إن التغيرات التي مر بها المجتمع الفلسطيني انعكست على واقعه وقامت بتشكيل بناء مجتمعي متفاوت بين كل منطقة وأخرى، كما ظهرت هويات متباينة بالإجبار القسري وليس بالاختيار الطوعي، وذلك بفعل الاحتلال وقرارات القيادة الفلسطينية، كما خلقت تلك التغيرات آراء متناحرة قد تجدها في دول العالم الأخرى ولكنها في فلسطين ليست كمثيلاتها، فالآراء المتخاصمة في الدول الأخرى غالباً ما تتبع لفكرة جامعة بشكل أو بآخر، ولكن في فلسطين يتبع الشخص حزباً أو منطقةً أو فكراً أو عشيرةً دون العودة إلى الحاضنة الأم «الدولة أو الهوية الجامعة»، ذلك الكيان الذي ينظم المجتمع ويجعله متماسكاً ويعطيه الهوية الثقافية والسياسية والاقتصادية.

ولمعرفة كيف أدى غياب المؤسسة الجامعة للفلسطينيين -بفعل الاحتلال وأخطاء القيادة الفلسطينية- إلى تشكيل المجتمع الفلسطيني بشكله الحالي إليك الآتي:

التغيرات السياسية السريعة والانقطاعات التاريخية

ما من شك أن أكثر الانقطاعات حتماً، هي تلك القطيعات التي ينجزها تحول نظري ما، عندما يؤسس علماً بفصله عن أيديولوجية ماضيه، ويحكم على ذلك بأنه ماضٍ أيديولوجي.
ميشيل فوكو – من كتاب «حفريات المعرفة». (1)

يقول مشيل فوكو في كتابه «حفريات المعرفة» وتحديداً عن شرحه لمفهوم «المرحلة التاريخية»، إن المرحة التاريخية تنتهي بانتهاء تداول خطاب معين، حيث يحصل هنا الانقطاع التاريخي.

ظلت منظمة التحرير الفلسطينية الممثل الوحيد لشعب الفلسطيني وخاصة في تشكيل الهوية الفلسطينية وعلى ساحة النضال والتحرر وفي المحافل الدولية، إلى أن قامت الانتفاضة الأولى حيث ظهرت حركتا حماس والجهاد الإسلامي لتتقاسم الساحة مع فصائل منظمة التحرير، ولكن هذا لم يكن السبب الوحيد لتراجع منظمة التحرير، فقبول منظمة التحرير إقامة دولة على حدود 1967 أدى إلى خسارة جزء من سكان وجغرافيا فلسطين التاريخية في الواقع (وذلك بعيداً عن الواقع السياسي)، كما أدى تغير خطاب المنظمة إلى انقطاع مرحلةٍ تاريخية وبداية أخرى، وخاصة في نظرتها للاحتلال ومن يتعامل معه، فبعدما كانت تحصره ضمن ثنائية «العميل والوطني»، وكانت ترى أن الاحتلال هو الاحتلال ولا شرعية لوجوده على الأرض، إلا أنها بعد اتفاقية أوسلو 1994 أصبحت تطلق على الاحتلال «الطرف الآخر» أو «الغير» أو حتى «الشركاء»، وهذه الخطوات التي اتخذتها منظمة التحرير أدت إلى تغيير سياسي جذري وسريع وإلى انقطاع سياسي.

ولا ننسى أن المنظمة عادت إلى خطابها الأول -الذي تأسست عليه- وذلك في خضم الانتفاضة الثانية عام 2000، ولكن سرعان ما عادت السلطة الفلسطينية إلى خطاب أوسلو بعد وفاة الرئيس الفلسطيني ياسر عرفات.

إن شرذمة المجتمع التي فرضتها ثنائيات القوى الفاعلة الفلسطينية أدت إلى خلق فئات مجتمعية مختلفة النسيج ومختلفة الولاءات والانتماءات وأدى إلى خلق حالة لا معيارية، فمنذ اختراق معيار «الحلال والحرام» للقضية الفلسطينية خلال الانتفاضة الأولى محلياً، وفي زمن الصحوة عربياً وإسلامياً والذي ظهرت فيه حركة حماس، ثم اُستبدلت ثنائية الحلال والحرام بثنائية «العميل والوطني»، حتى إن هذه الثنائية انضوت تحت ثنائية الحلال والحرام، والتي أصبحت تطلق أحكاماً قيمية وأخلاقية تحمل طابعاً دينياً مقدساً.

