ربما لا يخفى على أي متابع ولو بقدر قليل أن موسيقى «الراب» بات نوع الموسيقى الأكثر رواجًا في الآونة الأخيرة بين الشباب، ولو أن الراب ليس بجديد على المجتمع المصري، ولكن لم يكن بتلك الشهرة أو الرواج من قبل. 

ظهر الراب في مصر لأول مرة خلال منتصف العقد قبل الماضي تقريبًا، ولم يكن يحقق أي انتشار يُذكر سوى بين مجموعات صغيرة من المراهقين والشباب المنتمين للطبقة الوسطى أو أعلاها. ثم بدأ يتطور بشكل أوسع مع صعود “أحمد مكي” تحديدًا والذي استطاع توسيع دائرة انتشار الراب، إلا أن نوعية الراب التي كان يقدمها مكي تختلف كثيرًا عن النوعية التي نراها الآن، حيث اعتمدت على قصص من ثقافة المجتمع المصري التقليدية، والتي لا تخلو بالطبع من المواعظ الأخلاقية التقليدية أيضًا.

وعلى العكس من ذلك تمامًا، وبأسلوب وبكلمات وبمعانٍ ربما تكون على النقيض من الأسلوب القديم للراب المصري، استطاع الراب من خلال «الرابرز» الذين ظهروا في السنوات القليلة الماضية أن يصبح الموسيقى التي دائمًا ما تتصدر قوائم الأكثر استماعًا فور صدورها، وهو أمر ربما يكون جديدًا على المجتمع المصري. فما الذي دفع بتطور الراب وزيادة شعبيته؟ وما الذي يمكن استنتاجه من ذلك الأمر؟

الديس: حرب الجميع ضد الجميع

عايشين في غابة فلازم أكون مفترس.
أبو الأنوار

لمن لا يمتلك خلفية كافية عن الأمر، فما يُعرف “بالديس تراك” هو مصطلح يعود أصله للكلمة الإنجليزية «disrespecting» أي عدم الاحترام. وهو أحد أنماط الغناء في الراب، إذ إنه عبارة عن أغنية يقوم فيها أحد المُغنين بالهجوم على مغنٍّ آخر والحط من شأنه وربما سبّه، ولكن بشكل غير مباشر.

يعد «الديس تراك» هو أكثر أنماط الراب رواجًا مؤخرًا، ولكن هل يعد ذلك مصادفة؟ أو مجرد تفضيل لنوع جديد من الموسيقى استطاع أن يلفت أنظار الجماهير؟ الإجابة هي لا.

إن الراب بوصفه أحد أشكال الفنون يعد انعكاسًا صريحًا للمجتمع الذي ينشأ ويحقق رواجًا به، فقد اعتبر الفيلسوف الألماني «هيجل» أنه لا يمكن النظر للفن بمعزل عن تضميناته الثقافية والتي تُعبّر عن الواقع الاجتماعي والتاريخي. وبالرغم من عدم تطابق واقع المجتمع الإنجليزي قديمًا الذي دفع «توماس هوبز» لوصفه بحرب الجميع ضد الجميع مع الواقع الذي نعيشه في حاضرنا، فإن تعبير هوبز لا يزال يحمل الوجاهة الكافية لإعادة استخدامه اليوم.

يشرح كتاب «فخ العولمة» سعي النظام النيوليرالي إلى تمكين 20% من سكان الكوكب من كافة الموارد والثروات على الأرض، بينما يخرج 80% من المنافسة أساسًا ليظلّوا في الطبقة التي لا يمكنها الحفاظ على حياتها إلا من خلال الاستمرار في العمل، وبزيادة السكان بمرور الوقت أصبح يتوجّب على المنظومة الاقتصادية أن ترفع معايير القبول في الوظائف وبالتالي معايير النجاح حتى تستطيع أن تستمر في العمل بكفاءة دون الحاجة لإنفاق المزيد من الأموال على عمالة لا حاجة لها. هذا الأمر الذي خلق صراعًا محتدمًا بين الطبقات الأدنى في سبيل الوصول للمعايير المطلوبة لتحقيق النجاح الوظيفي، ومن ثم النجاح بشكل عام بحسب آليات السوق، تلك العملية الأشبه بلعبة الكراسي الموسيقية الشهيرة.

