ليسَ هناك أدنى مبالغة في وصفي للتشتت الذهني بأنه مرض العصر، لا سيما بين الشباب، الذين تحتقن حواسهم وعقولهم بطوفان من المدخَلات والمشتِّتات على مدار الساعة، إلى جانب ما تزدحم به الحياة المعاصرة من المهام المتراكبة، ومصادر القلق المتوازية، وكاتب هذه السطور نفسه ينشغل ذهنُه بثلاثة أشياء على الأقل في نفس الوقت الذي تخطُّها فيه لوحة مفاتيحه. ولا شكَّ أن الهواتف الذكية ودوامات منصات التواصل الاجتماعي، قد فاقمت من ظاهرة التشتت الذهني ومضاعفاتها.

ولا غرْوَ أن يكون القضاء على التشتت الذهني من أبرز مُستَهدَفات المعنيين بالطب والصحة بوجهٍ عام، والطب النفسي بشكلٍ خاص. فهو من الأسباب القوية المؤدية إلى اضطرابات القلق والاكتئاب لدى كثيرين، لتأثيره السلبي الكبير على الفاعلية والإنتاجية، مما يضاعفُ الضغط النفسي الناشئ من تراكم المهام المتأخرة ونقص الجودة في إتمامها. وتلك الاضطرابات النفسية بدورها تنقل التشتت الذهني إلى مستوياتٍ خطيرة، وهكذا يدور الإنسان في دوامةٍ قاتلة من التشتت والقلق وفقدان الفاعلية.

والآن، عبر بعض الأسئلة وأجوبتها، سنعرف كيف يمكن التغلب على تلك الظاهرة المرضية التي تؤثر على الملايين منا، وتُهدِر الأعمار وطاقات العقول.

اقرأ: كيف أحمي طفلي من الاضطرابات النفسية

ما التشتت الذهني؟

هو عجز الإنسان عن التركيز الذهني في العمل الذي يقوم به، والاستسلام للمُشتِّتات الداخلية (مثل الأفكار والهواجس) أو الخارجية (تصفح مواقع التواصل، مهام أخرى مطلوبة لاحقًا، مكالمات… إلخ). إلى هنا، سنجدُ أننا جميعًا ينطبق علينا هذا التعريف، لا سيَّما عندما نكون في فترةٍ من ضغط العمل والدراسة، أو عرضة للإجهاد ونقص النوم، فهل كلنا مصابون بمرض التشتت الذهني؟ الحد الفاصل هو مدى التأثُّر السلبي لحياة الشخص اليومية، وحالته النفسية، وأنشطته، بهذا التشتت الذهني.

ووصف التشتت الذهني بمرض العصر ليس فيه أدنى مبالغة، فهو يؤثر سلبًا على القدرة الإنتاجية الذهنية لمن يعاني منه بنسبة كبيرة قد تصل أحيانًا إلى 96%. وأظهرت دراسات أخرى أن الفرد في المتوسط يتشتت ذهنيًا لحوالي 47% من وقته خارج المهام الأساسية المطلوبة منه بمختلف أنواعها. بل أظهرت نتائج بحثية أخرى أن الفرد أثناء عمله على الحاسوب يتشتت ذهنه بمؤثرٍ خارجي كل 40 ثانية في المتوسط.

يؤدي التشتت إلى التأخر في إنجاز المهام عن مواعيدها، أو إنهائها بجودةٍ قليلة، وإغفال بعض التفاصيل المهمة في العمل وفي نطاق الأسرة، واختلال العلاقات الاجتماعية والأسرية، ويؤثر في النهاية سلبًا على الصحة الجسمانية نتيجة اضطرابات النوم الناجمة عن القلق وعن السهر من أجل استدراك المهام الفائتة، وانتقاء القدرة على تنظيم الحياة اليومية بشكلٍ صحي يتضمَّن وقتًا للرياضة وللأنشطة الاجتماعية الحميمية.

هل يمكن أن يكون التشتت الذهني عرضًا لمرضٍ نفسي خطير؟

هناك عديد من الاضطرابات النفسية المهمة التي يكون التشتت الذهني الزائد على الحد من أبرز أعراضها، لا سيَّما عندما يعطل الإنتاجية اليومية للإنسان، أو يقلل فاعليته بشكلٍ ملموس. من أبرز تلك الاضطرابات متلازمة قصور الانتباه وفرط الحركة ADHD والشائعة في الأطفال، إلا أنها تظهر أيضًا لدى البالغين، وتسبب لهم مشكلاتٍ عويصة في دوائر العمل والعلاقات الاجتماعية، واضطراب القلق العام، واضطراب الهوس الاكتئابي ثنائي القطبية، والسكيزوفرينيا، وكذلك إدمان المواد المخدرة أو الكحوليات. وهناك بعض الأمراض الجسمانية التي قد تؤدي إليها مثل اختلال الوعي الناجم عن القصور الكلوى أو التليف الكبدي.

