في عام 1990 اجتمع الكثير من الشباب المصريين من فئات عمرية مختلفة على قَصة شَعر موحدة، تعتمد على حلاقة الجزء الأسفل من الرأس وترك الشعر بالأعلى ينمو مجعدًا على طبيعته، اكتسبت القَصة اسم (كابوريا) بنفس اسم فيلم خيري بشارة الصادر ذلك العام، أصبحت قصة شعر حسن هدهد (أحمد زكي) شكلًا ثابتًا في الثقافة الشعبية المصرية حتى يومنا هذا، مثل أحمد زكي كممثل وحسن هدهد كشخصية طبقات اجتماعية مختلفة، كبطل شعبي مستضعف من بيئة متواضعة يستطيع أخذ حقه، لكنه ليس فتوة بالمعنى الكلاسيكي مثل فريد شوقي مثلًا، وسيم بشكل ليس نادر وقادر على العراك وجذب السيدات، بعد عقود ستحتل الشوارع المصرية قَصة شَعر جديدة مملوكة لممثل وشخصية سوَّق لنفسه باعتباره خليفة أحمد ذكي، شاب أسمر قريب للشاب المصري العادي لديه قدرات جسدية تسمح له بالانتقام من أعدائه، ويأتي من طبقة فقيرة، في عام 2016 أُعيدت كابوريا للأذهان بتبني الشباب المصري حلاقة ذقن وقصة شعر ناصر الدسوقي (محمد رمضان) في مسلسل الأسطورة، تبنت طبقات بأكملها جماليات المسلسل، وضعت صور محمد رمضان على محلات الحلاقة ومقاعد التكاتك وأصبح رمزًا للبطولة الشعبية المعاصرة منذ دوره في مسلسل ابن حلال  2014، حيث لقب العديد من المراهقين أنفسهم بـ «حبيشة».

محمد رمضان من مسلسل الأسطورة 2016
محمد رمضان من مسلسل الأسطورة 2016

استمر  محمد رمضان فترة طويلة كبطل شعبي معاصر أوحد، صدرت له مسلسلات سنوية وأفلام تتبع وصفة (Formula) محددة، شاب من طبقة بسيطة يتعرض للظلم ثم يهب للانتقام بمشاهد حركة مطولة وقتالات شارع مرضية ومشبعة لرغبات الأفراد العاديين في رؤية فانتازيا الانتقام والتحرر من الظلم  والذكورة المفرطة تتحقق أمامهم، مع نجاح رمضان أصبحت البطولة الذكورية الشعبية  تيمة مسيطرة على الأعمال الرمضانية، كثير من الممثلين اهتموا بتربية عضلاتهم وأخذوا على عاتقهم خلق أبطال شعبيين موازين أو أبطال حركة بشكل عام، لم يلاقِ أحد منهم نفس نجاح رمضان، لكن الموجة ظلت مسيطرة على الأعمال التلفزيونية لسنوات متتابعة، تخللها مسلسلات الدولة التي تعرض البطولة العسكرية كبديل، بعد فترة وخاصة بعد مسلسل البرنس، خفت نجم رمضان كبطل شعبي أوحد لاعتبارات فنية وشخصية، واتجه إلى أدوار أكثر درامية، ثم عاد للانتقام مرة أخرى هذا العام بعدما خفتت أعداد متابعيه والمخلصين له، حاول بعض النجوم الآخرين من الرجال سد تلك الفجوة، فظهر الثنائي مصطفى شعبان وعمرو سعد في ملوك الجدعنة 2021، وهو عمل مشترك يرسخ للصداقة الرجولية، لاقى نجاحًا ملحوظًا لكنه ليس بشعبية رمضان الجارفة، ثم انفصل كل منهما ليصبح بطله الخاص هذا العام بمسلسلي “الأجهر” و”بابا المجال” بشعبية محدودة لا ترقى لأن تحل محل مكان البطل الشعبي المعاصر، يثير ذلك تساؤلات عن طبيعة المجتمع المتغيرة ونظرته للرجولة والبطولة الشعبية، وهل يملأ أي من النجوم الحاليين فجوة غياب البطولة الشعبية؟

