تخضع شخصيات الخيال، مثل البشر، إلى قانون الزمن. فهناك شخصيات يطويها النسيان سريعًا، وأخرى تخلد في ذاكرة الإنسان. ثمة شخصيات خيالية أخلد وأكثر حياة حتى من مؤلفيها. من هذه الشخصيات التي اكتسبت حقها في البقاء والصمود ضد الزمن شخصية هاملت، البطل الشكسبيري المعذب والشخصية الرئيسية في مسرحيته التي تحمل اسم بطله والتي كتبت بين عامي 1599 و1602.

وضع شكسبير بطله في ظروف خاصة ومثيرة لا تتكرر إلا نادرًا في حياة البشر، فالوريث المفترض لعرش مملكة الدنمارك يموت والده في ظروف غامضة وتتزوج والدته الملكة من عمه. يحاول هاملت مطاردًا بشبح والده الذي يخبره بأنه قتل بواسطة أخيه الذي ورث عرشه وزوجته، أن يتقصى حقيقة ما قاله الشبح وأن يأخذ بثأر أبيه حين يتأكد من صدقه. يظل مترددًا وعاجزًا عن الفعل وتظل رغبته في الانتقام غير متحققة حتى يدفع إلى ذلك دفعًا في نهاية المسرحية. رغم خصوصية الحالة المسرحية التي يقدمها شكسبير هنا إلا أنه استطاع أن يصقلها عبر كتابته الفذة لتتحول إلى مرآة يستطيع أن يتأمل المشاهدون خلالها الإنسان والعالم في مطلقهما.

أحد أسباب خلود هاملت قدرة الشخصية الرئيسية على استيعاب عدد لا ينتهي من التفسيرات والقراءات لفهم غموضها والدافع وراء ترددها وعجزها. ربما لذلك صارت المسرحية الأكثر اقتباسًا للسينما بين مسرحيات شكسبير، مثلما بقيت مجرد حلم لم يتحقق في مخيلة سينمائيين آخرين على رأسهم يوسف شاهين. كان عمل فيلم سينمائي يستلهم مسرحية شكسبير الخالدة، والتي رأى في مرآة شخصيتها الرئيسية كل عقده وأوجاعه، هاجسًا ظل يؤرق شاهين طيلة حياته. آثار محبة شاهين وهوسه بهذه المسرحية منثورة في غالب أفلامه.

يحكي شاهين في أحد حواراته:

في الوقت الذي اكتشفت فيه أن الأم ليست العذراء، اكتشفت أيضًا شخصية هاملت ووقعت في غرامها. لا أنسى اللحظات التي كنت أشعر فيها بحزن شديد، كنت أغلق باب حجرتي وأنخرط في نوبات بكاء حادة، وعندما يدخل علي أحد من أهلي كنت أقول لهم: أنا بأمثل هاملت وأبكي لأني اندمجت في مشاهدها المؤثرة، خاصة أنني أرفض أن يعرف أي شخص منهم أنني أبكي.

ما يحكيه شاهين هنا يكشف عن ولعه المبكر بشخصية هاملت قبل أن تصير حلمًا يسكن مخيلته وهاجسًا ملحًا بعمل فيلم عنها مستلهمًا مسرحية شكسبير التي كان يسميها: «هاملت دائمًا وأبدًا».

يكشف الحوار السابق أيضًا عن أن شخصية هاملت تتجاوز كونها حلمًا سينمائيًا طالما راود شاهين، إلى دور فعال في حياته الخاصة. أنها أحد أقنعة ذاته التي يخفي خلفها ضعفه الخاص وعواطفه المضطربة في مرحلة عمرية لم يكن فيها مستعدًا لتعرية ذاته أو مواجهة المخاوف التي تسكنه. ربما مثل هذه المواقف الحياتية كانت حافزًا لشاهين أن يحمل قناع هاملت معه إلى السينما.

اقرأ أيضا: يوسف شاهين وثلاثية ما بعد النكسة

حضور هاملت في سينما شاهين قريب من الرؤية الفرويدية له. حيث يعيد فرويد تفسير مسرحية شكسبير علي ضوء ما سماه بعقدة أوديب في محاولة منه لقراءة شخصية هاملت الغامضة وداخله المعقد في إطار علاقته المضطربة بالأم والأب. يتماهى شاهين مع شخصية هاملت، فكلاهما يحمل نفس الجرح والتركيبة النفسية المعقدة، ويتشاركان نفس الرؤية لعالم فاسد ومعبأ بالكذب. تدور مونولوجات هاملت على السنة أبطال شاهين، وأفلامه فضاء مفتوح على نزيف أسئلة هاملت التي لا تنتهي.