كل هذا حدث في ظل تراجع منظمة التحرير، بل فساد بعض أجهزتها، وهذا لعدة أسباب منها: احتكار مفهوم الوطنية، وتركز السلطة والقوة بيدها، ودخولها في حروب داخلية في الأردن ولبنان، ولكن الفرق بين حركة فتح وحركة حماس أن حركة فتح رغم سيطرتها تركت الحكم الأخلاقي والقيمي إلى ما هو سائد ومتعارف عليه، وهذا الانقسام أدى فيما بعد إلى انقسام على أرض الواقع والذي عُرف فيما بعد بالانقسام الفلسطيني بين غزة والضفة.

وفي ظل هذا الانقسام حكمت ثنائية الحلال والحرام (ذات البعد ديني) وثنائية العميل والوطني (ذات البعد المقاوم) قطاع غزة، أما في الضفة فقد ظهرت ثنائية «التخلف والتقدم»، والتي تتركز رؤيتها على مقارنة الوضع الفلسطيني بوضع الدول المتقدمة والغربية في إطار العولمة، وقد ظهرت هذه الثائية في رام الله مع ظهور المؤسسات الأجنبية والأهلية فيها، وهذا إلى جانب ثنائية «العيب وما هو سائد»، حيث يكون الحكم فيها إلى العادات وتقاليد والعشائر، والتي قد تستخدم الحلال والحرام أيضاً، كما برزت ثنائية الحزبية «مع الحزب أو ضده»، أما ثنائية العميل والوطني فلم تعد بهذه القوة في الضفة، وذلك بسبب تخلي القوة الفاعلة في الضفة (السلطة الفلسطينية) عن هذه الثنائية مقابل الحكم  الذاتي في الضفة وقطاع غزة في اتفاقية أوسلو 1994 أو مقابل التنمية الاقتصادية. (2)

التغير في المجال العام

المجال العام حسب يورغن هبرماس:

نعني به قبل كل شيء، عالم حياتنا الاجتماعية الذي يمكن من خلاله تشكيل شيء قريب من الرأي العام، وإمكانية الدخول فيه مكفولة لجميع المواطنين، حيث ينشأ جزء من المجال العام في كل محادثة يتجمع فيها أفراد معينون لتشكيل هيئة عامة، وهم لا يتصرفون مثل رجال الأعمال أو المهنيين الذين يتعاملون مع الشئون الخاصة، أو كأعضاء في نظام دستوري يخضع للقيود القانونية التي تفرضها بيروقراطية الدولة؛ ولكن يتصرف المواطنون كهيئة عامة حيث يتناقشون دون قيود، أي مع ضمان حرية التجمع وحرية التعبير عن آرائهم – حول الأمور ذات الاهتمام العام مع إمكانية نشرها. وفي الهيئة العامة الكبرى، يتطلب هذا النوع من التواصل وسائل محددة لـنقل المعلومات والتأثير على أولئك الذين يتلقونه.

ظل المجال العام الفلسطيني يكمن في كيفية مواجهة الاحتلال وكيفية تحرير الأرض أو التعايش مع الواقع الموجود بكل السبل، إلى أن وُقِّعت اتفاقية أوسلو وتحول المجال العام الفلسطيني إلى كيفية إدارة الأجهزة البيروقراطية لـ «الدولة» الناشئة، إلى أن تهدمت البنية التحتية لهذه الأجهزة في الانتفاضة الثانية، ثم عاد المجال العام في ظل السياسات الانفتاح الاقتصادي التي اتخذها سلام فياض رئيس الوزراء الفلسطيني منذ عام  ليتحول المجال العام الفلسطيني في الضفة بعدها إلى السوق وكيفية تنمية الاقتصاد في ظل الواقع المعيش تحت الاحتلال.

لكن هذه السياسة خلقت إشكاليات عدة منها: إغراق المواطن الفلسطيني في ديون، وربط النشاط الاقتصادي بالبنوك، إضافة إلى تغير بنى النشاط الاقتصادي، وذلك بتحويله من اقتصاد إنتاجي يعتمد على الزراعة أو خدمي يعتمد على اليد العاملة إلى خدمي مكتبي. كما تعززت السياسة التنموية المناطقية في الضفة وذلك لوجود مدن لديها معايير وأخلاق محددة لشكل السوق، ومن الأمثلة على ذلك مدينة الخليل، حيث كانت مركزاً تجارياً قبل طرح سياسات التنمية في عهد فياض، وهذا أدى إلى تباين في شكل السوق وعزَّز المناطقية، حيث تحتفظ كل مدينة في الضفة بشكل معين، فرام الله تعلب دور المركز لوجود مؤسسات سلطة فيها تختلف عن المدن الأخرى التي تلعب دور الأطراف مثل نابلس والخليل وغيرها، وحتى من الممكن أن نشهد حالة الاغتراب داخل المدينة نفسها؛ فسوق رام الله الشعبي «الحسبة» يختلف عن نماذج الشركات المعولمة الموجودة في رام الله.

