يأتي رمضان هذا العام في أجواءٍ مشحونة بالقلق والتحديات، لا سيَّما ونحن في خضم موجةٍ كبيرة من انتشار جائحة فيروس كوفيد-19 التي ألقت بظلالها السلبية على كافة جوانب حياتنا، لا سيّما الاجتماعية والصحية.

وإلى جانب الطاقة الإيجابية التي تبُثها في أعماقِنا أيام الشهر الفضيل، فإنَّ لدينا فرصة جيدة لنستغل رمضان كهدنةٍ إيجابية في قلب تلك المعمعة من التوتر والترقب. لن ننصحَ بخططٍ مُعقَّدة تفشل خلال يومين أو ثلاثة، وتلقي ظلالًا من الكآبة على أرواحنا، إنما سنمنح الشهر الكريم الفرصة لكي يعيد ترتيبنا بسلاسة وواقعية.

أولًا وآخرًا … تجنُّب المضاعفات الصحية

نعرف جميعًا أن تجنُّب المفاسد مُقدَّمٌ على جلب المصالح. من الواجب على كل من يعانون من الأمراض المزمنة لا سيّما ارتفاع سكر الدم، وارتفاع الضغط، وأمراض القلب المزمنة، والقصور الكلوي أو الكبدي المزمن .. الخ إن يراجعوا أطباءَهم من أجل الاتفاق على خطتهم الصحية في الشهر الكريم، وهل من الأنسب لهم صيام الشهر الكريم أم عدة من أيام آخر.

على سبيل المثال، يُنصح المصابون بالسكر غير المنتظم ومضاعفاته، تجنب الصيام لحين النجاح في السيطرة على ارتفاع السكر لمدة. كذلك لا يُنصَح مرضى جلطات شرايين القلب الحديثة بالصيام لمدة 6 أشهر على الأقل … الخ. لا يوجد هنا قرار مُوَحَّد يناسب الجميع، فلكلِّ حالةٍ ظروفها الخاصة، ولذا فالطبيب المُتابع هو الأجدر باتخاذ القرار الأفضل لكل مريض.

وفي حالة السماح بالصيام لأصحاب الأمراض المزمنة المستقرَّة، فنؤكد أهمية التعجيل بالإفطار، وتأخير السحور، لتقصير مدة الصيام قدرَ الإمكان. وكذلك ننصح بضرورة الانتظام في تعاطي العلاجات المُقرّرة، وتجنب القيام بمجهودٍ بدني كبير وخسارة السوائل أثناء النهار، لأن ذلك يزيد قابلية الدم للتجلط.

وفي موضوعٍ سابقٍ لنا (دليلك الصحي الشامل في شهر رمضان) تحدثنا بتفاصيلَ أكثر عن صيام رمضان مع أشهر الأمراض المزمنة، أنصح بالرجوع لها.

اقرأ أيضًا: كيف يمكن أن ينجو أصحاب الأمراض المزمنة من حر الصيف؟

واقرأ: عادات سيئة تحرمنا من فوائد الصيام في رمضان

خطةٌ للانتصار الصحي في رمضان

في نقاطٍ سريعة، سأوجِزُ كيف يمكن ببعض التنظيم، وقليلٍ من الإرادة، والكثير من المُتعة، أن نحظى برمضانٍ صحيّ رائع، وأن تكون هذه الأسابيع الأربعة إلى جانب دورها الروحاني الأساسي، نقلة استثنائية صحية.

1. الساعتان الذهبيتان قبل الإفطار

بعد 10-12 ساعة من الصيام على الأكثر، يكون الجسم قد فقد رصيده الاحتياطي من سكر الجليكوجين المُخزَّن بالكبد، ويبدأ منسوب هرمون الأنسولين المثبط لحرق الدهون في الانخفاض، مما يسمح ببدء الجسم في اللجوء إلى الحصول على الطاقة من الدهون المخزَّنة.

وفقًا لهذا، فإن الانتظام في ممارسة الرياضة المعتدلة ولو المشي بسرعة جيدة، في الساعتيْن الأخيرتيْن من النهار، قد يساهم كثيرًا في زيادة معدلات الحرق، ويمكن أن نخسر بضعة كيلوجرامات من الوزن، لا سيَّما إذا صاحبَ هذا النشاط تحقيق الاعتدال في وجبتيْ الإفطار والسحور.

