محتوى مترجم
المصدر
Original work
التاريخ
2018/11/18
الكاتب
Khaled Al-Kammar

كل فرد جزء من مجموعة القواعد، أو بالأحرى المعايير، المحددة لثقافة معينة، ونتاج لها في الوقت ذاته، ذلك أمر حتمي. واستيعاب المعايير وتبنيها هو ما يسمح بظهور فكرة -وأحيانًا صورة- الآخر: شخص لا يتوافق مع تلك المجموعة المحددة من المعايير. غالبًا ما تشوب تلك الصورة تصورات خاطئة وأوهام وخيالات. هذا أمر ينطبق على الطرفين بالضرورة، فيما يمكن تسميته بالأخروية المتبادلة: «الآخر» و«آخر الآخر».

إلا أن في حالة الاستشراق تفاوت ملحوظ في السطوة والتأثير بين أوروبا والشرق. ورغم أن ذلك ما يزال ملموسًا، فإنه لم يعد واضحًا مثلما كان خلال العصر الكولونيالي والقرن الثامن عشر الطويل، حين هيمنت أوروبا بالقوة على أغلب الشرق سياسيًا وثقافيًا.

تنشأ الصعوبات مبكرًا، بمجرد محاولة تعريف مصطلح الاستشراق ذاته. ليس ثمة فضاء جغرافي معين يسع المرء حتى تسميته بالشرق دون استشكال. الشرق بكل بساطة هو الشرق الأوسط، ذلك تعريف إدوارد سعيد صاحب الدراسة الهامة «الاستشراق: التصورات الغربية عن الشرق»، إلا أنه مصطلح آخر مزعج في حد ذاته، وإن يكن بدرجة أقل من السابق. بغض النظر عن تفاوت التعريفات في مدى إدراج أو استبعاد الشرق الأقصى، تبدو جميعًا متفقة على إدراج آسيا الغربية وتركيا وأجزاء من شمال أفريقيا الإسلامي. في استقصائنا للموضوع، سنعرف الاستشراق على أنه التصورات الغربية عن شعوب وفنون وحضارات وثقافات المناطق المذكورة آنفًا.

على أي حال، نهدف هنا إلى تناول تأثير صورة الشرق في ممارسات وتخيلات وصورة الذات لدى مؤلفي الموسيقى الشرقيين أنفسهم. نهدف كذلك إلى معرفة ما إن كان ثمة إدراك للآخروية في مؤلفاتهم. كيف أثر هذا الصوت الشرقي النمطي (من منظور غربي) في منتجهم؟ أو بعبارة أخرى، هل يجدر تصنيف أعمال مؤلفي الموسيقى الشرقيين على أنها أعمال قومية أم استشراقية؟

يمكن مناقشة ذلك عبر أمثلة ودراسات حالة لمؤلفين موسيقيين يعدون عامة من الأشد تمثيلًا لبلادهم وثقافاتهم. مهلًا، من يعدهم هكذا؟ سؤال هام؛ لتجنب الذاتية التامة (كأن ذلك ممكنًا)، انتقيت الأكثر تناولًا في الأدبيات (وفقًا لمعرفتي المحدودة والذاتية). نظرًا إلى المساحة هذا المقال شديدة المحدودية، انحصر نطاق البحث في عمل تمثيلي واحد.

رغم أن الاستشراق ليس الموضوع الغرائبي الوحيد في الموسيقى الغربية، فإنه الأكثر تكرارًا والأشد صمودًا أمام اختبار الزمان، على الأقل في نظر ريتشارد تاروسكين، أحد أهم الباحثين المعاصرين في تاريخ الموسيقى. ولتبسيط تلك الذريعة للأفهام، يمكن تقسيمها إلى فترتين:

1- ما قبل الحملات النابليونية على مصر (قبل 1798)، حيث يرجع تاريخ بعض الأعمال المتفردة في ذلك السياق إلى القرن السادس عشر. تعد «تركيات» موتسارت من بين المحاولات المبكرة في تلك الفئة الموسيقية، ولا شك أن من أبرزها «المارش التركي» (Rondo Alla Turca) و«اختطاف من السراي» (Abduction from the Seraglio)، وهي الأعمال ذات الصوت الغامض الذي اعتبره الموسيقار والكاتب الأمريكي تشارلز روزين أقرب إلى صوت مجري مبهم منه إلى أي شيء آخر.