ولذا فالأولوية في حالات التشتت الذهني الشديد هي للكشف الطبي الاختصاصي، لاستبعاد وجود تلك الأمراض النفسية والجسمانية، وفي حالة وجودها، فعلاجها بفاعلية هو الخطوة الأولى الحتمية للقضاء على التشتت الذهني.

اقرأ: الهايبومانيا: عن الخيط الرفيع بين السعادة والهوس

اقرأ: فرط الحركة: كثيرون حول الهريْ.. قليلون حول الحقيقة

هل يمكن أن يؤدي التشتت الذهني إلى الإصابة بالاضطرابات النفسية؟

بالطبع، فالأمر كما ذكرنا في صدر المقال أشبه بالحلقة المفرغة. يؤدي التشتتُ الذهني وضعف القدرة على التركيز في المهام المطلوبة إلى انخفاض أداء المرء في العمل، وتأخر إنجاز المطلوب منه في الوقت المناسب، مما يضعه تحت ضغطٍ نفسي كبير، يؤدي إلى الإصابة بدرجات مختلفة من التوتر النفسي، قد تؤول به إلى الإصابة باضطراب القلق العام. ويؤدي اضطراب القلق النفسي إلى إضعاف قدرة الإنسان على التركيز أكثر، فيتفاقم التشتت الذهني أكثر، فيُضرم نيران القلق أكثر، وهكذا ندور في حلقة مفرغة.

كيف يمكن علاج التشتت الذهني؟

باديء ذي بدء، يجب استبعاد الأسباب المرضية الكبرى، واستشارة الطبيب النفسي وتلقي العلاج المناسب دوائيًا ونفسيًا وفق المطلوب لكل حالة مرضية. والآن في نقاطٍ سريعة نلخص خطة المواجهة ضد التشتت الذهني.

1. السيطرة على المدخلات

أولى وأهم خطوات علاج التشتُّت الذهني وأصعبُها هي السيطرة على الكم الهائل من المُدخلات التي تهاجم حواسَّنا على مدار الساعة، وتستهلك جانبًا كبيرًا من طاقتنا الذهنية على مستوييْ الوعي واللاوعيْ، لا سيَّما وهي تطاردُنا في أوقات العمل والراحة، عبر هواتفنا الذكية وشاشات حواسيبنا.

يجب تحديد عدد ساعات استخدام الهواتف والحواسيب، وهناك عديد من التطبيقات المتاحة التي تقيس الوقت الفعلي لاستخدام الأجهزة، وتفاصيل الاستخدام، التي من خلالها سنعلم أي التطبيقات تستهلك أوقاتنا أكثر، وكذلك تصدر تنبيهًا عند تجاوز عدد معين من ساعات الاستخدام. وعلى كل فرد أن يضعَ خطته التدريجية في تقليل الاستخدام وفق ظروفه الخاصة.

2. التدرب على السيطرة على الذات

نحن بالفعل ضحايا لطوفان هائل من المشتتات الخارجية المحيطة بنا، لكن استجابتنا لها هي مسئوليتنا الكاملة. يجب أن نفهم أنفسنا جيدًا، ونتعرف على نقاط ضعفنا التي تدفعنا للاستسلام للمشتتات، ومحاولة التغلب عليها. على سبيل المثال، الملل الشديد من العمل الذي نقوم به، أو الشعور بعدم التقدير، مما يدفعنا إلى الهروب بالتشتت الذهني. لا حل لتلك الدوامة إلا بأن نطور من أساليب العمل فنجعله أكثر إمتاعًا أو على الأقل أخفَّ إملالًا، أو البحث عن عملٍ إن لزم الأمر.

ويجب كذلك تدريب النفس على الصبر تدريجيًا، وعلى تجاهلها الرغبات الداخلية في الميل للتشتت، أو صرف الذهن من التشتت السلبي، إلى التركيز على تفاصيل المهمة التي أمامنا، وتسلية النفس بالجوانب الإيجابية في ما نقوم به.