وتمتاز هاتان الساعتان بانكسار الحر فيهما، وبالتالي فلا نخشى مع بذل بعض المجهود فيهما من الإصابة بضربات الشمس، أو فقدان السوائل إلى درجة الجفاف … الخ من المضاعفات الصحية.

2. السيطرة على التدخين وأخواته

رمضان فرصة ذهبية للتحرر الكلي – أو على الأقل الجزئي – من سيطرة العديد من العادات السيئة، وعلى رأسها التدخين، وإدمان الكافيين… إلخ. التوقف لحوالي 15 ساعة – متوسط وقت الصيام – عن مثل هذه العادات، وإن تسبَّب في الأيام الأولى في بعض الأعراض الانسحابية كالصداع والتوتر .. الخ، فإنه يمثل دفعة قوية لإرادة التخلص من تلك العادات تدريجيًا، لا سيَّما مع قصر الوقت بين الإفطار والسحور (أقل من 10 ساعات في المتوسط) فلا يساعد كثيرًا على الوصول إلى نفس معدلات التعاطي قبل الشهر الكريم.

اقرأ: التدخين والصحة .. لا داعي للمبالغة!

اقرأ: 6 خطوات للإقلاع عن التدخين .. الإرادة ليست منها

اقرأ: المرأة والتدخين .. لا تُقلِّدي الرجل في هذه الكارثة

اقرأ: دليلك للتغلب على صداع الكافيين في نهار رمضان

3. تنظيم الطعام والشراب

حتى إذا لم نستطعِ تقليل كميات الطعام بشكلٍ يسمح بفقدان الوزن، فلا أقل من بعض التنظيم حتى لا يصبح الطعام عبئًا صحيًا يعطلنا عن حسن استغلال ليالي رمضان. تكمن المشكلة الأشهر في وجبة الإفطار الثقيلة، التي تسبب الشعور الزائد بالتُخمة والخمول، بجانب مشاكل الجهاز الهضمي، والتي تدفع الكثيرين لقضاء ليل رمضان نصف متيقِّظين في أحسن الأحوال.

تقسيم وجبة الإفطار هو أفضل الحلول. يمكن مع آذان المغرب تناول السوائل والتمر، وجزءًا من وجبة الإفطار الرئيسة، وبذلك نكسر الجوع والعكس، ثم الانتظار لنحو ساعتين لإتمام وجبة الإفطار. أما السحور، فلا يفضل النوم بعده مباشرة، لأن ذلك قد يسبب معاناة الحموضة، وارتجاع المريء.

اقرأ: وجبة العشاء المتأخرة .. خطرٌ داهم يهدد صحتك

وبالنسبة لنوعيات الطعام، فيُفضَّل أن يكون أساس طعامنا هو الفواكه والخضروات والأطعمة المُشبعة ذات القيمة الغذائية العالية مثل البقوليات كالفول والعدس والشوفان، لا سيَّما في السحور، لكي نقلل إحساس الجوع طوال النهار. وبالنسبة للبروتين، فالأسماك والبيض واللحوم البيضاء هي الأفضل.

ولا ننسى شرب السوائل بوفرة، بما لا يقل عن 2.5 – 3 لترات يوميًا، وذلك لتجنب حدوث الجفاف نهارًا، وللحفاظ على حيوية الدورة الدموية، وتغذية كافة الأعضاء الحيوية بالجسم.

4. الحلويات الرمضانية

كلنا بلا استثناء نعشق الحلويات الرمضانية بمختلف أصنافها، ولا يمكن أن أقف في برجٍ عاجيٍّ للتنظير على نفسي وعليكم والدعوة إلى مقاطعتها بشكلٍ تامٍ لتجنب الآثار الصحية السلبية. البديل الواقعي، أن نستمتع بها باعتدال، وليس بشكلٍ يومي، ويفضل ألا يكون تناولها مع الوجبةِ الرئيسة، حتى لا تسبب الشعور بالتخمة.

