دوت صافرات الإنذار بقوة، تشق سكون تلك المنطقة التي لفّها الظلام والترقب، وهُرِعت قوات الأمن بمختَلَف تشكيلاتها من كل حدبٍ وصوب لمحاصرة المنطقة بالكامل. بدأت بعض الفرق المتخصصة في تمشيط المنطقة جيدًا بحثًا عن العناصر الخارجة عن النظام، من أجل القضاء عليها قبل تفاقم الاضطراب هنا وهناك، وخروج الأمور عن السيطرة.

أشارت فرق التمشيط إلى جُزءٍ بعينه، وأطلقت إشارة تحذير أن الخطر يكمن هناك. تضاعف التوتر عندما ظهرت القوات الخاصة المكلفة بعمليات القتل في مسرح الأحداث بعد أن بلغتها إشارة التحذير الخاصة للغاية، وبدأت في إطلاق مختلف أسلحتها القاتلة على ذلك المكان. أصبحت الساحة بأكملها مرتعًا للدمار والهلاك، وانتشرت الأدخنة والأتربة في الأجواء، وقضِيَ على معظم العناصر الغريبة. 

بعد قليل، بدأت فرق مختصة بتطويق كامل المنطقة المتضررة، وإزالة الركام والأنقاض حثيثًا، من أجل تهيئة الأجواء لإعادة بناء ما تلِف في الاشتباكات العنيفة التي وقعت. كذلك اهتمَّت فرق أخرى بتوثيق بعض آثار الخارجين عن النظام، وذلك ليسهل التعرف عليهم على الفور إذا ظهروا مجددًا، أو عاد أمثالهم لممارسة الأنشطة المريبة لاحقًا.

يبدو المشهد السابق مشهدًا مألوفًا في حياتنا المعاصرة، عندما تواجه قوات الأمن أو الجيش عصابة مسلحة خارجة عن القانون، أو فرقة مُسلَّحة متمردة تتحصن باستماتة داخل منطقة سكنية عادية لكي تتخفَّى بين سكانها بعيدًا عن الرقابة. لكن المشهد السابق -مع الكثير من التبسيط المُخلّ بعض الشيء- لا تدور أحداثه في الخارج، إنما هو مشهد رمزي تجريدي يعبر عما يحدث في الداخل، أو للدقة في أعماق أعماق الداخل، في أنسجة أجسامنا، عندما يترصَّد جهاز المناعة المتحفِّز دائمًا، لأي نشاطٍ تخريبيِِّ خارج عن نظام الجسم، كظهور بعض الخلايا السرطانية الخارجة عن السيطرة، أو تسلّل بعض الميكروبات ومسببِّات العدوى كالبكتيريا أو الفيروسات إلى خلايانا. 

أين يوجد جهاز المناعة؟

لو أردنا أن نكون أكثر دقة، لكان السؤال: أين لا يوجد جهاز المناعة؟ فهو يوجد في كل بقعة من أجسامنا تقريبًا، ويكاد لا يخلو ميلليمتر مكعب واحد من دمائنا منه. ومن أجزائه ما نراه بالعين في كل لحظة من يقظتنا، ومنها ما لا يراه إلا الميكروسكوب بالغ الدقة.

ولكي نفهم جهاز المناعة بشكلٍ جيد، يجب أن نفهم خصومَه الرئيسيين أولًأ، والذي صُمِّم لمواجهتهم، وهم الميكروبات الدقيقة التي تحاول على مدار الساعة منذ ميلاد المرء إلى وفاته وحتى بعدها، أن تخترقَ الجسم لكي تكمل دورة حياتها البيولوجية عبر مادته الحيوية.

الميكروبات، أو للدقة ما نعرفه منها حتى الآن، هي كائنات حية بالغة الدقة، لا تُرى بالعين المجردة، وأبرز أنواعها البكتيريا والفطريات والفيروسات. والميكروبات توجد في كل مكان من حولنا، ويوجد بعضها بالفعل داخل أجسامنا، والقليل من هؤلاء الأخيرين يقوم بوظائف نافعة لنا، كالبكتيريا المفيدة في الجهاز الهضمي والتي ترفع مناعته، وتساهم في امتصاص بعض المواد في طعامنا.

