يحاول الرسم أن يُقدم ما فشلت اللغة في تقديمه، علاقة أكثر رحابة وشفافية بين الإنسَّان والأشياء. تمامًا كما يقول «ميشيل فوكو»:

علاقة اللغة بالرسم علاقة لا متناهية، لأن الكلمة غير كاملة وتقع إزاء المرئي في عجز تجهد عبثًا لتجاوزه، لأنهما لا يُمكن أن يُختزل أحدهما الآخر، فعبثًا نقول ما نراه، لأن ما نراه لا يسكن أبدًا فيما نقول، وعبثًا عملنا على أن نجعل الآخرين بالصور والإستعارات والمقارنات يرون ما نقوله الآن.

لذلك أمام هذه اللغة الرمادية، الموسوسة والمكررة دائما أضاء الرسم، كحل لعلاقة رمادية بين الكلمات والأشياء، علاقة يعمل الرسم على جعلها أكثر شفافية.

لكن ألا يكون لزامًا علينا أولًا أن نتعلم كيف نقرأ لوحة ما لنفهم تلك اللغة الصامتة بين الإنسان والرسم! اللوحة كالإنسان، مكونة من طبقات نفسية، من السطح وحتى الأعماق، كل طبقة تساعد في فهم ما هو أعمق منها. ويمكن ببساطة قراءة أي لوحة اعتمادًا على تكنيك معين سنشرحه هنا. لكن قبل كل شيء علينا أن نعي أن قراءة لوحة ما ليست عملية حسابية 1+1=2 وأي نتيجة أخرى ستكون خطأ، على العكس، لا يوجد تأويل بعينه صح أو تأويل بعينه خطأ؛ هي فقط محض تأويلات تعكس مِن الرائي تماما بقدر ما تعكس مِن اللوحة. فإذا كان شخص ما بصدد قراءة لوحة ما.. فهو يقرأ مِن نفسه كما يقرأ من اللوحة.

سنبدأ بخطوات بسيطة تساعدنا على فهم اللوحات ببساطة وخطوة خطوة.


أولًا: ألق نظرة

جمال اللوحة يكمُن في الحبكة التي تنطوي عليها اللوحة إلى جانب أسلوب الرسم. ألق نظرة فاحصة على اللوحة. قد لا يلفت العمل نظرك للوهلة الأولى لكن بالتعمق فيه يجذبك تمامًا. لا تعتبر أن لوحة ما جميلة أو أخرى قبيحة قياسًا على مفهومك للجمال. الفن ليس هدفه أن ينال إعجابك بقدر ما يثير داخلك التساؤل. ألق نظرة.. أعط للوحة فرصة..


ثانيًا: اللوحة عن ماذا؟

قد تكون اللوحة عن شخص، عن أحداث تاريخية، عن تضاريس بيئية، مشاهد الحياة اليومية، حيوانات، حالات نفسية وعاطفية، .. إلخ. بعض اللوحات ليس لها موضوع؛ وهو ما يعرف بالفن التجريدي. يعتمد الفن التجريدي على نزيف الألوان على القماش، تناول الرائي لهذا النزيف هو ما يعطيه معنى بالاشتراك مع العنوان الذي أعطاه الرسام للّوحة.


ثالثًا: ما الذي يعنيه هذا المحتوى؟

سنحدد هنا ثلاث خطوات بسيطة اعتمادًا عليها نستطيع تكوين شرح أو قراءة مبدئّية للعمل. سنفترض أننا أم عمل لا نعرف عنه أي شيء؛ لا الرسام ولا تاريخ العمل ولا اسم العمل ولا أي شيء. سنبدأ كالآتي:

1. سنبحث عن اللوحة على الانترنت (بحث بالصورة).. سيظهر لنا اسم العمل والرسام والعديد من التأويلات التي تتناول العمل والمتحف الذي استقر فيه العمل أو المزاد الذي بيع فيه.