أما المجال العام في غزة، فقد يبدو للوهلة الأولى أنه يكمن في كيفية التحرر من الاحتلال، ولكن الحقيقة أنه لا يوجد مجال عام حقيقي في غزة أو أي متنفس لها بسب الحصار المفروض عليها من قبل الاحتلال، وحتى المقاومة أصبحت مُحتكَرة من قبل حركة حماس مع هامش للكتائب المسلحة للفصائل الأخرى.

البنى الاجتماعية غير المتماثلة

إن المكان الذي يعيش فيه الفلسطيني يفرض عليه نمطاً للعيش ولنظرة الآخر له، وذلك لاختلاف البنى الاجتماعية والمعمارية والطبقية، وهناك ثلاثة تقسيمات أساسية في فلسطين لكل منها وضعه الخاص:

الأولى هي الأراضي المحتلة منذ 1948 وتخضع للاحتلال الإسرائيلي، والثانية هي الأراضي التي اُحتلت عام 1967 وهي الضفة الغربية وقطاع غزة وهما منفصلتان عن بعضهما البعض بفعل الاحتلال جغرافياً وبسبب الانقسام بين حركتي فتح وحماس سياسياً، وداخل هذه التقسيمة هناك تقسيمات أخرى في المناطق الفلسطينية، وتتعدد هذه التقسيمات من المدن التي تختلف عن القرى وعن مخيمات اللاجئين منذ 1948.

أمَّا الثالثة فهي البنى التي ظهرت بعد إنشاء جدار الفصل العنصري وتقسيمات ألف وباء وجيم في الضفة، فعلى غرار المدن والقرى والمخيمات ظهرت بنى جديدة ومنها منطقة ما وراء الجدار لحاملي الهوية الزرقاء (كفر عقب – القدس)، وتمتاز هذه المنطقة بالأبراج العالية والاكتظاظ السكاني والتخطيط العشوائي، وقد لجأ لها سكان القدس لرخص عقاراتها، وذلك في مقابل مناطق القدس التابعة للاحتلال بشكل مباشر من ناحية الخدمات والتنظيم. (3)

مناطق «الفلتان الأمني»

هي المناطق غير التابعة لأي جهة سواء الاحتلال أو السلطة الفلسطينية وذلك لعدة أسباب منها تقسيمات اتفاقية أوسلو المجحفة وجدار الفصل العنصري الذي عزل هذه المناطق، ومن الأمثلة على هذه المناطق: رام الله، والمنطقة الجنوبية في مدينة الخليل (الحارة التحتا).

ليس الجدار وأوسلو وحدهما هم ما ساهما في بناء تجمعات متباينة، فالبرجوازية الفلسطينية بنت تجمعات سكنية تتخلف عن التجمعات السكنية الأخرى، وتمتاز تلك التجمعات بتنظيم وتنميط في شكل البناء وتوفر كامل الخدمات داخل التجمع السكاني من تسوق وخدمات وترفيه، وتقتصر تلك المباني التي بُنيت بهدف الربح على الطبقات الثرية والوسطى العليا، ومن هذه التجمعات مدينة روابى وضاحية الريحان والغدير.

مقالات الرأي والتدوينات لا تعبر بالضرورة عن وجهة نظر هيئة التحرير.

المراجع
  1. ميشيل فوكو، “حفريات المعرفة”، ترجمة: سالم يفوت، بيروت، المركز الثقافي العربي، 1987، ص7.
  2. مجدي المالكي وحسن لدادوة، “تحولات المجتمع الفلسطيني منذ سنة 1948: جدلية الفقدان وتحديات البقاء”، بيروت، مؤسسة الدراسات الفلسطينية، 2018.
  3. أنس عبد الرحمن، “القضية الفلسطينية بين ميثاقين: الميثاق الوطني الفلسطيني وميثاق حركة المقاومة الإسلامية (حماس)”، الكويت، مكتبة دار البيان، 1989، ص29.