مقطع قصير يشرح باختصار أنواع خلايا المناعة الرئيسة

لكن لماذا تلك العداوة بين الميكروبات ومناعة أجسامنا؟ أو من جانب آخر، لمَ تريد تلك الكائنات المجهرية اختراق أجسامِنا؟ ببساطة من أجل الحفاظ على وجودها، والتكاثر للحفاظ على النسل، فهي تستخدم موارد خلايا الجسم، وإن أدى ذلك للإضرار ببنيتها ووظائفها، من أجل تصنيع البروتينات اللازمة لانقسام مادتها الوراثية، وتكاثرها، ولذا فهي لا تتحمل البقاء في العراء خارج حدود الأجسام الحية طويلًا.

وأكبر أعضاء جهاز المناعة هو الجلد الذي يغطى كامل السطح الخارجي لأجسامنا، ونظيره هو الأنسجة المخاطية التي تغطي الأسطح الداخلية لأجهزتنا التنفسية والهضمية، وهما يعتبران بمثابة الغلاف الذي يمنع دخول الأشياء الغريبة، ومنها معظم الميكروبات، إلى أعماق أجسامنا. لكن تنجح بعض تلك الميكروبات الدقيقة في اختراق خط الدفاع الأول هذا، مثلما يفعل فيروس كورونا المستجد مع الأنسجة المخاطية التنفسية، ومُلتحمة العين (التي تغلفها من الخارج وتبطن الجفون من الداخل).

يمتلك جهاز المناعة كذلك شبكة عسكرية تعرف بالجهاز الليمفاوي، والذي يتكون من العشرات من مجموعات الغدد الليمفاوية والتي تشبه القواعد العسكرية، وهي تتوزع في كافة أجزاء الجسم من الرأس والوجه بالأعلى إلى القدمين بالأسفل، ومن أشهرها الغدد الليمفاوية العنقية، وتحت الإبطية، والجار-أورطية (على جانبي الشريان الأورطي).

تتصل الغدد الليمفاوية مع بعضها، ومع أنسجة الجسم المختلفة عبر شبكة معقدة من الأوعية الليمفاوية، والتي لا تقل تعقيدًا عن الدورة الدموية الشريانية والوريدية، وهذه الأوعية الليمفاوية تصب في أجزاء معينة في الأوردة الدموية، وبذلك تتصل الدورتيْن الدموية والليمفاوية. تعسكر في الغدد الليمفاوية ملايين الخلايا الليمفاوية، وهي فصيل هام من كرات الدم البيضاء، تلعب دورًا بارزًا في عمليات جهاز المناعة. 

اقرأ: إعادة برمجة المناعة .. فتح جديد في الحرب على السرطان

ومن أهم المناطق المحسوبة أيضًا على جهاز المناعة، نخاع العظام، الموجود بالأساس في التجويف الداخلي للعظام المركزية، كالعمود الفقاري، والضلوع، والذي يُعتَبر مصنع خلايا الدم المختلفة، ومنها بالطبع خلايا المناعة، وكذلك يعتبر من أماكن تخزين تلك الخلايا، وأيضًا التخلص من نفايات المناعة كبقايا الخلايا التالفة.

كذلك تدخل مناطق في الكبد والطحال في نطاق جهاز المناعة، حيث يوجد بها بعض أنواع خلايا المناعة المتخصصة، وأيضًا تساهم في التخلص من نفايات المناعة كحال نخاع العظام (في الأجنة يكون للكبد وللطحال في تصنيع خلايا الدم، لكن تضمر تلك الوظيفة مع الوقت، وتقتصر المصانع على نخاع العظام). وهناك أيضًا الغدة الثيموسية الموجودة في الصدر لدى الأطفال، والتي تساهم في إنضاج الخلايا الليمفاوية من النوع ت (وهي تحمل اسمها T from Thymus).

وهناك أعضاء صغيرة أخرى تتبع جهاز المناعة، مثل اللوزتيْن واللحمية، وتجمعات payer في القولون، وهي تقوم بأدوار مهمة في حماية الجهاز الهضمي، الذي يعتبر من أبرز مداخل الميكروبات إلى الجسم.

كيف يعمل جهاز المناعة؟

لقد عرفت البشرية الكثير عن تركيب وآليات عمل مختلف أجزاء جهاز المناعة، ولكن يظل في اعتقادنا أن ما خفي من هذا البناء الهائل بالغ التعقيد بناءً ووظائفَ كان أعظم. وكلما زاد فهمنا لدقائق عمل جهاز المناعة، كلما أمكن إنقاذ آلاف الأرواح، وتطور فهمنا لأنفسنا وعالمنا.

