احتفل الهنود في أنحاء العالم بكل فخر بعد أن أصبحت دولتهم يوم الأربعاء أول دولة تهبط بمركبة فضائية على القطب الجنوبي غير المستكشف للقمر، ورابع دولة فقط تصل إلى سطح القمر، وأطلق المواطنون المفرقعات النارية ووزعوا الحلوى في الشوارع ورقصوا بحماس احتفالًا بهذا الإنجاز، ورددوا هتافات «تحيا الهند» بعد الإعلان عن هبوط مهمة تشاندرايان 3 (معناها المركبة القمرية باللغة السنسكريتية) على سطح القمر في لحظة شاهدها 70 مليون شخص على صفحة يوتيوب التابعة لمنظمة أبحاث الفضاء الهندية (ISRO).

وتكونت المهمة من مركبة هبوط تدعى فيكرام (الشجاعة) ومركبة جوالة تدعى براغيان (الحكمة)، وهما روبوتان من المقرر أن يقضيا حوالي 14 يومًا في استكشاف القمر، وتم حفر نقوش عجلات براغيان بشعار منظمة الفضاء الوطنية، ورمز شاكرا أشوكا، وهو رمز ديني لعجلة ذات 24 شعاعًا تتوسط العلم الهندي، لتخليد الرمزين على سطح القمر.

أهمية الإنجاز

فشلت المحاولة الهندية السابقة في سبتمبر/أيلول 2019 عندما اصطدمت مركبة الهبوط، تشاندرايان 2، بالقمر بسبب خلل في البرمجيات، وعلى مدى أربع سنوات تقريبًا تم تنفيذ العديد من التطويرات في التصميم والبرمجيات حتى نجحت المهمة التي تبلغ تكلفتها 6 مليارات روبية (73 مليون دولار أمريكي) في الوصول لهدفها، وتم تزويد مركبة الهبوط بأدوات علمية مُجهزة لالتقاط البيانات لمساعدة الباحثين على تحليل تربة القمر.

يعد القطب الجنوبي للقمر – الذي وصلت إليه المركبة – أحد الأماكن الأكثر صعوبة للهبوط لأنه مليء بالصخور المتناثرة، وتعتبر هذه المنطقة ذات أهمية استراتيجية للدول التي ترتاد الفضاء، حيث يعتقد العلماء أنها موطن للرواسب الجليدية، ويمكن الاستفادة من المياه المتجمدة في الحُفر في عدة أغراض مفيدة لمهمات الطاقم المستقبلية؛ فبالنسبة لرواد الفضاء الذين يأملون في الاستقرار على القمر، فإن وجود المياه مهم للغاية، فلا يقتصر الأمر على إذابة الجليد للحصول على مياه الشرب فحسب، بل يمكن تفكيك جزيء الماء H₂O لتوفير الأكسجين من أجل التنفس، ويمكن إعادة دمج الهيدروجين والأكسجين لصنع وقود الصواريخ.

وأتى الإنجاز الهندي بعد أيام من تحطم المركبة الفضائية الروسية لونا 25 وفشلها في الهبوط على القطب الجنوبي للقمر، وهي أول محاولة للهبوط على سطح القمر لموسكو منذ 47 عامًا، ففي 14 يوليو/تموز، انطلقت مركبة الفضاء الهندية تشاندرايان-3 من مركز ساتيش داوان الفضائي في جنوب شرق الهند، وأبحرت في مسار بطيء نسبيًّا مدته خمسة أسابيع، مما أدى إلى سلسلة متزايدة الاتساع من المدارات حول الأرض حتى وصلت أخيرًا إلى المنطقة المجاورة للقمر ودخلت في نطاق جاذبيته، وتبعتها روسيا في مطاردة ساخنة، حيث انطلقت مركبة الهبوط لونا 25 من قاعدة فوستوتشني كوزمودروم المبنية حديثًا في منطقة آمور أوبلاست في أقصى شرق البلاد، وأبحرت في مسار أكثر مباشرة مصمم للوصول إلى القمر في أقل من أسبوعين، وتسابق الطرفان للوصول إلى الهدف نفسه، لكن في 20 أغسطس/آب اصطدمت لونا 25 بسطح القمر، واستطاعت المركبة الهندية في 23 أغسطس/آب تنفيذ هبوط سلس.

نجحت الولايات المتحدة والصين والاتحاد السوفيتي السابق في تنفيذ الهبوط السلس على سطح القمر، لكن لم يصل أي منهم إلى القطب الجنوبي له، وتعددت المحاولات للوصول إلى ذلك الهدف، ففي عام 2019، تحطم المسبار الفضائي الإسرائيلي بيريشيت بعد أن كان على بُعد 149 مترًا فقط من موقع هبوطه، وفي أواخر أبريل/نيسان الماضي، تعرض مسبار ياباني يحمل مركبة إماراتية للدمار على مسافة 4.8 كيلومتر قبل أن يصطدم بالسطح.

وهناك خطط صينية معلنة لبناء مفاعل نووي على القمر، ففي عام 2019 أصبحت الصين أول دولة تهبط بمركبة على الجانب البعيد من القمر، ثم جلبت عام 2020 عينات قمرية مهمة، ومن المفترض أن تنشئ بؤرة استيطانية على القطب الجنوبي للقمر، وجسرًا فضائيًّا إلى المريخ، وتم الكشف عن هذه الخطط، بعد نجاح بكين في إنزال إنسان آلي على سطح المريخ، في منتصف مايو/أيار 2021.