لهذا فإن طبيعة المجتمع النيوليبرالي الذي بات يسيطر على أغلب أنحاء العالم تعد شكلًا من أشكال حرب الجميع ضد الجميع، حيث يتنافس الجميع داخل اقتصاد السوق، هذا التنافس الذي يبدأ من أكبر المؤسسات العالمية حتى أصغر موظف داخل المنظومة الذي يسعى بكل جهده حتى يضمن لنفسه عملًا يوفر له الحد الأدنى من ضروريات الحياة.. فيصبح الواقع أشبه بحرب يخوضها الجميع ضد الجميع، حرب لا نهاية لها، لأنها لا ينبغي لها أن تنتهي أصلًا.

فلوسنا سبعة كيلو: الإنسان هو ما يملك

كثيرًا ما نستمع في تراكات الراب إلى عبارات تحتفي بكم الأموال ومدى الثراء الذي يتمتع به الرابر، ونوعية السيارة الفارهة التي يقودها، والحياة البرجوازية المترفة التي يعيشها. وكأن كل ما يهم في الحياة، وأقصى قدر من النجاح يمكن تحقيقه، هو فقط ما تملكه من أموال. ولكن ألا يُعد ذلك التصوّر صحيحًا في ظل طبيعة الواقع الذي نعيشه بغض النظر عن الشعارات والجمل الرنانة التي لا تُسمن ولا تُغني من جوع؟

ربما تكون إجابة السؤال السابق هي نعم، ولكن تلك النقطة ليست هي ما يهمنا الآن. ما نحن بصدده هو التغيير الذي طرأ على ثقافة المجتمع من الجانب التعبيري وليس الاعتقادي، فلطالما بحث الناس عن الحياة المترفة والتي لا يمكن تحقيقها إلا من خلال السعي نحو الثراء، إلا أن هذا السعي وما يتضمنه من مقولات واعتقادات لم يكن التعبير عنه أمرًا متداولًا بسهولة. 

وهذا يحيلنا إلى النظر في تغيُّر طبيعة المنظومة الأخلاقية للمجتمع، والتي لم تعد ترى في الاحتفاء بالثراء ومقوماته مظهرًا من مظاهر سوء الأدب وقلة الأخلاق، حتى وإن كان الأمر برمّته ليس إلا تظاهرًا بالثراء وليس ثراءً حقيقيًا.

هذا ما يفسّر لنا طبيعة الوضع الجديد الذي أصبح عليه المجتمع، حيث لم تعد هناك قيمة حقيقية للإنسان إلا من خلال ما يملك، ولم تعد المنظومة الأخلاقية القديمة المتعارف عليها لها حضور قوي في المجال العام، وهو ما يُعدّ انتصارًا جديدًا للواقع الاقتصادي الحديث الذي لم يستطع فرض قواعده الاقتصادية فحسب، بل استطاع فرض منظومته الأخلاقية أيضًا والتي تعمل في صالح استمرار المنظومة ككل.

مش بالحظوظ: هيمنة الأيديولوجيا

يفتتح “عفروتو” أغنية من أغنياته بترديد كلمات ربما لا ينتبه إليها الكثيرون أنها تعكس الأيديولوجيا التي تتبناها النيوليبرالية بشكل مباشر، والتي تنتج بالتالي الخطاب الذي ترعاه المنظومة وتروج له.