العضلات كزي تنكري للرجولة

تعرض النقاد السينمائيون العالميون والأكاديميون خاصة لطبيعة التمثيل النسائي على الشاشة انطلاقًا من المناهج النسوية، تتأمل لورا مالفي في مقالها الشهير (المتعة البصرية والسينما الروائية) بمدرسة التحليل النفسي كيف أن السينما بطبيعتها هي فن للفرجة لكنها بشكل رئيسي فن للفرجة الرجالية، وأن ظهور النساء على الشاشة هو عملية مظهرية مصممة لأعين الرجال ومفضلاتهم، انطلق من ذلك المقال المصطلح الشهير: (التحديقة الرجولية Male Gaze)، لاحقًا حلل أكاديميون آخرون نوعًا آخر من الفرجة المخصصة للرجال، ليست فرجة متعلقة بالتفضيل الجنسي لكن بالفانتازيا الرجولية، الكيفية التي يريد الرجال النظر إلى أنفسهم من خلالها، من يمثلهم وكيف تتجلى ذكورتهم على الشاشة، في 1993 كتبت كريس هولملوند مقالًا عن أفلام سلفستر ستالوني استخدمت فيه مناهج التحليل النفسي كذلك، لكنها ركزت على نظرة الرجال للرجال وطبيعة الذكورة كتنكر يرتديه الرجل ، وفي حالة ستالوني فإن التنكر ليس في الملابس، لكن في العضلات نفسها، يرتدي نجوم الحركة عضلاتهم مثل قطعة أزياء، تصبح الأجساد الرجالية الرياضية المبنية بعناية فرجة  لأعين الرجال أكثر منها للنساء، فأفلام الحركة موجهة لجمهور من الشباب والرجال الذين يشعرون بتطهير كبير مع انتقام أبطالهم من الأشرار أو حتى بفعل مشاهد العراك المجردة وجماليات الذكورة المفرطة “Hyper Masculinity”.

يمكن رؤية ذلك في إطار السينما والدراما المصرية وكذلك العالمية من خلال  البطل المتكامل جسديًّا الذي غالبًا ما يكون مستضعفًا قادمًا من العدم، وغالبًا ما يكون من الطبقة العاملة، تركز الوسائط المصرية على ذلك تحديدًا لأن صناعة بطل شعبي تتطلب شعبًا يشجعه ويقف وراءه، ما يحدد البطولة هو الجمهور، أن يصفق جماعة من الناس بعد ضربة قاضية، ليس ضروريًّا بالشكل الحرفي لكن على الأقل بالشكل المجازي، لكي تنتصر يجب أن ينتظر البعض انتصارك ويشجعه، في رمضان 2023 يوجد عدد من النجوم ذوي الأجساد العضلية المبنية بعناية الساعين للانتقام، لكن لا يوجد من يشجع انتصاراتهم، يستمر عمرو سعد في الأجهر تأليف ورشة ملوك وإخراج ياسر سامي في حواراته المقفاة وجمله الغزلية التي تتخطى حدود التعدي مع نساء الحارة وخاصة محبوبته، بينما تتهافت بقية النساء على كلمة منه.