في العناوين التالية سنلخص أبرز ما يتعلق بكيفية عمل جهاز المناعة على مدار الساعة منذ لحظة الميلاد، وحتى انطلاق صافرة نهاية العمر في أي وقت.

خلايا المناعة ووظائفها المختلفة

كرات الدم البيضاء بمختلف أنواعها هي عصب جهاز المناعة، وقوته الضاربة، وتجوب الدورتيْن الدموية والليمفاوية على مدار الساعة لاكتشاف أية اختراقات، وتنتقل بكامل عتادها إلى الأنسجة الداخلية عندما تصلها رسائل الإنذار الكيميائية والهرمونية التي تصدرها الخلايا المتضررة أو خلايا التدخل السريعة المناعية الموجودة في الأنسجة، في حالة وجود أية حالة طارئة كالإصابة ببعض مسببات العدوى. وتضم الكرات البيضاء ثلاثة أنواع رئيسة ..

الأول هو ما يعرف بالخلايا الصديدية neutrophils، وهي الأكثر عددًا، ويمكن تشبيهها بقوات المشاة في الجيوش. وهي تحارب البكتيريا بالأساس بأسلوب فدائي، حيث تهاجمها، وتبتلعها، لتقوم بإذابتها وتدميرها في أحشائها، لكنها تموت من جراء ذلك، ويتكون من جراء ذلك الصراع البيولوجي والكيميائي بين تلك الخلايا والبكتيريا، السائل الأصفر كريه الرائحة المعروف باسم الصديد، والذي يميز الإصابات البكتيرية، لاسيَّما المحلية، كالخراريج والدمامل.

أما النوع الثاني، فهو الخلايا الليمفاوية، والتي تقوم بدورٍ مركزيٍّ بارز في إدارة عمليات المناعة شديدة التخصص ضد كافة أنواع الميكروبات. وهي نوعان رئيسيان، خلايا ب، والتي تنتج بروتينات تعرف باسم الأجسام المضادة anti-bodies، وهي أنواع عديدة، ومنها ما يُنتَج بعد الإصابة بالعدوى بأيامٍ قليلة، وتسمى IgM، ومنها ما يظهر بعد مدة أطول، ويسمى IgG، والذي يعني ظهورها نجاح الجسم في قهر العدوى، وأنه أصبح يمتلك مناعة -مؤقتة أو دائمة- حسب كل حالة. والأجسام المضادة مسئولة بالأساس عن جهود المناعة في سوائل الجسم لاسيَّما الدم.

 وكل خلية ليمفاوية ب بعد نضجها، تنتج جسمًا مضادًّا متخصصًا، يستهدف مُستضادًا معينًا antigen والذي غالبًا ما يكون جزءًا من جسم الميكروب، أو الخلايا المريضة، يتفاعل معه الجسم المضاد، فيعطله، ثم يُتخلَّص من المركب الناتج عن التحامهما في أجزاء خاصة في الكبد أو الطحال أو نخاع العظام. إذن فالأجسام المضادة ضد فصيلة معينة من بكتيريا المكورات الرئوية، لو مر بجوارها ألف ألف نوعٍ آخر من الميكروبات، حتى لو فصائل أخرى من نفس العائلة البكتيرية، فلن تحرك ساكنًا، فهي لا تعرف إلا مُستضادَّات تلك الفصيلة المحددة. وتساهم خلايا ب أيضًا في عملية تنشيط وتحفيز النوع الثاني من الخلايا الليمفاوية، والمعروف بخلايا ت (والتي تقوم هي الأخرى بعد تنشيطها، بتنشيط المزيد من خلايا ب، فندخل في حلقة مفرغة إيجابية من التحفيز المتبادل لخلايا المناعة)

تعتبر الخلايا الليمفاوية ت في جهاز المناعة بمثابة الموسيقار في الفرقة الموسيقية. فمنها خلايا ت المُساعدة التي تتولى تحفيز خطواتٍ حيوية من رد الفعل المناعي ضد الميكروبات والأجسام الطارئة، وهناك خلايا ت المُثبّطة، التي توازن الأمور قليلًا، فتهدئ من غلو رد الفعل المناعي، فلا يخرج عن السيطرة. وهناك خلايا ت القاتلة، والتي تمثل القوات الخاصة لجهاز المناعة، وهي قادرة على تدمير الخلايا المريضة والغريبة، ولذا تقوم بدورٍ بارز في مواجهة الفيروسات مثل كورونا المستجد.

