أرست الثورة الإيرانية نموذجها الفريد، خلقت منذ اللحظة الأولى مؤسسات موازية لتلك التي كان الشاه يعتمد عليها، فبدلًا من الجيش المخلص للشاه كان الحرس الثوري التابع للإمام، وبدلًا من مؤسسة بهلوي المخولة من قبل الشاه لإنجاز مشاريع الثورة البيضاء كانت مؤسسة المستضعفين، لتمهيد طريق الثورة.

مؤسسات الثورة الاقتصادية سرعان ما تغولت على قطاعات ووزارات عريقة داخل بنية النظام الإيراني، ورثت عنها تراكم الثروة وامتازت عنها بتمويل مشروعات التوسع الإيراني خارج الحدود. نتطرق لهذه المؤسسات، نعرف موقعها من السلطة وتأثيرها على استقرار النظام.


المال طريق السيطرة

لم يغب عن الخميني أهمية تفتيت القاعدة الاجتماعية المرتبطة بالشاه. استبدلها بفئات جديدة تؤمن بقيم الثورة؛ حيث استولى على مؤسسات الشاه وثروات رجاله الهاربين للخارج، وأعاد توزيعها بما يخدم تلك القواعد الداعمة للجمهورية.بدأت استراتيجية الخميني من مؤسسة بهلوي، التي قُدرت ثروتها بما يزيد على 3 بلايين دولار. اختصت المؤسسة بتنفيذ مشاريع الثورة البيضاء التي أعلنها الشاه. قام الخميني بتغيير اسمها إلى مؤسسة المستضعفين، وأضاف إليها أملاك رجال الشاه الهاربين التي تقدر بالمليارات.استهدف منها تحقيق العدالة الاجتماعية التي حُرم منها الفقراء والفلاحون، إلا أن الحرب العراقية حوّلت مهمتها نحو دعم عوائل الشهداء والمصابين وذويهم بما قربهم من النظام الجديد. أسهمت الحرب في دخول المؤسسة تحت نفوذ الحرس الثوري دون ضجيج يُذكر. وبعد انتهائها واعتماد الجمهورية على الحرس في تحقيق الإعمار، تم تعيين الجنرال محسن رفيق دوست التابع للحرس رئيسًا للمؤسسة في 1989، ليتم دمجها صراحة ضمن أنشطة الحرس الخارجية، وبالفعل تم الاعتماد عليها في تمويل حزب الله اللبناني، والتغطية على أعمال استخباراتية خاصة بنشر التشيع في المنطقة العربية والأفريقية بصورة سرية. وساعدهم في ذلك بالتأكيد تبعية المؤسسة والحرس لمكتب المرشد مباشرة، أي أنهم خارج رقابة مؤسسات الدولة الأخرى. وهو الأمر الذي أثار حفيظة أحمدي نجاد في رئاسته الثانية، عندما اتهم الحرس بتهريب العملة والتجارة بالسلع بعيدًا عن أعين ورقابة الحكومة.تُكمل مؤسسة الشهيد مهام مؤسسة المستضعفين وتتداخل معها أحيانًا، إذ أشرفت الأولى على دعم عوائل الشهداء والمصابين، فضلًا عن تجنيد وتعبئة مزيد من الجنود لتعويض خسائر الأرواح أثناء الحرب العراقية. وكانت أحد أبرز الرافضين لإنهاء الحرب خشية فقدان نفوذها، الذي تم توسيعه لتستكمل جهود مؤسسة المستضعفين في نشر المراكز الثقافية والطبية في الخارج، لتعبئة المزيد من جنود الثورة الشيعية.

قائد الحرس الثوري «محمد علي الجعفري»

وثالث أهم مؤسسة في هذا الشأن هي مؤسسة جهاد البناء، يصفها البعض بأنها الأهم نظرًا لأن وظيفتها الأولى كانت ضم الفلاحين والفقراء لدولة الفقيه، ثم ما لبثت بعد الحرب أن تحولت وظيفتها لتهيئة البنية التحتية اللوجيستية من طرق وجسور لتمهيد الطريق أمام تقدم القوات العسكرية. وأخيرًا مؤسسة خاتم الأنبياء التي أسُست عام 1989، وهي واجهة الحرس الثوري اقتصاديًا وتُعرف بذراع البناء داخله. تمتلك حاليًا ما يزيد على ثمانمائة شركة تابعة لها. وتتنوع أنشطتها بين تلك الخاصة بالبنية التحتية والأهداف الاستراتيجية مثل صناعة السفن واستغلال الطاقة. تعرضت خاتم الأنبياء للعقوبات مباشرة، لتجفيف مصادر القوة المالية للحرس. إذ ينسب لها تمويل المشروع النووي الذي يدير ملفه الأخير.فازت بعقد قيمته 1.2 مليار دولار لبناء خط في مترو طهران. ودرة التاج كانت سيطرة خاتم الأنبياء على مشروع فارس العظيم، أكبر حقول الغاز في العالم، ليقوم بإعداد البنية التحتية، بعد انسحاب الشركات الكبرى.