يبدأ الأجهر في سرد قصة بطله كمراهق حتى ينضج، ويبني قصته على غرار عصابات نيويورك، باتباع قصة تحوله من طفل موتور إلى شاب منتقم، لكنه يغرب جمهوره الشعبي بوقوع مشاهده الأولى في مناطق غير مألوفة في جبال كينيا، قبل أن يعود لحارته بعد هروب من ثأر قديم، يقدم المسلسل عمرو سعد في شكل أشبه بأبطال ألف ليلة وليلة، بعيون مكحلة وجسد مثقل بعضلات غير مغالية لكنها واضحة وظاهرة، يرتدي السترات الجلدية ويمارس الحركات القتالية، يمثل الأجهر ذكورة متكررة في الدراما المصرية لمحاولة خلق بطل شعبي جديد، شاب يطمح لأن يتوحد معه مشاهديوه من الرجال وأن تحبه النساء، لكن ذلك الحرص والنية المسبقة في إرساء سلسلة من الأعمال البطولية الرجولية دون قاعدة جماهيرية طبيعية لا يكلل المجهود بالنتيجة المرجوة.

يظهر أيضًا هذا العام مصطفى شعبان بعدما تحول من بطولات الرجل المزواج المنحدر من دوره الأشهر في الحاج متولي إلى طابع حركي شعبي بكلمات مقفاة احتفظ بها من أعماله مع عمرو سعد، يقدمه مسلسل “بابا المجال” من تأليف محمد الشواف وورشة دراماتولوجي وإخراج أحمد خالد موسى باعتباره عبقريًّا في صيانة السيارات، بالإضافة لكونه مبنيًّا عضليًّا يستطيع القتال، يأتي من بيئة فقيرة منعته من أن يكون مهندسًا تقليديًّا، يرسي العمل لرجولة بطله وذكائه الشديد بحديث الجميع عنه كشاب جدع ومقاتل فائق وسيد مجاله، لا يترك العمل المساحة لصنع جمهور طبيعي لبطله، أو خلق فانتازيا شعبية بل يخلقها لنفسه، يعمل المسلسل بشكل هزلي مشددًا بشكل رئيسي على لغة شعرية محاولًا أن يصل لظهور الميكروباصات في الأحياء الشعبية، وأجواء مضاءة بأنوار رمضان التي تعطي للعمل بديلًا عن أضواء النيون الرائجة في أفلام الحركة العالمية حاليًّا.

الفانتازيا المزدوجة للبطل الشعبي

بالإضافة لسعد وشعبان يوجد أحمد العوضي الذي يعمل حاليًّا بشكل شبه حصري مع زوجته ياسمين عبد العزيز، وعلى عكس سعد وشعبان فإن العوضي لا يحمل اسم العمل على عاتقيه أو يسوق لنفسه باعتباره بطله، بل تعمل تلك المسلسلات باعتبارها فانتازيا تجمع بين ما هو رجالي وما هو نسائي، فهي فانتازيا زوجية تتصور شكلًا مثاليًّا من الرجولة الشعبية الفتية، الرجل الذي يحارب كل شيء من أجل امرأته، وفي الوقت نفسه يمثل بطلًا بجسد مبني بشكل مفرط، قادرًا على القتال بشكل أشبه بنجوم الثمانينيات في أمريكا.

يصور مسلسل “ضرب نار” من تأليف ناصر عبد الرحمن وإخراج مصطفى فكري بطولة رجولية تجمع بين القسوة والخروج على القانون والسعي وراء عدالة شعبية غير مؤسسية، وبين اللمحات الرومانسية الكبرى التي تغير الحياة، التي يدرك معها رجل يبدو لا يقهر أنه يملك قلبًا رقيقًا، يتباهى العوضي بقدراته الجسدية وقدرته على ترويض الطيور الجارحة سعيًا للعمل على فانتازيا يتمناها الرجال ويستخدم زواجه من بطلة العمل ياسمين عبد العزيز لجذب جمهور من النساء، دون جانب التربص  بالنساء الذي يغذيه عمرو سعد ومحمد رمضان في جعفر العمدة، لكن تكرار تيمة الثنائي الشعبي أفقدت تلك الفانتازيا الزوجية طزاجتها، وأصبحت محاولات العوضي المستمرة لخلق جمل جديدة يستخدمها المصريون يوميًّا ذات قصدية لا تشكل النجاح الشعبي بشكل طبيعي وتلقائي.

