جاءت الثورة الإيرانية بعدما استقر العالم على فصل الديني والسياسي، كوْن ارتباطهما من موروثات عصر الظلام الأوروبي، لتعيد الولي الفقيه إلى رأس السلطة السياسية. ومن رحم هذا التباين، جاء النظام الجديد ليحارب الاستكبار (الولايات المتحدة) ويصطف إلى جانب المستضعفين في هذه الأرض.

كان الرهان على استمرار الثورة الإيرانية (فبراير/ شباط 1979) وتحولها من الميدان إلى القصر والبرلمان في البداية صعبًا، ذلك أن الفكرة لتتحول إلى ممارسة تحتاج إلى الأدوات التي تمكّن لها، فإذا ما توفرت الأدوات بيد الرجل الحكيم المناضل آية الله الخميني، كان الرهان التالي حول ديمومة هذه الأدوات، وبقائها بعد رحيله، وصمودها أمام الظروف المتغيرة، ويمكن اختصار هذا التحدي في عملية تصفها كلمة واحدة؛ هي مأسسة الثورة.

في كتابها الشيق، حاولت أمل حماده، أستاذ العلوم السياسية بجامعة القاهرة، رصد وتحليل العملية التي انتقلت فيها الثورة الإيرانية من الميدان إلى الدولة، بهدف التعرف إلى التغيير في مراحل هذا التحول المختلفة، وإبرازه في صورة متكاملة مع السياق الإيراني. مرت الدراسة بأربع مراحل متعاقبة، تناولت في المرحلة الأولى الإطار النظري، وركزت بالأساس على الأدبيات التي تناولت بالدراسة الثورة والدولة والمرحلة الانتقالية، لتتناول في المرحلة الثانية العوامل التي دفعت في اتجاه الثورة على نظام الشاه محمد رضا، ثم في مرحلة لاحقة تناولت الظرف الذي وضعت فيه قوانين ما بعد الثورة، ودستور الدولة الجديدة، لتصل في المرحلة الأخيرة إلى دراسة عملية الانتقال والتفاعل الحتمي بين مؤسسات الدولة ومؤسسات الثورة.


المثقف السياسي

في إطار حرب الشعراء الرومانسيين الإنجليز العكسية على النقاد، اتهم الشاعر الرومانسي وليم وردزروس الناقد بأنه سياسيٌ فاشل حمّلته ضغائنه معول الهدم وراح يفسد ما يبنيه الشاعر، الذي يمتلك الأدوات ويخوض غمار التجربة بينما الناقد لا يفعل ذلك. تلك المفارقة هي ذاتها التي بين المثقف والسياسي، بين من يملك الوعي بالحاضر والخيال لرؤية المستقبل، وبين من يملك الأدوات ويمكنه إحداث التغيير وقيادته.

اقرأ أيضًا: بين المثقف والسياسي: عزمي بشارة نموذجًا

وفي الثورة الإيرانية برزت الأيديولوجيا كما برزت المطالب الاقتصادية والاجتماعية، ذلك أن الجماعة الثورية تمكنت من نشر خطابها المؤدلج، وتبنته نيابة عنها الجماهير. والحقيقة أن الأيديولوجية أو الخطاب السياسي هو ما يميز الجماعة الثورية عن قطاع الطرق، كلاهما يستخدم القوة، وكلاهما يحارب نظام الدولة، لكن الأول يتبنى وجهة نظر تجاه الدولة القائمة وتجاه ما يسعى لإحلاله حال تمكنه من القضاء عليها، وللأيديولوجية أهمية كبيرة في تجييش الجماهير حال الإعداد للثورة، كما أنها ترسم حدود الخطاب السياسي والتوجهات التي يتبناها نظام ما بعد نجاح الثورة.

وكانت الثورة الإيرانية قد عجت بعدد من المفكرين والمنظرين من داخل المؤسسة الدينية أو من خارجها، منهم من شارك في الثورة أمثال الخميني وطالقاني ومَن لم تُتح له الفرصة أمثال علي شريعتي ونواب صفوي.