اقرأ أيضًا:هل نجح الاقتصاد المقاوم كبديل في إيران؟

أصبح الحرس الثوري اليوم الركن الأول في الاقتصاد الإيراني بعد النفط، حيث يسيطر على ثلث الاقتصاد الإيراني، ويؤكد البعض أن النسبة تزيد على ذلك بكثير، إلا أنها تظل في مساحة التخمين. ساعدته العقوبات الأمريكية التي فرضت في التسعينيات، ثم العقوبات الدولية على خطط التسليح النووي، في اعتماد الدولة عليه. وبالتحديد بعد وصول الرئيس أحمدي نجاد. توسعت في عهد نجاد الأنشطة الاقتصادية للحرس حتى وصلت لذروتها. ولذلك ردت له الجميل في 2009 بإخماد انتفاضة الحركة الخضراء ضده. ناهيك عن مساندته – أي الحرس – لباقي مؤسسات الدولة التي تضررت من جراء العقوبات، مما جعلها تدخل في قطاعات اقتصادية بحتة كالسياحة وصناعة السيارات والاتصالات.انطلقت سياسات الخصخصة في 2005، ولم يكن من قوة قادرة على استيعاب الشركات المطروحة سوى الحرس الذي تمكن من السيطرة على قرابة 80% منها، بحجة الحيلولة بينها وبين اختراق الأجانب للسيطرة عليها. رغم أن الهدف كان دخول قطاعات جديدة من الشعب في معادلة الاقتصاد والاستثمار لعلاج أزمات البطالة ونسب الفقر المرتفعة. تقدر المبيعات السنوية للنشاطات التجارية للحرس الثوري بـ 10 – 12 مليار دولار حتى العام الماضي.لم تُكف شهية الحرس على الداخل الإيراني فتوسع في لبنان والعراق لبناء مشروعات كهرباء لربط الطاقة عندهما بكهرباء طهران. في سوريا، حصلت على ترخيص بتأسيس شركات اتصالات المحمول، بجانب السيطرة على حقول الفوسفات، وتعد سوريا إحدى أكبر دول العالم المنتجة والمصدرة للفوسفات. توقيع عقود خمسة آلاف هكتار من الأراضي للزراعة وألف هكتار لإنشاء مرافئ للنفط والغاز.

الحرس والاتفاق النووي من ينتصر على من؟

محمد علي الجعفري، إيران، الحرس الثوري الإيراني
محمد علي الجعفري، إيران، الحرس الثوري الإيراني
ترامب الانسحاب, الاتفاق النووي, انسحاب أمريكا من الاتفاق النووي, اتفاقية إيران
الرئيس الأمريكي دونالد ترامب أثناء إعلانه الانسحاب من الاتفاق، وسؤال إحدى الصحفيات له.

بعد شهر من دخول الاتفاق النووي حيز التطبيق وتحديدًا في فبراير/ شباط 2016، قام الحرس بتجربة إطلاق صواريخ باليستية. استفزت التجربة الرئيس روحاني نفسه، وقام بمهاجمة الحرس. فُهم من هذا الموقف سعي الحرس ضمنيًا إعطاء الضوء الأخضر لأمريكا للخروج من الاتفاق، خاصة أن قضية الصواريخ كانت إحدى أهم نقاط الخلاف بين طهران وواشنطن.يؤكد معارضو الاتفاق من بعض أبناء العم سام ودول الخليج وإسرائيل مساهمته في تقوية النفوذ الاستراتيجي للحرس. ساهم رفع العقوبات عن مؤسسات الحرس وشخصياته العسكرية في تعزيز حرية أعمالهم وتحركاتهم. زيادة قدرة الحرس في تمويل سياساته الإقليمية في المنطقة. فلماذا إذن رغب الحرس في إنهاء الاتفاق إذن؟

سيؤدي دخول الاستثمار الغربي للسوق إلى مزاحمة النفوذ الاقتصادي للحرس، وهو ما حدث بالفعل في 2017 بدخول العملاقة توتال الفرنسية لسوق الطاقة إذ سيطرت على 30% من حقل فارس الذي كان أحد امتدادات مشاريع الحرس. كما أن شروط الاتفاق النووي لإدماج طهران في الاقتصاد العالمي ستؤدي لا محالة لإعادة هيكلة النظام المالي والتجاري بما يخضع كافة المؤسسات لرقابة الحكومة محليًا وإشراف النظام المالي دوليًا. لذا كان الاتفاق النووي ورقة التيار الإصلاحي السحرية لتحقيق دولة القانون والمؤسسات الحداثية التي ستحقق قدر أكبر من الديمقراطية والشفافية. حاول روحاني طمأنة الحرس بزيادة ميزانّيتهم بنسبة 145%، لضمهم إليه وتهدئة مخاوفهم فيما يخص إمبراطوريتهم الاقتصادية.

اقرأ أيضًا:مستقبل إيران بعد انسحاب أميركا من الاتفاق النووي

لم تندفع الشركات الكبرى، ولم ترفع العقوبات بالصورة التي تخيلها صانع القرار الإيراني، ولم تظهر عوائد المليارات على المواطن الإيراني، وزاد الأمر سوءًا وصول ترامب للسلطة. وهي أمور أسهمت في تقوية الطرف الرافض للاتفاق.يعاني الاقتصاد من إشكاليات بنيوية مرتبطة بطبيعة هيكل النظام المؤسسي ومراكز قوته. كما أن الأزمات المتلاحقة من حرب وعقوبات وحصار أدت إلى انهيار العملة فضلًا عن ضعف البنية التحتية.حققت نظرية اقتصاد المقاومة التي طرحها خامنئي نتائج إيجابية عديدة. تقوم على تأصيل فكرة تعزيز القدرات المحلية لتحقيق الاكتفاء الذاتي ومواجهة الضغوط الخارجية. استفادت مؤسسات وشركات الحرس الثوري أيما استفادة. تمكنت من تحقيق المزيد من التوسع في التجارة والزراعة والصناعة. ومن المنتظر أن تزيد هذه المساحة بعد انسحاب واشنطن من الاتفاق. أعلنت شركة إيني الإيطالية أنها لن تجدد استثماراتها في إيران، وربما تنحو شركة توتال الفرنسية نحوها إذا لم تستطع الحصول على استثناء من العقوبات الأمريكية، ناهيك أن عدم الاستقرار الذي ربما ستشهده طهران سيدفعها للخروج غالبًا.