2- ما بعد الحملات النابليونية على مصر (بعد 1799)، حيث راج الافتتان بالشرق قرن من الزمان. بدأت الموجة الأولى في العقد الأول من القرن الثامن عشر، مع «الإيطالية في الجزائر» (L’italiana in Algeri) للإيطالي روسيني، و«أبو حسن» (Abu Hassan) للألماني فون فيبر. وقد تلت ذلك أعمال الفرنسي فيلسيان ديفيد، الشخصية الأكثر محورية في هذه السلسلة، وإن كان النسيان طوى ذكره اليوم إلى حد بعيد.

سافر فيلسيان ديفيد بعد تجربة محبطة في معهد باريس للموسيقى، مع الحركة السيمونية، إلى الشرق للدعوة إلى آرائها، في بعثة سيكون لها تأثير غير متوقع على أجيال مع مؤلفي الموسيقى الفرنسيين. تحت تأثير المناظر الطبيعية والشعوب والأديان التي قابلها في رحلته، بدأ اهتمامه في التحول من الدعوة إلى اكتشاف وفهم الآخر. رافقه بيانو سفر في رحلته عبر تركيا، واليونان، ولبنان، وفلسطين، وأخيرًا مصر، حيث استقر عامين.

دوّن ديفيد أفكارًا موسيقية شرقية على مدار رحلته، سرعان ما هضمها مثلما يدل مؤلفه «ألحان شرقية» (Melodies orientales) للبيانو الصادر عام 1836، ثم أتبعه بعد ثماني سنوات بـ«الصحراء» (Le Desert) ذا النجاح الباهر والقصير في الوقت نفسه. تشكل الصحراء أول محاولة جادة للإمساك بروح شرقية أصيلة عبر نغمات البدال والمقامات الشرقية. كانت تلك الأصالة سببًا للنجاح والانزواء السريع في آن واحد. «لقد كان تصويرًا شديد الإخلاص (وغير نقدي) للشرق وقصًا شديد الاختزال».

نظرًا إلى مكانتهم المحفوظة بين أقرانهم في تلك الفئة الموسيقية، فإن «شهرزاد» (Scheherazade) للروسي ريمسكي-كورساكوف و«شمشون ودليلة» (Samson et Delila) للفرنسي سان صانز هي الأعمال الممثلة لذلك السياق. تشكل جميع الأعمال آنفة الذكر مثل نموذجية وقوالب نمطية لماهية الشرق وصوته، أو كيف ينبغي لصوته أن يكون، من وجهة نظر غربية.

تربط تلك الأعمال بتصور الشرق «مرتعًا جنسيًا» شهوانيًا علاقة تبادلية، ففي حين مثل التصور حافزًا للأعمال، ساهمت الأعمال في تغذية ذلك التصور. كما فرض عالمًا صوتيًا مشبعًا بنغمات البدال، والمدات الغنائية، وبكل أسف: الثواني الزائدة البغيضة. سلم بتلك سمات معرفة للموسيقى الشرقية، ليتبوأ ذلك القالب النمطي تدريجيًا مكانة الأكثر واقعية وأصالة بدلًا مما هو واقعي وأصيل حقيقة.

في رقصة «عيد باخوس» (Bachhanale) من أوبرا «شمشون ودليلة»، استفاد سان صانز من أداة الثواني الزائدة البليغة الراسخة، لكن عملًا بمبدأ «زيادة الخير خيرين»، لم يكتف بمقام ذي ثانية زائدة واحدة، بل اختار مقامًا باثنتين. نتج عن ذلك ما يسمى عادة بالـحجاز-كار. على الجانب الآخر، وبتناص مع تعليق روزين على تركيات موتسارت، يسعنا القول إن مجرية الطابع فيه أشد من شرقيته.

