين لاحظ أن السرطان من الممكن أن ينتقل إلى الأعضاء الداخلية[1]، وفي عام 1761 قام العالم الإيطالي جيوفاني باتيستا مورجاني بوصف ورم سرطاني في المعدة وأشار إلى أنه «ما بين المعدة والطحال، كان هناك كتلتان من الغدد في حجم حبة الفاصوليا، ولم تكن مختلفة في لونها أو ملمسها عن الورم السرطاني نفسه»، وعلى الرغم من أن ما وصفه العالم هو عبارة عن انتشار للسرطان الأصلي إلى الغدد الليمفاوية المحيطة، إلا أنه -كمعظم معاصريه- لم يستطع الربط بين ذلك الورم الغدي وعلاقته بالورم الأصلي في المعدة[1]، وقد كان للجرّاح الفرنسي هنري فرانسوا لو دران دور كبير في التفرقة بين السرطان المنتشر والسرطان المحدود (الذي لم ينتشر من موقعه الأولي إلى أي موضع آخر) حيث اعتبر أن السرطان مرض محدود في مراحله الأولى القابلة للشفاء، ثم ينتشر إلى الغدد الليمفاوية المحيطة، ثم ينتشر عبر الدم إلى باقي أعضاء الجسم، لكنه ظل مقتنعا أن كل ذلك يتم عن طريق انتشار السوائل السرطانية (وهو افتراض ظل قائما منذ القدم؛ أن السرطان ينتشر عن طريق انتشار بعض العصارات الخاصة التي تنتجها الخلايا السرطانية)، وقد أشار الجراح الفرنسي جوزيف ريكامير إلى اعتقاده بأن انتشار السرطان يحدث نتيجة للتوافق العصبي حيث تقوم الأعصاب التي تربط الأعضاء المختلفة بعضها ببعض بتحفيز نمو أورام متشابهة في الأعضاء المختلفة. مع مرور الزمن تطورت النظريات الخاصة بانتشار السرطان عبر العديد من المراحل إلا أن جميعها لم يُشِر إلى إمكانية إنتشار السرطان عن طريق انتقال الخلايا السرطانية نفسها من مكان لآخر حتى أواخر القرن التاسع عشر.

في عام 1869 تم تسجيل وجود الخلايا السرطانية في الدم لأول مرة، عندما قام توماس رامسدن آشوورث بفحص عينة دم من جثة أحد المرضى الذين تم تشخيصهم بأحد أنواع السرطان، ليكتشف وجود خلايا في الدم، تشابه تماما الخلايا التي تم فحصها من النسيج السرطاني نفسه، وعلى الرغم من عدم قدرتنا على معرفة نوع السرطان الذي أصيب به ذلك المريض، فقد كانت الملاحظة النهائية لآشوررث في تقريره ذات أهمية كبرى في تاريخ الطب، حيث أوضح آشوورث في تقريره «أن حقيقة وجود خلايا في الدم مماثلة للخلايا السرطانية نفسها قد تساعدنا على فهم آلية وجود أورام متعددة لدى نفس المريض» (2)، وقد فتح هذا الاكتشاف الباب نحو فهم أكثر واقعية لانتشار المرض عن طريق الخلايا السرطانية نفسها.