مش بالحظوظ، متقوليش الظروف
عفروتو

تتبنى النيوليبرالية خطابًا شديد الاختزال والسطحية، وتروج له إما بشكل مباشر أو غير مباشر، هذا الخطاب الذي يجسد الأساس النظري للمنظومة بشكل عام، أو ما يطلق عليه الأيديولوجيا.

حيث يحاول الخطاب النيوليبرالي دائمًا الترويج لفكرة واحدة وهي أن النجاح في الحياة العملية لا يأتي عن طريق المصادفة أو الحظ، بل يحدث عن طريق العمل الدؤوب والمستمر، كنتيجة للإيمان بأن ما تريد تحقيقه سيتحقق بالفعل إذا وضعت هدفك صوب عينيك وواصلت السير نحوه.

لا تعد تلك الفكرة خاطئة بالطبع، فالعمل والاجتهاد شرط أساسي من شروط النجاح، وبالتالي الثراء وفق آليات المنظومة، ولكن هنا تحديدًا تُمرر الخدعة، فالحقيقة المنقوصة أضلّ من الكذب. يتعمّد الخطاب النيوليبرالي التستّر على الجانب الآخر من الحقيقة، ألا وهو أنه ليس الاجتهاد هو الشرط الوحيد للثراء، بل هناك شرط آخر لا يعتمد إلا على الصدفة البحتة في أن يولد الإنسان ثريًا في الأساس، حيث تتوفر الحياة المترفة دون الحاجة لأي عناء يذكر، وهو ما يهدد استقرار قاعدة العدالة التي تدّعي المنظومة أنها ترتكز عليها.

ذلك الأمر الذي يبدو كبقعة سوداء تشوّه اللوحة الجميلة التي يحاول الخطاب النيوليبرالي رسمها، والتي تروّج لفكرة أن الجميع يحظون بما يستحقونه نتيجة مقدار جهدهم المبذول، إلا أن ذلك في الواقع غير صحيح.

يتشابه هذا الواقع مع القصة الشهيرة التي وردت في التراث الشعبي عن الحمار والجزرة المعلقة، حيث يجلس شخص فوق ظهر الحمار ويعلق أمام عيني الحمار جزرة مربوطة بخيط رفيع، ليدفع الحمار على مواصلة السير نحو الجزرة على أمل الوصول إليها في نهاية المطاف، إلا أن ذلك لن يتحقق أبدًا.

هكذا تسعى النيوليبرالية إلى دفع الناس على مواصلة السير والعمل على أمل تحقيق الثراء والوصول لحياة الترف كجائزة نهائية على سعيهم، ولكن لا تعد تلك الفكرة ضربًا من ضروب السراب فقط، بل أنها لا يجب أن تتحقق أصلًا. لأن المنظومة لا يمكنها أن تستمر إذا أصبح جميع البشر أثرياء، أو على الأقل الجزء الأكبر منهم، فآلية عمل المنظومة في الأساس تعتمد على استغلال الفارق بين الطبقات لتوليد فائض القيمة والذي هو مصدر الثراء.. أو كما عبّر توفيق الدقن بعبقريته المعهودة في فيلم الشيطان يعظ: 

هو جرى إيه للدنيا، كل الناس بقت فتوات! أومال مين إللي هينضرب؟

وكما يعتقد هيجل بأن الفنون التي تنتجها الشعوب وتستمتع بها يمكنها أن تُظهر واقع المجتمع أكثر بكثير مما يمكن أن يفعله كتاب أو دراسة، يعكس لنا الفن في أحد تمثُّلاته تغيُّرًا في الواقع الذي نعيشه ربما لم تكتمل أبعاده بعد، ولكن يكفي أن نُشير إلى إرهاصات هذا التغيُّر الذي تجلى من خلال الفن. أما عن المستقبل الذي ننتظره في ظل هذا التغيُّر الملموس فهذا ما لا يُمكن التنبؤ به أبدًا، لأنه كما يقول هيجل أيضًا: «بومة مينيرفا لا تبدأ في التحليق إلا بعد هبوط الليل».