نختلف ونتفق كثيرًا عن دور المال في الحياة العامة، ومدى وزنه النسبي على أحلامنا وطموحاتنا، ولا يسعنا رغم الاختلاف إلا أن نطل على حقيقة راسخة وهي ما للمال من قيمة ووزن كعنصر رئيسي في حياتنا بشتى اتجاهاتها.

والسينما المصرية على مدار أكثر من ثمانين عامًا رسمت اتجاهات وصور مختلفة لتلك الحياة، ومن خلال السطور المُقبلة نسعى لرؤية كيف ظهر المال في السينما المصرية، كمحاولة لمشاهدة بعض صور الحياة في مصر من خلال نافذة الفن وتحديدًا السينما، استنادًا إلى العناصر غير الرسمية في رواية التاريخ المجتمعي والاقتصادي.

وللتوضيح أكثر، فإن مشهد المال الذي سيتم تناوله قد لا يكون بالضرورة محورًا للأحداث، إلا أنّه يحمل دلالة هامة بشكل غير مقصود عن شكل الحياة وقيمها في مصر خلال العقود الماضية.

ويمكن القول إن تلك المشاهد تحمل في طياتها خريطة زمنية للتاريخ الاقتصادي يمكن من خلالها الاستدلال عن كيفية التطور المالي للمجتمع المصري، وكيفية تحول سياساته الاقتصادية.


الثلاثينيات والأربعينيات

تزامنت بداية السينما المصرية مع بدايات فن السينما في العالم، وقد شهد عقدا الثلاثينيات والاربعينيات إنتاجًا وفيرًا لهذا الفن الوليد. ففي فيلم «الساعة 7» من إنتاج عام 1937 وبطولة «علي الكسار»، نجد شخصية «عثمان» والذي يعمل مُحصلُا في أحد البنوك، وقد وقع في ورطة بسبب سرقة ما لديه من عهدة مصرفية قيمتها 120 جنيهًا.

وتدور كافة أحداث الفيلم في إطار كوميدي للهرب من الشرطة، ومحاولة تدبير هذا المبلغ ، وفي أحد محاولاته يفر إلى عائلته في أسوان ظنًا منه أن عمه -عمدة البلد- قد يساعده في هذا الشأن إلا أن علامات الفاجعة تظهر بشكل واضح على وجه عمه عندما يسمع قيمة المبلغ.

وبالعام ذاته نجد أيضًا فيلم «سلامة في خير» من إخراج نيازي مصطفى وبطولة نجيب الريحاني، ويدور في إطار كوميدي حول سلامة الساعي بأحد المحال التجارية الذي يُخفق بإيداع مبلغ 4118 جنيهًا بالبنك، فيبحث عن ملاذ آمن لهذا المبلغ خوفًا من السرقة، فيلجأ إلى لوكاندة فاخرة ويحاول أن يقوم باستئجار حجرة ليتمكن من إيداع أمانته بخزينة الفندق.

وبسؤاله عن تكلفة الغرفة يُفاجأ أنها تتراوح بين 120 قرشًا، 150 قرشًا، و2 جنيه، فيظن أن هذا الإيجار لمدة كامل وليس لليلة واحدة. وبمصادفة غريبة يتم الاتفاق بين أمير دولة أجنبية قادم لنفس الفندق وبين سلامة كي يلعب أي سلامة دوره لمدة يومين -في حبكة ستكرر كثيرًا فيما بعد بالسينما المصرية- مقابل 500 جنيه.

وفي أحد المشاهد من نفس الفيلم نجد الريحاني بعد تقمصه لدور الأمير وفي زيارة له لأحد المدارس وأثناء حصة مدرس الحساب والذي يعرض مسائل رياضية من واقع الحياة، فيثور استهجان سلامة إلى أمثلة المدرس المُنافية للواقع، إذ ذكر المدرس أن بائعًا اشترى حرير بسعر المتر 31 مليمًا.

مما جعل سلامة يخرج عن حدود دوره بسبب المبالغة المُفرطة في ارتفاع سعر متر الحرير، ليفرد له قائمة الأسعار وأنواعها ابتداءً من 7 صاغ وحتى 22 صاغًا، وفي نهاية الفيلم يُكافئ الأمير الحقيقي سلامة لأمانته بمبلغ 500 جنيه.

وفي فيلم «في ليلة ممطرة» تأليف وإخراج توجو مزراحي عام 1939 ومن بطولة يوسف وهبي، تدور الأحداث حول مهندس شاب تجبره الظروف على الزواج من فتاة مستهترة «ليلى مراد» للتستر عليها مقابل مبلغ مالي، فيعطيه والدها الباشا إيصالًا بـ300 جنيه وكأنه مهر ابنته بالإضافة إلى مرتب شهري 100 جنيه.