ما هي العوامل التي تؤثر على انتقال السرطان من مكان لآخر؟

بعد أن أصبح من الثابت أن السرطان ينتقل عن طريق انتقال الخلايا السرطانية نفسها من مكان لآخر، كان الاعتقاد الشائع أن تلك العملية مرتبطة بكيفية تشعب الأوعية الدموية، حيث تسير الخلايا تبعا لتشعب الأوعية الدموية حتى تصل إلى الشعيرات الدموية الصغيرة ومن ثم تقوم بزرع نفسها في العضو الذي وصلت إليه وتنمو مكونة ورما سرطانيا جديدا. لكن الدراسة التي قام بها الجراح الإنجليزي ستيفن باجيت جاءت لتفند ذلك التصور! حيث لاحظ بعد دراسة مئات الحالات من سرطان الثدي أن تلك الأورام الخبيثة عادة ما تنتقل إلى الكبد على الرغم من أنها قادرة على الوصول إلى الطحال بنفس السهولة![3] وقد فسر ذلك بأن الخلايا السرطانية قادرة على الانتقال من خلال الدم إلى جميع أعضاء الجسم، لكنها غير قادرة على النمو إلا في بعض الأماكن المحددة التي تكون فيها البيئة مناسبة لنموها، مشبها تلك الخلايا ببذور النباتات التي تنتشر في كل مكان لكنها لا تستطيع النمو إلا إذا وصلت إلى تربة مناسبة[3]. بالطبع يلعب عامل القرب proximity دورا مهما (على سبيل المثال، يوجد طريق وريدي مباشر من القولون إلى الكبد، ويعد الكبد أكثر الأماكن شيوعا لاستقرار نقائل سرطان القولون) لكنه ليس العامل الوحيد[4]، ويمكن التأكد من تلك الفرضية بمراجعة التجربة التي أجراها كل من إيان وفيدلر عام 1980م، حيث قاما بزراعة أنسجة من الرئة والكلى والمبيض تحت جلد مجموعة من الفئران، ومن ثم قاما بحقن تلك الفئران بخلايا سرطان الميلانوما التي قاما بوسمها بالنظائر المشعة، وكانت النتيجة أنه على الرغم من أن احتمالية وصول الخلايا السرطانية للأنسجة الثلاثة كانت متساوية، إلا أن السرطان لم ينشأ إلا في خلايا الرئة والمبيض فقط[5].


كيف تنتقل الخلايا السرطانية من موقعها إلى مكان آخر؟

تحت المجهر، تظهر الخلايا السرطانية المتواجدة على حافة الورم في شكل يشبه مستعمرة من الحشرات النشيطة مستمرة الحركة، في بعض الأحيان، تنفصل بعض تلك الخلايا عن المجموعة متوجهة نحو الأوعية الدموية، حيث يموت معظم تلك الخلايا على الفور إما بسبب التصادم المستمر مع جدار الوعاء الدموي أو بسبب الخلايا المناعية التي تتعرف عليها وتدمرها أو غيرها من الأسباب، وتشير دراسة أجريت على الخلايا السرطانية الموسومة بالإشعاع، أن أقل من 0.1% فقط من عدد الخلايا التي تصل إلى مجرى الدم تظل على قيد الحياة بعد مرور 24 ساعة[6]، لكن مع كل هذه الاحتماليات الصعبة، فإن نشأة ورم جديد لا تتطلب أكثير من خلية واحدة فقط. كذلك تتعرض بعض الخلايا السرطانية حال انفصالها عن الورم الأولي لما يطلق عليه Anoikis وهو إحدى آليات الموت المبرمج للخلايا التي تتسبب في موت الخلية التي تنفصل عن محيطها[7].

تتميز النقيلات بانتقائية غير مفهومة حتى الآن فيما يخص المكان الذي سوف تستقر فيه، من المنطقي أن يكون النسيج المشابه للنسيج الذي أصابه السرطان الأصلي أكثر الأماكن ملائمة لاستقرار الخلايا السرطانية الجديدة، لكن هذا لا يتحقق في أرض الواقع، فنادرا ما ينتشر السرطان الذي يصيب أحد الثديين إلى الثدي الآخر، وكذلك السرطان الذي يصيب إحدى الكليتين. حين تصل تلك الخلايا السرطانية للموقع المنشود، فإنها تبدأ في تبادل الإشارات مع الخلايا الطبيعية في النسيج المستهدف لتقوم بالاستقرار داخل ذلك النسيج.


يظل مرض السرطان (بأنواعه المختلفة) سببا لحيرة الكثير من العلماء والأطباء بما يتضمنه من تفاصيل متعددة ومعقدة في كثير من الأحيان، لكن التطور العلمي ساعدنا كثيرا على فهم المرض بشكل أفضل كل يوم.

المراجع
  1. Concepts of metastasis
  2. Ashworth TR (1869) A case of cancer in which cells similar to those in the tumours were seen in the blood after death. Aust Med J 14:146–149.
  3. THE DISTRIBUTION OF SECONDARY GROWTHS IN CANCER OF THE BREAST.
  4. Weinberg, Biology of Cancer, 636
  5. Role of Organ Selectivity in the Determination of Metastatic Patterns of B16 Melanoma1
  6. The pathogenesis of cancer metastasis: the 'seed and soil' hypothesis revisited
  7. Anoikis: Cancer and the homeless cell