وتوفر تدريبات العلاج الجدلي السلوكي DPT التي يتقنها المعالجون النفسيون فرصة جيدة لتحسين الانتباه الذهني mindfulness، مما يحسن الفاعلية والحالتيْن المزاجية والنفسية، ويساعد في السيطرة على الذات إزاء المغريات بالتشتت.

3. أولويات واقعية لحياتنا

من أحب أسباب التشتت الذهني عدم القدرة على وضع خطة منطقية لأولوياتنا الشخصية في الحياة، سواءً في مساحتي الأسرة والعمل أو غيرها. مما يدفعنا للتشتت لمحاولة مطاردة عديد من المهام في آنٍ أو الغرق في دوامات المثالية الزائفة أو نشدان الكمال. يجب أن نعترف بأننا بشر قاصرون، ذوو قدراتٍ نفسية وجسدية وظرفية محدودة، يجب توجيهها إلى عدد محدَّد من الوظائف والمهام، مع ترتيب الأولويات، فلا نُكلِّف أنفسَنا وأذهاننا إلا وُسَعها.

4. نومٌ أكثر استقرارًا

ليس هناك ما يمكن أن يجدد الطاقة الذهنية والنفسية والجسدية مثل النوم الجيد لعدد ساعاتٍ مناسب دون منغصات كرنَّات الهواتف وتنبيهاتها. في المقابل، فإن نقص النوم، وما ينجم عنه من إجهادٍ نفسي وبدني بالغ، من أبرز عوامل التشتت الذهني، وانتقاء القدرة على التركيز الجيد.

 يجب على كلٍّ منا أن يحارب بكل ما تحمله الكلمة من معنى لكي يدافع عن أوقات النوم المستقرة على الأقل 6-8 ساعات ليلًا، وحبذا لو صاحب هذا النوم مبكرًا، لاستقبال اليوم التالي مع تباشير الصباح الأولى، فيصبح لدينا مزيد من الوقت والطاقة لإتمام ما نريد.

اقرأ: أشهر 8 خرافات حول الأدوية النفسية

5. الرياضة المعتدلة

من أفضل ما يرفع الحالتيْن المزاجية والنفسية، ويساعد في تحسين التركيز، وتصفية الذهن أولًا بأول، ممارسة الرياضة المعتدلة بانتظام، لا سيّما الألعاب الجماعية الممتعة ككرة القدم، لقدرتها على امتصاص المرء في تفاصيلها وإثارتها. والحد الأدنى من الرياضة المعتدلة المطلوب لمواجهة التشتت الذهني هو 30 دقيقة من المشي يوميًا، أربعة أيام في الأسبوع. كما أن الرياضة المعتدلة تُحسَّن اللياقة البدنية، وبالتالي الطاقة الذهنية، والجسم والعقل يتداخلان ولا ينفصلان كما نعرف، وما يفيد هذا، يستفيد منه ذاك.

6. الطعام الصحي المعتدل وشرب السوائل بوفرة

الوجبات الثقيلة الدسمة تقلل كثيرًا القدرة على التركيز الذهني لساعاتٍ، وكذلك يفعل الجفاف حتى لو كان محدودًا. في المقابل، تناول عدة وجبات صغيرة متكاملة ومغذية، وموزعة جيدًا على مدار اليوم، يحسن الطاقتيْن الذهنية والبدنية بشكلٍ كبير. وشرب السوائل بوفرة يحسن من كفاءة الدورة الدموية وفاعليتها، فيساعد مع التغذية الجيدة في توافر الوقود اللازم للمخ لشحذ الذهن، وتنفيذ المهام العقلية بكفاءةٍ وتركيز.

7. التفاعل بدلًا من الانعزال

كلما جعلنا أنشطتنا أكثر تفاعلية، وجماعية، كلما قلت فرصة الاستسلام للتشتت الذهني، فالنقاش مع الآخرين، وتبادل الأفكار، يبقي التركيز مُنصبًّا على المهمة المطلوبة. أما إذا اضطررنا لمهام لا مفر من كونها فردية، كالمذاكرة، فإشراك عديد من الحواس، أفضل. على سبيل المثال، أكدت دراسة علمية أن استخدام القلم في كتابة الملحوظات والهوامش، وفي التخطيط حول النقاط المهمة، أثناء المذاكرة، يحسن التركيز قليلًا، ويقلل التشتت الذهني، بعكس استخدام لوحة المفاتيح على الحاسوب.