 تختبئ الفيروسات داخل الخلايا لكي تستغل مواردها ومادتها الوراثية في التكاثر، فيصعب على معظم خلايا المناعة مواجهتها، لكن بمقدور خلايا ت أن تقوم بتلك المهمة، بمجرد أن تتعرف على الخلايا المصابة عبر بعض أجزاء من جسم الفيروس يتركها على سطح الخلية قبل عبور مادته الوراثية إلى الداخل، أو من خلايا نجاح خلايا الجسم في إخراج جزء من جسم الفيروس على سطحها (ويكأنه رسالة تنبيه واستغاثة إلى جهاز المناعة). ولذا تسمى الخلايا اللمفاوية أحيانا بخلايا المناعة الخلوية.

أما النوع الثالث من الكرات البيضاء، فهو المُلتهمات العظمى، وهي تمثل أقل من 10% منها. ويوجد بعضها في الدم، وبعضها في أنسجة الجسم المختلفة. وهي كما يخبرنا الاسم، قادرة على ابتلاع والتهام الميكروبات، وتستطيع الخلية الواحد ابتلاع العشرات من الميكروبات قبل أن تموت. وهي تقوم كذلك بالتخلص من بقايا الخلايا التالفة والمريضة. بالإضافة لتلك الوظائف القتالية، فإنها تقوم كذلك بعرض المستضادات التي ابتلعتها على سطحها، وذلك لتلفت أنظار باقي خلايا المناعة لوجود هذا الميكروب في الجسم، وبالتالي تساهم في تحفيز رد الفعل المناعي.

مخابرات المناعة

أخطر وظائف جهاز المناعة هي التحري الجيد، لمعرفة ما هو جزء من الجسم نفسه، وما هو غريب عليه يجب مواجهته والقضاء عليه. تحتوي كافة خلايا الجسم الطبيعية على سطحها مركبات معينة، تقوم بدور بطاقة الهوية، وهي متفردة لكل إنسان (باستثناء التوائم المتماثلة)، ووجودها يعني لدوريات خلايا المناعة التي تجوب الدم وأنسجة الجسم، أن تلك خلايا صديقة نمر عليها مرور الكرام دون اشتباك معها.

أما الميكروبات، والخلايا السرطانية، والخلايا التي اخترقتها الفيروسات وبعض أنواع البكتيريا، فإن المركبات على سطحها تختلف عن المركبات المعبرة عن خلايا الجسم الطبيعية، فإذا التقطتها الخلايا المناعية، فإنها تطلق صفارات الإنذار، وتبدأ في تحفيز رد الفعل المناعي للفتك بها. أيضًا يتعرف جهاز المناعة على الخلايا التالفة والأنسجة الميتة، ويبدأ في التخلص منها.

كذلك يمتلك جهاز المناعة سجلًا بمعظم ما سبق أن أصاب الجسم من ميكروبات وأمراض، هو عبارة عن خلايا الذاكرة memory cells، وهي إحدى فصائل الخلايا الليمفاوية، ويوجد خلايا ذاكرة مخصصة لكل فصيل من الميكروبات أصاب الجسم سابقًا، وهذا يجعل المواجهة الثانية مع نفس الميكروب أسهل كثيرًا، وغالبا ما ينجح جهاز المناعة في الفتك بالميكروبات في المعركة الثانية قبل أن تظهر على الجسم أية أعراض مرضية.

الحرب المفتوحة … رد الفعل المناعي

تخيل أن عدة بلايين من الميكروبات (بكتيريا أو فيروسات …) نجحت في الوصول إلى المجرى التنفسي لنا، ثم نفذت بين طبقات الخلايا الطلائية التي تبطن الأنسجة المخاطية التي تغلف مجارينا التنفسية من الداخل، وكذلك أفلت عدد ليس بالقليل منهم من معركة سريعة مع أول فصائل حرس حدود المناعة في الأنسجة المخاطية، وهو أجسام مضادة تسمى IgA متخصصة في الدفاع عن الجهازين الهضمي والتنفسي بالأساس.

الآن وقد نجحت بعض الميكروبات في اختراق الدروع الأمامية للجسم، ووصلت إلى مجرى الدم، وبعض أنسجة الجسم، فقد أصبح الصدام العسكري وشيكًا، وستدور رحاه بمجرد أن تتعرف خلايا المناعة على وجود تلك الجسيمات الغريبة بداخل الجسم.