يمكننا أن نقول إن معظم أبطال شاهين بهم شيء من هاملت. قناوي في «باب الحديد» به شيء من هاملت. يقول مصطفي في فيلم «حدوتة مصرية» دفاعًا عن قناوي:

لا يا ست نبقه قناوي جميل وحبيب مفيش منه لكن مش قادر، خايف من الناس زي ما يكون مكسوف من عواطفه.

قناوي إذًا روح جميلة في حالة عجز. إنه حبيس رؤيته المشوهة لذاته وللعالم فهو يراهما من خلال جرحه المفتوح (عرجه) وبالتالي لا يستطيع أن يقيم علاقات صحية مع البشر من حوله. حالة قناوي هي أقرب ما تكون لحالة هاملت التي يصفها الفيلسوف الألماني هيجل بأنها حالة من العجز المقيم لروح داخلية جميلة لا تستطيع هي نفسها أن تندمج في علاقات خاصة مع عالمها المحيط لأن كل شيء ليس كما ينبغي.

اقرأ أيضا: فيلم «اليوم السادس»: عن حلم راقص في أحضان الموت

في فيلمه «العصفور» سنجد تجليين لحكاية هاملت أولهما، شخصية الصحفي المثالي «يوسف/صلاح قابيل» الباحث عن الحقيقة وسط عالم فاسد والمطارد من السلطة. يبدو عداؤه الصريح للسلطة الفاسدة والغاشمة ضربًا من الجنون، يقول لـ«رؤوف/سيف عبد الرحمن» مستلهمًا النص الشكسبيري: «هناك من وقف علي خشبة المسرح وقال: في الدولة الدنماركية شيء من العفن. الناس صقفت له لكن قالت عليه مجنون. المجنون ده أنا».

نجد التجلي الثاني في نمط العلاقات داخل عائلة رؤوف، فالعلاقة بينه وبين الأم وبين زوجها، هذا الاحتقار للأم وكراهية زوجها، هو إعادة لنمط العلاقات بين هاملت والأم والعم/الزوج. كما أنه يتهمهما بقتل والده (انتحر لما عرف بالعلاقة بينكم). رؤوف أيضًا هو هاملت آخر، روح جميلة مكبلة بالشكوك والأسئلة.

يأتي التجلي الأكبر لحلم هاملت في سينما شاهين عبر فيلمه «إسكندريه كمان وكمان» فهو حاضر على عدة مستويات، حضورًا كثيفًا لن يتكرر بعد ذلك في أفلامه اللاحقة.

يفتتح شاهين فيلمه بأغنية «أكون أو لا أكون» التي تستغرق زمن تترات البداية والمستلهمة من النص الشكسبيري. الفيلم هو الثالث في رباعية شاهين الذاتية ويدور بالأساس حول انفصال «عمرو/ عمرو عبد الجليل» الممثل المفضل، والأنا الآخر للمخرج «يحيى شكري/يوسف شاهين».

الفيلم هو محاولة للأَم الجرح المفتوح الذي تركه انفصال عمرو (المعادل الفيلمي لمحسن محيي الدين) عن شاهين. ومحسن كما كان يراه شاهين النسخة الأفضل منه، وبالتالي سيكون قادرًا من خلاله على تحقيق حلمه بتجسيد شخصية هاملت. هذا الانفصال إذًا شكل تهديدًا كبيرًا لحلم هاملت وهو ما يفسر هذا الحضور المكثف له خلال هذا الفيلم.

في المشهد الأول من الفيلم، نجد عمرو يخبر يحيى بانفصاله عنه قبل أيام من تصوير فيلمه عن هاملت.

يحيى: هاملت هايدينا فرصة نصرخ كل اللي جوانا عمرو: يحيى، لو بتحبني شوف ممثل تاني يحيى: لا هتمثله، طول عمري باحلم بهاملت. عمرو: انت بتحلم بيه، أنا لا.

في هذا المشهد المتخيل، يربط يحيى انفصال عمرو عنه بحلمه بتحقيق هاملت والذي يعتقد أنه لن يتحقق بانفصاله وهو ما يجعل هذا الانفصال ضربًا من الخيانة للحلم، وأشد وطأة وإيلامًا بالنسبة ليحيى. يحتوى الفيلم أيضًا على مشاهد متخيلة يتم خلالها تصوير فيلم هاملت في نسخة معاصرة منه.

يموت شاهين دون أن يتحقق حلمه الكبير، لكن ظلال هذا الحلم تصبغ غالب أفلامه بلون حزين، هو لون الأحلام الضائعة.