أبرز مفكري إيران الثورة هو بالتأكيد مرشدها، الولي الفقيه آية الله الخميني. كان لآية الله إسهام فكري عريق بدءًا من أوائل الستينات وثورة الشاه محمد رضا البيضاء والامتيازات التي مُنحت للأمريكيين داخل إيران. في هذه الفترة المبكرة اتسم فكر الخميني بالمعارضة لا بالثورة، وكانت فكرة الإطاحة بالنظام الملكي وإحلال نظام بديل غائبة عن كتاباته وخطاباته، بل على العكس في كتابه «كشف الأسرار» مطلع الأربعينيات، دافع عن فكرة الملكية وعن وجود الحكومة حتى وإن كانت ظالمة لأن ذلك أفضل من غيابها بالكامل!

ومع بداية السبعينيات وتغير الظرف السياسي والاجتماعي بحيث باتت البيئة أكثر مناسبة للحديث عن الثورة وتغيير النظام، طوّر آية الله الخميني فكرة ولاية الفقيه في كتابه «الحكومة الإسلامية». ومهم أن نشير إلى أن الخميني في هذا الكتاب اعترف بإمكانية إصلاح النظام من الداخل، وطالب الفقهاء بشرح الإسلام وبرامجه في الحكم للعالم أجمع، لكن كما يتضح من سياق الكتاب أن حديث الخميني هذا كان مرحليًا، وليس نهائيًا.

اعتبر الخميني أن عملية إقامة الحكومة الإسلامية وهي الهدف من عملية الإصلاح من الداخل أو الثورة من الخارج لابد وأن تمر بمراحل ثلاثة، تبدأ المرحلة الأولى بممارسة النشاط الدعائي الذي يعمل على نشر الأفكار والقيم الإسلامية في المجتمع بكل فئاته، يليها العمل من خلال الحكومة وممارسة وسائل الضغط الممكنة حتى يتبنى أفراد الحكومة أنفسهم هذه القيم، وبالتالي يكون التغيير من الداخل. لكن إذا ما فشلت المرحلتان الأولى والثانية أو لم تؤتيا أُكلهما، فلا يستبعد الخميني حتمية الثورة وتغيير النظام من خارجه لإقامة الحكومة الإسلامية.


هم العدو.. فاحذرهم

مكّن آية الله الخميني للنموذج الفكري الذي يرى في الإسلام ملامح الثورة على الظلم ورفض الاستبداد، فالإسلام كما رآه الخميني دنيا ودين، أما النظرية التي اتبعها علماء الشيعة قبله بضرورة التُقية والانتظار لحين ظهور الإمام الغائب الذي سيقيم العدل بين الناس، فقد هاجمها الخميني ورفضها والتقية.

عرَف الخميني أعداءه مبكرًا وحددهم في أدبياته، بينما انشغل بالتمكين للطليعة الثورية التي يأمل أن تزرع الفكرة في المجتمع وتخرج بالجماهير إلى ميدان الثورة وهم الفقهاء ورجال الدين. أخذ العدو كما رآه آية الله أشكالًا ثلاثة؛ أول هذه الأشكال من أسماهم «فقهاء السلاطين»، وهم علماء الشيعة الذين خانوا مسؤوليتهم في قيادة الأمة وتفرغوا للتوافه من الأمور. وثانيها الحاكم الجائر الذي خالف تعاليم الإسلام وعمد إلى اضطهاد العلماء وأفراد الشعب، وثالثها العدو الخارجي وعلى رأسه الشيطان الأكبر «الولايات المتحدة الأمريكية». امتلك الخميني الأدوات متمثلة في الطليعة الثورية من الفقهاء وعلماء الدين وأتباعهم من الشباب، ومكّن لهم، وحدد لهم عدوهم الذي يجب عليهم قتاله وهزيمته.