والإشارة الهامة هنا أن هذا المهر مُقدم من تاجر عظيم من الأرياف وليس من شخص عادي من الطبقة المتوسطة إذ بهذه الصفة سيتم تقديم العريس لوسط الباشا.

ولم تختلف كثيرًا الأربعينيات من حيث قيمة النقود على الرغم من تأثيرات الحرب العالمية إلا أننا نجد في فيلم «بنت ذوات» عام 1942 قصة صعود إبراهيم ابن الجنايني جراء عمله في شركة للمقاولات ليصل إلى مرتبة حبيبته بنت الذوات، ففي مشهد بارز نجد مجلس الإدارة مجتمعًا لمكافأة إبراهيم على مجهوداته الهائلة فتُصرف له مكافئة استثنائية قيمتها 25000 جنيه بالإضافة إلى راتب سنوي 3000 جنيه، الأمر الذي سيجعله في مصاف البشوات فيما بعد.

وفي عام 1946 نجد فيلمًا باسم «الخمسة جنيه» والذي يدور في إطار من الفانتازيا حول ورقة بنكنوت بقيمة خمسة جنيهات وما يمكن أن تفعله في الحياة الاجتماعية والاقتصادية لأطراف عدة هم محاور الأحداث، فنجد مثلًا تلك الورقة حلّت أزمة أسرة كنّاس لم يتمكن من دفع الإيجار المتأخر لمدة خمسة شهور والذي بلغ 130 قرشًا، مما قد يفسر اندهاش سلامة في فيلم «سلامة في خير» عندما علم أنّ قيمة الغرفة لليلة واحدة هي 120 قرشًا في أقل مستوى.


الخمسينيات

تميز عقد الخمسينيات بأنه كان عقدًا ذا اتجاهين على مستوى الحياة العامة في مصر، فقد شهد حركة يوليو 1952 وما تبعها من قوانين الإصلاح الزراعي، الأمر الذي أسهم في تغيير شكل الخريطة الاجتماعية بإعادة توزيع الثروة والسلطة. إلا أن هذا التغيير يُمكن ملاحظته بعض الشيء في موضوعات السينما ذاتها وفلسفة موضوعاتها ونجومها وصُناعها، ولكن على سياق موضوعنا وهو كيفية ظهور الجنيه في السينما المصرية فنكاد لا نلحظ اختلافًا جليًا في هذا الشأن.

ففي فيلم «المليونير» من بطولة إسماعيل يس عام 1950، نجد شخصيتي جميز، وعاصم في ليلة التعارف بينهما، ليُخبرنا جميز أنّ راتبه اليومي هو 20 قرشَا، وهو ما يُعادل دولار بأسعار الصرف آنذاك.

وفي سياق آخر من نفس الفيلم يطالب أحد الموظفين عاصم الاسترليني بأن يقوم ببيع محصول القطن الذي قفز سعره قفزة هائلة ليصل القنطار إلى 100 ريال أي 20 جنيهًا، ثم يُوالي ارتفاعه ليصل إلى 120 ريالًا، فيعطي جميز للموظف إشارة للبيع وسط تلميحات بقيمة هذه الصفقة، وعبقرية التحليل المالي الذي درّ هذه المكاسب.

وبعد قيام الثورة وتحديدًا في عام 1953 نجد أغنية «معانا ريال» للطفلة فيروز وأنور وجدي من فيلم «ياسمين»، وعلى الرغم من طرافة الأغنية التي تستعرض فيها ما يمكن شراؤه بالريال إلا أنها تعطي مؤشرًا واقعيًا في إطار من الفانتازيا لما يمكن أن يفعله ريال في حياة اثنين من البسطاء.

وفي فيلم «إسماعيل يس في البوليس» عام 1956، يقوم «الشاويش زكي» ببيع ساعته الذهبية بمبلغ 450 قرش ليشتري دواءً مستوردًا بمبلغ 480 قرشًا.

وفي سياق آخر من نفس الفيلم نجده وهو يسجل مسروقات ذهبية بعد عملية سطو على جاره الجواهرجي فنجد بروش ألماظ على شكل وردة بعشر فصوص بألف جنيه، وقرطًا ذهبيًا على شكل عصفورة بـ 300 جنيه، بالإضافة إلى الساعة التي سعّرها الصائغ بخمسة وعشرين جنيهًا.

