عام 2009 كان ختام عقد سينمائي مميز، كان ظهور فيلم Avatar  للمخرج الرائد «چيمس كاميرون» لحظة ثورية و فارقة في التطور التقني في السينما، حكايته بسيطة ولكنه طعمها بإنجاز بصري هائل، وكان من الطبيعي والمتوقع أن تسيطر التقنية الحديثة على الإصدارات الجديدة في عالم السينما، لأن السينما هي أكثر الفنون ارتباطًا بالتكنولوجيا.

لكن ما حدث أن أفلام الأبطال الخارقين انتشرت واعتمدت في الأساس على الإبهار البصري وأصبحت الحكاية شيئًا ثانويًا للدرجة التي تجعل المشاهد في أحيان كثيرة يعلم جيدًا ما سيحدث، خضع الفن لمتطلبات زمنه وزادت الإنتاجات التي تتحدث عن العنصريّة أو المثلية الجنسية، لكن في ختام العقد ظهر إلى النور أربعة أفلام مهمة، ربما هؤلاء الأربعة هم المرشحون الأكبر لحصد النصيب الأكبر من جوائز الأوسكار في آخر سنوات العقد.

الشيء المثير للإعجاب أن هذه الأفلام الأربعة تحاول هدم السائد والثورة على المألوف وتجاوز النمطية، إما بالنسبة لمقاييس الزمن، أو تفاصيل العالم الذي تقدمه، أو حتى عالم المخرج نفسه، Once Upon a time in Hollywood كونتين تارانتينو، The Irishman لمارتن سكورسيزي، Joker لتود فيليبس، 1917 لسام منديز. 

الزمن: المخاطرة وإعادة التشكيل

في «الأيرلندي» لا يرضخ سكورسيزي لمتطلبات زمنه ولا يجاريها كما حاول سابقا عند استخدامه تقنية ثلاثي الأبعاد في تقديم عالم خيالي في Hugo، أو حتى في مجاراة الأصناف السينمائية الأكثر جماهيرية والPlot Twists في Shutter Island، لكنه يعود إلى عالم الجريمة والحياة الليلية الذي صنع مجده في سبعينيات القرن الماضي مستعينًا بثلاثة من المحاربين القدامى في هذا العصر الذهبي، دينيرو وآل باتشينو وجوي بيشي، والأهم أنه يعلنها بجرأة واضحة من خلال حكايته التي تعتمد في الأساس على المصير والتأمل في الماضي.

دينيرو في الفيلم يجسد شخصية «فرنك شيران»، أمريكي من أصل ايرلندي، كان جنديًا في الحرب العالمية الثانية. وعلى طريقة الفلاش باك، يروي قصته «من دار مسنين»، عمل كسائق شاحنة تحمل اللحوم من المجزر إلى مكان التوزيع. و بدأ في بيع جزء مما يحمله إلى شخص إيطالي، ومع الوقت والأزمات يكسب ثقة الايطاليين ويصبح قاتلًا مأجورًا يعمل مع كبار شخصيات المافيا. 

تم انتقاد تقنية تصغير الممثلين في الفيلم، دينيرو بدا عجوزا في مشاهد كان من المفترض أن يظهر فيها بشكل أصغر، لكن هل من الممكن أن سكورسيزي كان يقصد هذا في فيلمه التأبيني لصنف سينمائي شبه انقرض؟ يحكي فيه عن الزمن والنهايات بروح رجل عجوز يتأمل الماضي ويتساءل «أين يقبع ذلك الخطأ»، فيلم بطولة شيوخ، لكنه لن يشيخ أبدًا. 

عودة إلى الأصول، أو كيف تحكي حكاية؟

في أفلامه الثلاثة الأخيرة حاول تارنتينو أن يغير قليلا من جلده، تلاعب بالتاريخ في Inglorious Bastard وقدم ويسترن بشكل مغاير في Django Unchained و The Hateful Eight لكنه ظل محتفظًا بولائه للعنف وللألاعيب السردية و تقسيم الفيلم إلى فصول، لكن في Once Upon a time in Hollywood يتخلى عن أسلوبه المعتاد في سرد الحكاية وتقسيمها إلى فصول، ويحكي حكاية مغايرة عن تلك التي تعود عليها الجمهور، حتى جماهيره نفسها. 

يعود تارنتينو بالأحداث قبل خمسين عامًا، يحكي حكاية للسينما ذاتها ويصنع الفيلم لمزاجه الخاص، (ريك دالتون) الممثل الذي بدأت نجوميته في الانطفاء ومساعده (كليف بوث) الصديق الجيد، أو الذي يحاول أن يكون كذلك، وفي خط آخر ،لا يتصل بالخط الأول إلا في النهاية، يتتبع الممثلة (شارون تايت) زوجة رومان بولانسكي التي قتلت على يد الهيبيز. 

فيلم تارنتينو هذا هو أكثر أفلامه حيوية واقترابًا من ذاته، يكاد يخلو من الحبكة ويعتمد كليًا على الشخصيات بخلاف أفلامه السابقة التي دائمًا ما ينتظر فيها المشاهد لحظات جنونية ودموية من حين لآخر، ويمكن اعتبار الفيلم رسالة حب وحنين ومداعبة إلى عصر السينما التي نشأ عليها، ويمكن اعتباره نقد للسينما التي انتشرت في الزمن الحالي، ربما راودته فكرة أن يصنع فيلمًا لا يستطيع إنجازه سوى تارنتينو، ليؤكد به أن ملهم الفيلم هو المخرج قبل أي شيء آخر. 