ما يزال بالإمكان لمس هذا الربط المتفشي بين الشرق وذلك المقام حتى اليوم، بداية من الموسيقى التصويرية لبعض الأفلام الصامتة («لص بغداد» 1924، و«مغامرات الأمير أحمد» 1926) وانتهاءً بـ«سارقو التابوت الضائع» و«ألف ليلة وليلة»، وأغنية «قفزة إلى الأمام» من فيلم «ديزني» الشهير «علاء الدين»، وتقريبًا متى شمل الأمر الشرق بشكل عام (أو حتى أي أرض شبق أو تصوف أجنبية مثل «قلعة هاول المتحركة» من إنتاج «ستوديو جيبلي»). إنه لمن المفارقات أن تختزل الذخيرة الموسيقية لذلك الجزء من العالم في أداة غريبة عنها.

يقدم الأنثروبولوجي الفرنسي فرانسيس أفيرجون تفسيرًا مقبولًا لتفشي تلك الأساليب عوضًا عن المقامين الفريجي أو الصغير (the minor or Phrygian modes) -على سبيل المثال- باعتبارهما أوسع انتشارًا من السلم الصغير التوافقي في الموسيقى الشرقية، فيراها أفيرجون ممارسة استشراقية نموذجية، حيث تؤطر وتُبرز أشد السمات اختلافًا وأقصاها -بغض النظر عن مصداقيتها التمثيلية- بغرض التشديد على فكرة «الآخروية».

الآن، أيًا كانت الطرق والأسباب، فقد سادت تلك السمات، وصارت تحمل معنى متأصلًا، حتى تكاد الإشارة إلى الشرق أن تستحيل بدونها. هنا يبرز السؤال الهام: إذا كان المؤلفون الغربيون تبنوا تلك الأدوات للدلالة على «الآخروية»، فهل يعقل أن يلجأ مؤلف موسيقي شرقي إلى استخدامها ذاتها؟

تثير الحروب والثورات حسًا قوميًا ملتهبًا، من هنا يتشابه المشهد في الشرق الأوسط خلال منتصف القرن العشرين كثيرًا مع المشهد في شرق أوروبا خلال منتصف القرن التاسع عشر. في مصر، نشأت أول مدرسة قومية للتأليف الموسيقي وسط أجواء مشحونة بالتوتر السياسي والمشاركة الجماهيرية. إذ ولدت مجموعة المؤلفين الموسيقيين المسماة بـ«الجيل الأول» في مطلع القرن، وظهر إنتاجهم في الثلاثينيات ثم ازدهر بشكل ملحوظ مع ثورة الضباط الأحرار في الخمسينيات، وكان في طليعتهم الموسيقار أبو بكر خيرت (1910-1963).

تعد «المتتابعة الشعبية» المصنف رقم 24 من أنضج أعمال أبو بكر خيرت، وعند اتخاذها دراسة حالة نجدها عملًا يصدح بقوميته، متضمنًا ألحانًا شعبيًا على طريقة المجري بيلا بارتوك والبريطاني فون ويليامز وغيرهما، لكن التشابه الفج بين عالم المتتابعة الصوتي و«صحراء» ديفيد يظهر منذ بدايتها. إن تشابك آلات النفخ مع الخلفية الوترية الإيقاعية الهوموفونية في الحركة الأولى من متتابعة خيرت تعج بأصداء «رقصة العالم» (Danse des Alme) من الحركة الثانية لصحراء ديفيد.