5. النوم … النوم

من أشدّ ما يُفسد علينا رمضان، هو اضطراب مواعيد النوم والذي يتسبب به التغير المفاجئ في روتين اليوم مع حلول رمضان، واضطرار الكثيرين للسهر المتواصل إلى ما بعد صلاة الفجر وأحيانًا الشروق، ومن ثمَّ محاولة التعويض بالنومِ نهارًا، ولكن لا شيء يُغني عن النومِ ليلًا.

النظام الأمثل، هو محاولة أن يكون موعد النوم قبل منتصف الليل، ثم الاستيقاظ لتناول السحور، وعدم العودة النوم مجدَّدًا إلا بعد ساعةٍ على الأقل من السحور، يمكن قضاؤها في صلاة الفجر، ثم النوم لـ4 – 5 ساعات إضافية أخرى. وبذلك يمكننا أن نكون أكثر نشاطًا وحيوية في نهار رمضان وليله. وإن احتجنا لبعض القيلولة في النهار، فلن تكون طويلة.

اقرأ: القلق يقتُلُنا .. هل يمكن تنظيم النوم؟!

وللصحة النفسية نصيبُها

لا يمكنُ أن تنفصلَ الصحة الجسدية عن تلك النفسية، فهما متعانقتان كالجديلة، ومتلاحمتان كالسبيكة. ولذا فكل ما سردْناهُ سابقًا فيما يتعلق بصحة أجسامنا في رمضان، سينعكس بالإيجاب بلا شك على صحتنا النفسية.

وبالنسبة لمن شُخِّصوا بالفعل بالإصابة ببعض الأمراض النفسية، فيجب الحرص على الانتظام في تعاطي الأدوية، واستشارة الطبيب النفسي المُختص في وجود أو انتفاء موانع الصيام.

ويمكن لبعض التغييرات في روتينِنا الرمضاني أن تفعل فعلَها في تحسين حالتنا المزاجية والمعنوية:

  • الأولوية في رمضان للعبادة وللأسرة ولخاصة المعارف. فمن تسمحْ له ظروفه المادية والوظيفية بأن يتخفَّفَ من جانبٍ من أعماله وأشغاله، فلا يتردد في ذلك. وقد يعوِّض هذا وأكثر في باقي العام بما سيتزود به في الشهر الكريم من طاقةٍ إيجابية.
  • العبادة الجماعية في أماكن مفتوحة، تكون فيها الأيدي مُشرَعةٌ للسماء دون أن تصطدم بحوائط خرسانية، وتكون فيها العيون ذائبة في الملكوت دون حجاب الحياة المعاصرة السميك.
  • تقليص أوقات وسائل التواصل الاجتماعي إلى أقل حدٍ ممكن، واستبدالها ما أمكن بالتواصل الاجتماعي الحقيقي، وفي أماكن مفتوحة أيضًا وذلك مراعاة للأوضاع الاستثنائية التي فرضَها وباء كورونا.
  • السفر في صحبة عزيزة إلى أماكن هادئة تعين على الخشوع، وتساهم في كسر الروتين المعتاد، مثل محمية في الصحراء لمراقبة مواضع النجوم، أو منطقة ساحلية هادئة. ولحسن الحظ فليس رمضان موسمًا لازدحام معظم الوجهات السياحية.
  • تخصيص وقتٍ لهواياتنا المفضلة أثناء النهار، للتشاغل عن الجوع والعطش، مثل القراءة أو الكتابة أو الأعمال اليدوية… إلخ.
  • وضع جدول واقعي -ضع خطَّيْن تحت كلمة واقعي- بسيط للإنجازات الرمضانية اليومية على مستوى العبادات والاجتماعيات والعمل .. الخ وذلك حتى لا يُسرَقَ منَّا الشهر الكريم، ونقع في فخ جلد الذات، الذي يفتح الأبواب مٌشرَعةً أمام القلق النفسي والاكتئاب.

ختامًا، فلنتذكر دائمًا القاعدة الذهبية الواقعية التي تقول إن ما لا تُدرِكُهُ كلُّه، لا تترُك جُلَّه، ونضيف عليها: ولا تترك بعضه، والبعض كثيرٌ كبداية.