يعود محمد رمضان هذا العام لمنطة راحته بعد محاولة لاستكشاف عمل أكثر فنية انتهى به الأمر في فوضى سردية في مسلسل المشوار، يتبادل رمضان ومصطفى شعبان الأدوار، فيصبح الأول رجلًا متعدد الزوجات لا نرى رحلة تحوله من مستضعف إلى منتقم، بل نراه في ذروة قوته، مما يصعب عملية عودته مرة أخرى إلى قلوب من يرون أنفسهم فيه، يظهر رمضان في مسلسل أعاد محمد سامي مخرجًا ثانية بعد نجاح البرنس وفشل نسل الأغراب في عمل يشبه نسل الأغراب أكثر من الحكاية الانتقامية المحببة التي صاغها البرنس، بديكورات باذخة وحوارات مغالية وزوايا كاميرا مقعرة وواسعة، يظهر جعفر العمدة (محمد رمضان) كإله مسيطر على الرجال والنساء، سيد منطقة السيدة زينب، يأمر وينهى ويسعى للانتقام.

يمكن بسهولة الاستمتاع بجعفر العمدة بشكل ساخر أو جدي فهو عمل ضخم ميلودرامي يأخذ كل عناصره لأبعد حدودها، بجانب كون بطله كلي القدرة، مما يخلق فانتازيا ذكورية محببة بالطبع لكنها ليست ما يجعل شخصية ما بطلًا شعبيًّا بالمعنى التقليدي، في جعفر يبتعد رمضان عما جعله بطلًا محبوبًا بشكل واسع يطول إلى كل منطقة في مصر، وهو أن يكون مثل أي شخص آخر، أن يبدأ من اللاشيء حتى يحصل على كل شيء، أو يموت وهو يحاول.

توازي أدوار  رمضان حاليًّا رحلة صعوده الشخصي، فقد بدأ ممثلًا صغيرًا، بل منبوذًا في الوسط الفني، حتى أصبح أكبر نجومه، وهو الآن يظهر في جعفر العمدة كشخص ثري مستغل لسلطته لا يشبه من جعلوه بطلهم ولا يحاول ذلك، لا يرتدي الملابس الرثة التي تظهر جسده القوي في إطار الحركة ومعارك الشارع، بل يرتدي عباءة عمدة وعصا مذهبة، ويستعرض جسده في إطار التقرب عنوة من نسائه، وليس في إطار استعراض عضلاته للانتقام ممن ظلموه، لا يحارب من أجل حب امرأة، بل يبتز النساء بالأموال لكي يتزوجنه.

يكمن تراجع شخصية البطل الشعبي وتأثيره في الطبيعة القصدية التي تصنع بها الأعمال الموجهة للطبقات الشعبية، ومحاولات التكسب من نجاحات التجارب السابقة أو مما يظن صناع الأعمال أنه قريب من الناس، لا تأخذ الأعمال وقتها في بناء قاعدة جماهيرية بشكل طبيعي، بل تحاول بنية مسبقة أن تقحم  صور نجومها على الميكروباصات وجملها الحوارية على التكاتك والألسنة في الحوارات اليومية. ما جعل حبيشة في يوم من الأيام ما هو عليه هو اختيار الجماهير نفسها بأن يكون هذا الشاب هو بطلهم الدرامي، من يشجعونه ويستمتعون بمشاهدته، أصبحت الأعمال التي تحاول إعادة خلق ذلك النجاح هي من تختار للجمهور ما يقولونه، وتظن أن بطولة الإله الثري أو العبقري في مجال ما هو الفانتازيا الرجولية الشعبية، بينما الفانتازيا الأكثر واقعية هي أن يكون شخص شديد العادية، لكنه قادر لأسباب انتقامية ودوافع لها علاقة بتحقيق العدالة غير النظامية على أن يكون خارقًا للطبيعة.