مع تلك الحليات «شبه» الشرقية في الأجزاء الخاصة بآلات النفخ، واستعمال ألة الأبوا (ذات القصبة الواحدة) لاستحضار روح المزمار، وكذا الفلوت لاستحضار روح الناي، بالضبط كما فعل ديفيد، لا يملك المرء إلا التساؤل: لماذا لم يُستعمل المزمار والناي؟ لماذا لم يستعمل الإيقاع الشرقي؟ أو بعبارة أخرى: لماذا استعملت المنظومة الآلية واللحنية والهارمونية ذاتها التي استعملها ديفيد؟

يبدو أن خيرت قد تصور نفسه «الآخر» المعروض في الأعمال الاستشراقية، كما لو أنه لن يعتبر «حقيقيًا» كفاية إلا بمطابقة ذلك التصور. يتضح ذلك على وجه الخصوص عند إدماجه اللحن الشعبي «عطشان يا صبايا»، وهو من المقام البياتي؛ بدلًا من التماس أقرب البدائل الأوركسترالية الممكنة، وهو المقام الفريجي (الكرد)، بدل خيرت مقام اللحن عمدًا إلى السلم الصغير التوافقي (دونًا عن جميع الخيارات المتاحة)، متبعًا في ذلك خطوات سان صانز.

ينزاح الغموض عند الاطلاع على سيرة أبو بكر خيرت، حيث يرد خبر دراسته في معهد باريس للموسيقى، المعقل العتيد لذلك التقليد الاستشراقي. ينطبق الأمر ذاته على أعمال أخرى لخيرت، مثل «السيمفونية» «الشعبية» مصنف رقم 23، كما يلاحظ الأمر ذاته في أعمال سائر مؤلفي تلك المدرسة: يوسف جريس وحسن رشيد (درسا في المعهد الملكي للموسيقى).

لبلوغ استنتاج سليم، يقترح رالف ب. لوك -عالم الموسيقى بمدرسة إيستمان للموسيقى- البحث في خمس مسائل مترابطة في علم الموسيقى الاستشراقي:

  1. مدى ادعاء العمل للأصالة في تمثيله للشرق «الحقيقي».
  2. كيفية تداخل عنصر الفانتازيا (بما فيه من مسحة حسية/شهوانية) مع الدعوى السابقة.
  3. كيفية توظيف الأساليب الموسيقية والمؤثرات غير الموسيقية لتمثيل الشرق.
  4. طريقة ارتباط الأساليب الشرقية -حال توظيفها- بالمحفزات الغرائبية الأخرى.
  5. هل لتلك الأساليب الموسيقية اتصال بالموسيقى الشرقية الأصيلة؟

عند فحص تلك المسائل، نجد أن تصور المتتابعة الشعبية للجماليات الشرقية وأسلوبها في التعبير عنها يماثل تصور صحراء ديفيد. لقد وضع خيرت وموسيقيو المدرسة الآخرون أنفسهم داخل الإطار النمطي، لينتهي الحال بما كان يفترض بها أن تصير حركة قومية إلى مطابقة الفكرة الاستشراقية عن «الآخر»، ما يجعلها بالأحرى من حركات معاداة القومية. لا شك أن النتائج المذكورة غير حاسمة، إذ يتوجب دراسة عينة أكبر تتضمن مؤلفين موسيقيين من الجيل الثاني (مثل جمال عبد الرحيم)، والأتراك الخمسة، خاصة عدنان سايجون ذائع الصيت.

المراجع
  1. Benita Parry, Delusions and Discoveries: India in the British Imagination, 1880-1930 (London: Verso, 1998)
  2.  Robert Young, Colonial Desire: Hybridity in Theory, Culture, and Race (London: Routledge, 1995)
  3. Richard Taruskin. “Chapter 7 Self and Other.” In Music in the Nineteenth Century, Oxford University Press. (New York, USA, n.d.). Retrieved 20 Oct. 2018, from http://www.oxfordwesternmusic.com.ezproxy.lib.gla.ac.uk/view/Volume3/actrade-9780195384833-div1-007014.xm
  4. Charles Rosen, The Romantic Generation (Boston: Harvard University Press, 1998)
  5. Anderson, Robert, Salwa El-Shawan Castelo-Branco, and Virginia Danielson. “Egypt, Arab Republic of.” Grove Music Online. January 01, 2001. Oxford University Press,. Date of access 28 Oct. 2018, <http:////www.oxfordmusiconline.com/grovemusic/view/10.1093/gmo/9781561592630.001.0001/omo-9781561592630-e-0000008621
  6. Ralph P. Locke, The exotic in Western Music (Boston: Northeastern University Press, 1998)