ستقع تلك الميكروبات أولًا تحت نيران قوات المناعة غير المتخصصة التي تجوب الجسم في دورياتٍ مناعية على مدار الساعة، وأشهرها القاتلات الطبيعية NK Cells or natural killers وهي فصيل من كرات الدم البيضاء الليمفاوية، والتي تفرز موادًا خاصة، تُحدِث ثغرات في الجدار الخلوي للميكروبات وللخلايا المصابة، تمر عبرها مواد أخرى تفرزها ذات الخلايا، تحفز عملية الهلاك الذاتي apoptosis. وهناك بعض الخلايا الأخرى القادرة على ابتلاع تلك الميكروبات والقضاء عليها مثل الخلايا المُلتهمة phagocytes

الخلايا السابقة يمكن اعتبارها بلغة العسكرية الحديثة، القوات شبه النظامية أو الميليشيات المساندة، فإذا نجحت في القضاء على المخترِقين كان بها، وإن لم تنجح يأتي دور قوات المناعة الرئيسية الأكثر تخصصًا وكفاءة، بعد أن تتحفز بمستضادات الميكروب الذي اخترق الجسم.

كما ذكرنا، تبدأ خلايا ب اللميفاوية في النضوج بشكل متخصص، لتنتج أجسامًا مضادة خاصة بهذا المستضاد بعينه، تقوم بالتفاعل معه، فتسهل عملية التخلص منه عبر الخلايا الملتهمة. وكذلك تحفز خلايا ت المساعدة، والتي تتولى تحفيز المزيد من خلايا ب، وأيضًا خلايا ت القاتلة، والتي تتولى بالأخص تدمير خلايا الجسم التي تسللت بداخلها الميكروبات، لاسيَّما الفيروسات. وتحدث عمليات التحفيز المتبادل بين خلايا المناعة من خلال رسل كيميائية هي السيتوكينات.

رد الفعل المناعي الشديد .. عندما يصبح الدواء أخطر من الداء، كوفيد-19 نموذجًا

نعرف جميعًا أن الشيء إذا زاد عن حدِّه انقلب إلى ضدِّه. تنطبق تلك المقولة أيضًا على ردة فعل أجهزة المناعة ضد بعض الميكروبات، في بعض الظروف الخاصة، التي تخرج فيها عن الحد. وهذه من أبرز النظريات الرائجة في تفسير الضرر الشديد الذي يسببه مرض كوفيد-١٩ سبب الجائحة العالمية الحالية ٢٠١٩-٢٠٢٠م.

عندما يصيب فيروس كورونا المستجد جسم أحد المرضى من أصحاب المناعة غير القوية، فإنه سريعًا ما يتمكن من غزو العديد من خلايا الجسم، لاسيَّما الرئتين، ويسبب تلف العديد منها بعد أن يستغلها في التكاثر. تسبب المواد الناجمة عن تكسير الخلايا -والتي يمكن اعتبارها ركامًا وأطلال تلك الخلايا- استثارة كبيرة لخلايا المناعة، لاسيََما المُلتَهِمات الكبرى macrophage، والتي تعمل أيضًا كحاويات قمامة، تقوم بجمع كل ذلك الركام، فتتوافد بكثافة إلى مكان الإصابة.

تطلق خلايا المناعة المُستثارة تلك العديد من المواد المسببة للالتهاب، مما يسبب التهابًا عامًا شديدًا بالرئتيْن، يفسد عملهما، ويصاب المريض بفشلٍ تنفسي حاد. كذلك يستثير الفيروس/الميكروب جهاز مناعة الجسم بشكل كبير، فتطلق خلايا المناعة أسلحتها بكثافة زائدة عن الحد المطلوب، فتتضرَّر الكثير من الأنسجة السليمة مع الأنسجة المصابة، وتفرز خلايا المناعة كميات كبيرة من رسل التحفيز الكيميائية، وهو ما يُعرَف بعاصفة السايتوكينات cytokine storm، لتجلب أعدادًا أكبر من خلايا المناعة إلى الأنسجة. وقد اعتُبِرَت الظاهرة السابقة من أهم أسباب الوفاة في الحالات الحرجة من المصابين بكوفيد-19، حيث تسبب ضررًا جسيمًا بالرئتين، والعديد من الأنسجة الحيوية الأخرى.