وتتنافس الصين مع الولايات المتحدة في هذا المضمار، وقد حذر بيل نيلسون، كبير مسئولي وكالة الفضاء الأمريكية (ناسا)، من محاولات الصين للسيطرة على موارد القمر، مبينًا أن بكين تحاول الوصول لموارد القطب الجنوبي للقمر تحت ستار البحث العلمي، وإقصاء وكالات الفضاء الأخرى عن هذه المنطقة المهمة.

ويستهدف برنامج أرتميس التابع لوكالة ناسا تنفيذ أول هبوط مأهول على القطب الجنوبي للقمر في النصف الثاني من هذا العقد، وتهدف الصين لهبوط طاقمها في نفس المنطقة عام 2030.

لذلك يعد صعود الهند في لعبة الفضاء مؤشرًا على نمو مكانتها على المسرح العالمي؛ فقد سبقت الجميع خاصة روسيا ــ الدولة التي يُنظَر إليها باعتبارها رائدة في مجال الفضاء ــ وهذه علامة على تغير موازين القوى الدولية، فعندما أطلقت الهند أول صاروخ لها إلى الفضاء في عام 1963، لم تكن قادرة على مجاراة طموحات الولايات المتحدة والاتحاد السوفيتي السابق، اللذين كانا متقدمين في سباق الفضاء، والآن، يمكنها القول إنها دارت حول القمر والمريخ، وحطمت الأرقام القياسية وأطلقت مئات الأقمار الصناعية بتكلفة أقل بكثير من الدول الأخرى التي ترتاد الفضاء.

ولعقود من الزمن، كانت هيئة الفضاء الهندية واحدة من أكثر مقدمي خدمات إطلاق الصواريخ فعالية من حيث التكلفة، فقد قال وزير العلوم في البرلمان في نوفمبر/تشرين الثاني الماضي، إنه بين عامي 2018 و2022، أطلقت الهيئة 177 قمرًا صناعيًّا لدول أخرى.

تخطي أزمات الداخل

بينما طغت خلال الفترة الأخيرة أخبار العنف الطائفي في الهند والاضطهاد الحكومي الممنهج للأقلية المسلمة، خاصة أحداث العنف الأخيرة في ولاية هاريانا التي راح ضحيتها عدد من القتلى والجرحى بينهم إمام مسجد أحرقه متطرفون هندوس، فإن الإنجاز الفضائي الأخير جاء ليغطي على الفشل والأزمات الداخلية، ويعطي فرصة لحكومة اليمين الديني المتطرف لتحسين صورتها باعتبارها حكومة إنجازات ولا تقتصر مهمتها على الشحن الطائفي كما يصورها خصومها، خاصةً من حزب المؤتمر الوطني المعارض.

وأصبح هذا الحدث التاريخي مصدر فخر كبير للدولة التي يبلغ عدد سكانها 1.4 مليار نسمة، ولحظة توحد ظاهري لأمة تعصف بها الانقسامات وموجات العنف الدموي، فقد تعهد رئيس الوزراء، ناريندرا مودي، في خطاب ألقاه في عيد الاستقلال عام 2018 بإرسال رائد فضاء هندي إلى الفضاء، مما أثار سخرية النقاد بسبب فشله في الوفاء بوعود أساسية مثل بناء مراحيض في كل أسرة قروية أو تحسين صحة المرأة، لكن منذ ذلك الحين، ضاعف الزعيم الهندي جهوده وأعلن عن خطط لاستكشاف أعماق البحار بغواصات يمكنها النزول إلى عمق ستة آلاف متر، وعندما واجه انتقادات في وقت سابق بإهدار المال في الفضاء، رد بأن بلاده بارعة في تقليل النفقات، وأن المهمة القمرية تكلف أقل من 100 مليون دولار أنفقتها هوليود الأمريكية لإنتاج فيلم عن الفضاء يدعى «Gravity» (الجاذبية) عام 2013.

فبالنسبة لرئيس الوزراء ناريندرا مودي، الذي وصل إلى السلطة في عام 2014 متكئًا على وعود تتعلق بالعظمة القومية، فإن نجاح تشاندرايان 3 كان بمثابة انتصار شخصي له، إذ قال إن هذا الإنجاز يعكس مفهوم «أمريت كال»، وهو مصطلح مأخوذ من علم التنجيم الهندي القديم ويعني «العصر المبارك» والذي كثيرًا ما يستخدمه لوصف مسيرة الهند في عهده.

وكان مودي، الذي تنتظره معركة انتخابية كبرى العام المقبل، في جنوب أفريقيا لحضور قمة مجموعة البريكس الاقتصادية عندما وردت أخبار الانتصار الفضائي، مما زاد من زخم الحدث، إذ أعلن عنه من محفل دولي تعتز الهند بالانتماء إليه، فبريكس تضم مجموعة من أكبر الاقتصادات الناهضة في العالم.

ومهما كانت التحديات الداخلية التي تواجهها الهند كالنقص الكبير في فرص العمل، ومشاكل توسع التصنيع وأزمات البنية التحتية، وتصاعد نزعة الاستبداد والصراع مع الأقلية المسلمة، فإن حكومة اليمين الهندوسي المتطرف استطاعت تسجيل هذا الإنجاز باسمها وستحاول استغلاله واللعب على نعرة الفخر القومي في مواجهة المنافسين السياسيين الذين ينظمون صفوفهم من اليوم استعدادًا لإنهاء عقد من الحكم اليميني المتطرف في انتخابات العام المقبل.