وبالانتقال قليلًا في سينما الخمسينيات الوليدة بنجوم ما بعد يوليو في فيلم «شارع الحب» من بطولة عبد الحليم حافظ عام 1958، تدور الأحداث حول فرقة موسيقية كادحة، تدّخر حتى يتسنى لمطربها الشاب الواعد استكمال دراسته بمعهد الموسيقى، ثمّ يتلقى عرضُا للتدريس في أحد الأندية الراقية مقابل مبلغ 20 جنيهًا، فيطرأ الاستغراب على أحد أعضاء الفرقة عندما يسمع الراتب فيظن أنه راتب السنة بأكملها وليس الشهر.

وبنفس العام نجد أحد رواد الواقعية في السينما المصرية «صلاح أبو سيف» في رائعته «شباب امرأة»، وفي أحد المشاهد الافتتاحية للأحداث نجد «عبد الوارث عسر» يقوم بتأجير أحد الغرف بحي القلعة للطالب «شكري سرحان» نظير مبلغ 150 قرشًا في الشهر، ثم تعرض عليه شادية لاحقًا غرفة أخرى أغلى بخمسين قرشًا ولكنها بمنافع أكثر من نور ومياه كما تطل على حديقة.


الستينيات

تعد الستينيات هي مرحلة القطاع العام في السينما المصرية، وقد لعبت فيه الدولة دور اللاعب الرئيسي في صناعة السينما، بشكل يختلف كليًا عن مرحلة الخمسينيات التي لعب القطاع الخاص فيها الدور الأوحد، ونجد في الستينيات دخول وزارة الثقافة للساحة الفنية من خلال مؤسسة مؤسسة السينما في 1962.

ويُمكن ملاحظة التوجه القوي لأفلام تلك المرحلة بما يتناسب مع الحقبة الناصرية وأفكار الإصلاح والتكافل الاجتماعي ومبادئ الاشتراكية الناصرية والتنكيل بالاستغلال الرأسمالي. ففي فيلم «عائلة زيزي» عام 1963 نجد سبعاوي «فؤاد المهندس» وهو يتحدث مع حماه المستقبلي عن مشروعه القادم، وتبدو عليه علامات الاندهاش من فرط السعادة، إذ يعرض عليه شراء مشروعه – ماكينة القماش- مقابل 20000 جنيه، وتعيينه مديرًا للمصنع.

ومن الأفلام التي تعبر بشكل كامل عن روح تلك المرحلة «الأيدي الناعمة» 1963 المأخوذ عن رواية توفيق الحكيم، والذي يعد فيلمًا ترويجيا للأفكار الاشتراكية، حيث يُمثل كتيبًا دعائيًا لمبادئ يوليو والسياسات الناصرية، وبعيدًا عن الخوض في التناول الفني للعمل، إلا أن «الأيدي الناعمة» من الأفلام القليلة التي ترسم لوحة متكاملة لعنصر المال سواء بشكل مباشر أو غير مباشر.

ويُمثل “الأيدي الناعمة”روح حركة يوليو بشكل مثالي فهو يُروج لمبادائها وأفكارها بشكلٍ مُلفت، فنجده مثلًا يتناول طبقة نبلاء الملكية بكافة الصور النمطية من انتهازية لاتكالية لاستهلاك مظهري بدون أي إنتاج، فضلًا عن تصوير تلك الطبقة بالرأسمالية والاستغلالية المادية لكل من هم حولها.

ولا يخلو الفيلم من صور مالية صريحة ففي أحد المشاهد في بداية الفيلم نجد أحد أقارب البطل النبيل الذي يتحصل على راتب شهري قدره 200 جنيه كمساهمة من الدولة نظير حراسة أملاكه لدى الدولة، وعلى الرغم من هذا إلا أنه لا يستطيع العيش بهذا المبلغ ومُعرض للإفلاس.

وفي سياق مقابل نجد والد «كريمة» الذي يتكفل بمصاريف المعيشة، معاشه 30 جنيهًا، فضلًا عن دكتور حمودة الذي صار ممثلًا، ويسعى لحث «جيهان» على قبول الزواج منه إذ تحسنت أحواله المالية وصار في رغد من العيش إزاء عمله كممثل والذي يتحصل منه على مائة جنيه شهريًا.

وفي سياق مُشابه نجد فيلم عبد الحليم حافظ «معبودة الجماهير» عام 1967 يتناول نفس القيم، وبشكل ترويجي لحركة يوليو، إذ تظهر به العديد من الاتهامات المُبطنة للقوى الخارجية التي تسعى لإذلال واستغلال الشعب البسيط كما في مشهد الدائن الذي يعرض على الحج محمود البقال فائدة 15 % على الدّيْن مقابل مد أجل السداد، كما يظهر في مشهد آخر زغلول «فؤاد المهندس» متباهيًا بمنصبه كسكرتير أول لنيابة السيدة زينب بمرتب 11.30 جنيه شهريًا.