لم يختلف الأمر عند آية الله طالقاني، فالرجل هو الآخر يقسم العدو إلى داخلي وخارجي، لكن ما يمكن أن يُحسب لطالقاني أنه كان منفتحًا على تيارات خلاف التيار الإسلامي، وعمل في وقت مبكر من الثورة مع الحركات الليبرالية والماركسية، وهذا مكنه فيما بعد من التنسيق بين هذه الجبهات والجبهة الإسلامية بزعامة الخميني، وإن كان الأخير لم يكن مهتمًا بإجراء التوافقات بين رجال الدين وغيرهم.


مأسسة الثورة

شرعت الثورة منذ اللحظة الأولى في بناء إطار قانوني ودستوري يحكم حركتها، ويضمن لنظامها السياسي البقاء، ثم استكملت هذه العملية من خلال بناء مؤسساتها التي انقسمت إلى قسمين؛ إما جديدة وإما معدلة موروثة من نظام الشاه، وهو ما يعكس رغبة الجماعة الثورية في التحول من الثورة إلى الدولة، ومن أهم المؤسسات الجديدة والفاعلة في نظام الولي الفقيه، مؤسستا الحرس الثوري ومجلس صيانة الدستور.

1. الحرس الثوري

تحولت لجان الثورة التي كانت مهمتها جمع الأسلحة من مخازن الشرطة في الأيام الأخيرة لنظام الشاه إلى مؤسسة الحرس الثوري، وحُددت لها وظيفة في إطار الدستور الجديد، وأدت ثلاثة أدوار في التفاعلات السياسية خلال السنوات الأولى الحاسمة؛ الأول كان التدخل في لحظات معينة لحسم التنافسات داخل النخبة السياسية، الدور الثاني كان في حفظ ليس فقط أمن الثورة الداخلي كما كان في قمع بعض التظاهرات العرقية لكن أيضًا في تعبئة الجماهير حول قيم الثورة وضرورة الالتزام بها، الدور الثالث والأكثر أهمية هو حفظ توازن القوى أمام الجيش النظامي الموروث من نظام الشاه.

2. مجلس صيانة الدستور

أقر دستور 1979 والتعديلات التي دخلت عليه عام 1989 دور مجلس صيانة الدستور، كسلطة تشريعية إلى جانب البرلمان، توكل إليه مهمة مراجعة القوانين والتشريعات التي يصدرها البرلمان للوقوف على حقيقة ما إذا كانت تخالف الشريعة الإسلامية وقيم الثورة أم لا، وهو يشبه إلى حد كبير المحاكم الدستورية في بعض الدول، لكن ما يجعله مميزًا هو التكوين، حيث يتكون المجلس من 12 فقيهًا ورجل قانون، يختار المرشد الأعلى ستة منهم من بين الفقهاء العدول، وتوكل مهمة اختيار الستة الآخرين إلى المجلس الأعلى للقضاء، ولأنه بدوره يخضع لسلطة المرشد فإن جميع الأعضاء يمكن اعتبارهم من اختيار المرشد الأعلى، من المحسوبين عليه والموافقين لآرائه وقيمه.

حافظت الثورة على منصب رئيس الجمهورية وإن قُلصت صلاحياته، والجيش الوطني، وغيرها من المؤسسات، لكن طورتها وخففت من تأثيرها بالعمل في مسارين مختلفين؛ معادلتها بمؤسسات موازية كما سبق بيانه، ومحاولة تغييرها وتطويرها من الداخل بحيث تتحول تدريجيًا لتتماشى مع الدولة الجديدة.

يشرح كتاب «الخبرة الإيرانية» عملية تحول الثورة الإيرانية إلى دولة ذات مؤسسات وخطاب ورؤية، وهو أشبه بمانيفستو لهذه الثورة لكن بوضعية الـ «فلاش باك»، أو الرؤية المعكوسة، وتأكيدًا على أهمية ما طرحته الدكتورة أمل حماده في هذا الكتاب فهو يصلح لأن يكون ملهمًا للجماعات الثورية في البلدان العربية، التي هي أقرب في الثقافة والمجتمع من نظيرتها الإيرانية.