ثورة في أفلام القصص المصورة

عرف الچوكر منذ بداية ظهوره كعدو أزلي لباتمان، لا يذكر أحدهما إلا ويذكر اسم الآخر، في 2005 اتخذ نولان خطوة جريئة وعظيمة في تتبع لحظة خلق (باتمان) وبعدها بثلاثة سنوات قدم كلاسيكيته الأهم The Dark Knight، هيث ليدجر كان أيقونيًا في دور الچوكر، ندبته الشهيرة وجنونه وعبقريته، والأهم، شره الغير مبرر، صراع الفيلم في ذروته بينهما يمكن تلخيصه في قوة الشر الغير مبرر وقوة الخير الغير مبرر، صنع نولان كلاسيكية حقيقية للدرجة التي تجعل كل صناع السينما يخشون من تقديم الچوكر مرة أخرى.

الكوميديا بالنسبة لي مستمدة من الحقيقة، وفي السنوات الأخيرة أصبحت الحقيقة منفرة، ومن الصعب أن تكون مضحكًا إذا كانت الحقيقة منفرة. 
المخرج الأمريكي تود فيليبس

في Joker تود فيليبس يحاول الرجل أن يتخلى عن أسلوبه في تقديم أفلام الكوميديا، فيليبس يرى أن العالم لم يعد يحتمل أن يؤخذ بمحمل السخرية، يقدم فيلمًا فوضويًا يميل إلى السوداوية، وهذه المرة بطل الفيلم اعتاد أن يقدمه صناع السينما في دور الشر، فيليبس هنا يحاول أن يقف بجانبه ويستكشف جذوره وكيف آلت الأمور لتصنع واحدة من أكثر الشخصيات سيكوباتية وشرًا في تاريخ السينما، ينزع شخصيته الرئيسية من أفلام القصص المصورة ويفرد لها مساحتها الخاصة. يضع فيليبس عائلة «بروس وين» في موضع الادانة لأول مرة ضمن مجتمع ممسوخ حوّل المهرج «آرثر فليك» إلى مجرم مجنون، نكات «آرثر» لا تضحك أحدًا لأن (فيليبس) لا يرى أن هناك ما يستحق الضحك في عالم مسعور يسقط إلى الهاوية ويفقد معناه يومًا بعد يوم، ويتخذ الفيلم في سرده وجهة نظر «آرثر) المضطربة والمحاطة بالهلاوس التي تصبح محرك الحدث.

يحتوي الفيلم على العديد من الإشارات إلى كلاسيكيات سابقة، بالإضافة إلى V for Vendetta واحد من أشهر الأفلام المأخوذة عن قصص مصورة، وهو أمر غير مسبوق، ومع أن الفيلم يفتقد في أحيان كثيرة إلى الانسجام إلا أنه تجربة جريئة ومختلفة في هذا النوع من الأفلام. 

جرأة في فهم الزمن

في 2014 حصد ايناريتو أوسكار أفضل فيلم ومخرج وسيناريو أصلي في فيلمه Birdman الذي تم تصويره ليظهر كأنه لقطة واحدة، حركة الكاميرا المستمرة والدورانية كانت ضرورة درامية للتعبير عن وساوس بطله وهواجسه النفسية، لكن الاستمرار في هذه الحركة في المشاهد التي لم تظهر فيها الشخصية الرئيسية كانت دخيلة على جو الفيلم وظهرت اللقطة الواحدة كأنها استعراض للعضلات، لكن بعد ستة أعوام يستوعب سام منديز الدرس جيدًا.

في 1917 يحكي سام منديز مهمة صعبة يكلف بها اثنان من الجنود الانجليز أثناء الحرب العالمية الأولى، وهي توصيل أمر لإحدى كتائبهم بعدم الهجوم على الألمان لأنهم نصبوا فخًا. جرأة سام منديز في هذا الفيلم تظهر في محاور رئيسية، أولها اختيار الحرب العالمية الأولى كإطار زمني للحدث، فالتطور في معدات الحروب لم يكن كبيرا مثل الحرب التي تلتها، وهذا بالضرورة يلتحم مع فردانية الفيلم واعتماده على شخصين فقط في رحلة هروب، الأمر الذي جعل اختيار اللقطة الواحدة نفسه متوحد مع نسيج الفيلم ولم يجعل المشاهد يشعر بالمجهود المبذول خلف إنجازه البصري.

ثاني الأمور أن الفيلم رغم إنجازه التقني الهائل إلا أنه لا يغفل وحدة الفيلم وتأثيره العاطفي الموزون، وإنما تجعله كأنه زمن جديد يولد من زمن سابق، ولم ينجرف في تشويه العدو، حتى أنه لم يظهر إلا نادرا، أو التمجيد الإعلامي للدولة، بل أنه وجه لومًا خفيًا للقيادات. ثالث الأمور أن الفيلم يحمل تحية إلى كلاسيكيات الحروب، هناك لمحات من Paths of Glory لستانلي كيوبريك، Come and See لاليم كليموف، Saving Private Ryan لسبيلبيرج، North by Northwest لهيتشكوك، هذه التحية تمنح العمل أصالة واضحة ولا تنتقص من وحدة الفيلم.