ولذا، فالتوصيات الطبية حتى الآن تسمح باستخدام جرعات محسوبة من مُثبَِطات المناعة، لتهدئة رد الفعل المناعي الشديد في الحالات الخطيرة من إصابات كوفيد-19، مثل الكورتيزون، وبعض مضادات السيتوكينات مثل Tocolizumab. بل وجُرِّبَ في الصين حقن بعض أنواع الخلايا الجذعية التي عند نضجها تقوم بوظائف مضادة للالتهاب، لكنه ما يزال حلًّا تجريبيًا غيرَ موثوقٍ في مدى نجاعته.

وإحدى آليات العمل المحتملة لدواء الكلوروكين -عقار لعلاج الملاريا ومضاد للالتهاب-  الذي كثُر الحديث عنه كدواء واعد لعلاج كوفيد-19، هو المساهمة في تهدئة رد فعل المناعة المُبالَغ فيه ضد كوفيد-19.

أمراض المناعة الذاتية .. عندما تنقلب مناعتنا على أجسامنا

بعد أن أنهينا جولتنا عن تركيب المناعة، لابد وأن نشير إلى مجموعة من أشد الاضطرابات المناعية المرضية خطرًا، والتي تضرب بعض أجهزة الجسم الحيوية كالكلى والقلب والرئتيْن والمخ وحتى المفاصل في مقتل، وهي أمراض المناعة الذاتية، ومن أشهرها الروماتويد، والذئبة الحمراء.

اقرأ: قصة الأمراض المناعية .. من التوحش إلى الغياب.

تُعتَبر من أشد اضطرابات المناعة مأساوية، حيث تأتي الطعنة الغادرة من حيث لا تحتسب أجسامنا. لأسبابٍ نعرف بعضها، ولا نعرف أكثرها، تختل خلايا المناعة، أو بعضها، وتبدأ في استهداف العديد من أنسجة الجسم كأنها أهداف معادية، مما يسبب التهابات شديدة، وأضرارًا جسيمة في الوظائف الحيوية. وتعجز أجسامنا عن التعامل ذاتيا مع هذا الوضع الخطير المستجد، إذ من يُصلحُ الملح إذا الملح فسد؟ كما يذكر الشاعر العربي.

اقرأ: عن الأمراض المناعية … لماذا يقوم جهاز المناعة بمهاجمتنا؟

من أجل علاجها، تضع تلك الأمراضُ الأطباءَ أمام معضلة تتمثل في خياريْن، أحلاهما شديدة المرارة …

الأول هو التعامل مع الأعراض والمضاعفات دون مواجهة أصل المرض. فمثلا، حدث تلف في المفاصل، يُعالج المريض بالمسكنات والعلاج الطبيعي لتحسين وظائف المفاصل قدر الإمكان. تدهورت الأمور إلى فشل كلوي، إذن نقوم بالغسيل الكلوي. أصيب المريض بأنيميا شديدة نتيجة استهداف مصانع الدم في نخاع العظام، ننقل له بعض أكياس الدم. بالطبع لا يصلح هذا الخيار بمفرده، فهو انتحار بطيء لا أكثر. إذن ننتقل إلى الخيار الثاني.

عند تطبيق هذا الخيار، لا يكتفي الأطباء بالتعامل مع الأعراض والمضاعفات كما في الخيار الأول، إنما يهاجمون جذر المشكلة من خلال بعض مجموعات الأدوية التي لا يحبونها على الإطلاق، وعلى رأسها الكورتيزونات، ومثبطات المناعة المختلفة، وذلك لكبح جماح جهاز المناعة، ولكن للأسف الشديد، تستهدف تلك العقاقير وظائف المناعة جميعًا، خيرَها وشرّها، لاسيّما في الأسابيع الأولى عندما تُعطى بجرعات كبيرة للسيطرة السريعة على نوبات تفاقم المرض.

اقرأ: الكورتيزون: المفيد جدًا، والضار جدًا.

وهكذا يصبح الجسم معرضًا لغزو الميكروبات المختلفة نتيجة انكسار المناعة من جانب، ومعرضًا لفشل تلك العقاقير في السيطرة طويلة الأمد على تقدم أمراض المناعة الذاتية، خاصة وأن الآثار الجانبية لمثبطات المناعة تضطر الأطباء عاجلًا أو آجلًا إلى التقليل التدريجي للجرعة إلى أقل قدرٍ ممكن يحافظ على الحد الأدنى من السيطرة على المرض، دون القضاء المبرم على ما تبقى من وظائف المناعة المفيدة.