2. قبل قراءة التأويلات الموجود للعمل إن وجدت؛ ابحث عن الرسام وسيظهر لك العديد من المواقع التي تتناول سيرته. معرفة سيرة الرسام والمدرسة التي ينتمي إليها خطوة مهمة جدًا جدًا في فهم طبيعة العمل. مثلا لو أن اللوحة ظهر فيها الكثير من الأشكال الهندسية قد تبدو منفرة للرائي الذي يفضل مثلًا الخطوط الانسيابية البسيطة! بالبحث قد تظهر اللوحة على أنها لبابلو بيكاسو مثلًا.. سنعرف أنه ينتمي للمدرسة التكعيبية وللتكعيبية فلسفة خاصة وهكذا.. قد تجد أن ما نفرت منه في البداية يعبر بشدة عنك في أعماقه.

3. تحليل الرموز وتأسيس المعنى..

الآن عرفنا محتوى اللوحة والرسام ومدرسته وعنوان اللوحة. اللوحة كما قلنا سالفًا كالإنسان؛ قد تحتاج قراءة سطحية وبسيطة وقد تحتاج تحليل وسبر أغوار. سنبدأ الآن في تحليل الرموز لتأسيس معنى؛ هذا المعنى سيتخذ مسحة شخصية من حياتنا عند تلاوة قراءتنا الأخيرة للعمل. لذلك، فإن خيال القارئ يلعب دورًا مهمًا في تعميق قيمة اللوحة وتأثيرها وانعكاسها عليه.

قد يرى شخص مثلا في مشهد فتاة تحتضر أنه مجرد مشهد لفتاة تحتضر، وهذه تُعد بحق قراءة بسيطة للمشهد وكما قلنا سالفًا، ليس هناك قراءة صحيحة وقراءة خاطئة، هي محض تأويلات تعكس مِن اللوحة بقدر ما تعكس مِنَّا. فيما قد يرى شخص آخر أن مشهد فتاة تحتضر استنادًا لحياة الرسام الذي كان يعاني مثلًا من الوحدة والخلل العقلي، أنه مشهد لانهيار حياة الفنان واحتضاره الشخصي ورفضه للحياة! قد يستند البعض إلى أن لغة جسد الفتاة التي تحتضر يدل على مقاومة الموت فيفسر ذلك على أنه رغبة الرسام في الحياة. أو يفسر لغة جسدها على أنها مستسلمة للموت فيعتبر ذلك نزعة انتحارية لدى الرسام. وهكذا، تتعدد التأويلات والرؤى إلا أنها جميعًا تشترك في شيء واحد: أنَّ تفسيرنا للّوحة ما يفسرنا نحن كما يفسر اللوحة.


فيما يلي بعض اللوحات التي سنحاول تطبيق التكنيك والخطوات السابقة عليها وتقديم قراءة مبدئية عنها. لكن على القاريء معرفة معلومة بسيطة قبل الولوج لهذا العالم: السواد الأعظم من الرساميين وخاصة منذ القرن التاسع عشر وحتى أواخر القرن العشرين كانوا يعانون من أمراض عقلية وحالات نفسية مرضية أقلها الاكتئاب الشديد. لذلك وجب على من يتناول أعمال الرساميين في تلك الفترة، والرسامين ككل وبشكل عام، أخذ طبيعة الحياة النفسية للرسام بعين الاعتبار، كذلك، تفسير أعماله أحيانًا مِن منطلق هذا المرض النفسي أو العقلي.

اللوحة الأولى: لوحة الصمت لهنري فوسيلي

لوحة الصمت لهنري فوسيلي

الخطوة الأولى: ألق نظرة على العمل قد يجذبك ما تراه، قد تشعر أن العمل يلمس فيك حالة نفسية بعينها!

الخطوة الثانية: اللوحة عن ماذا؟ امرأة تجلس منطوية على نفسها، ولا يبدو منها أي ملامح.

الخطوة الثالثة: بالبحث عن الصورة على الانترنت سنجد أن اللوحة بعنوان الصمت رسمت عام 1800، للرسام هنري فوسيلي (1741- 1825).

الخطوة الرابعة: من هو هنري فوسيلي؟ ابحث عن الرسام بدون اسم اللوحة وكون فكرة عامة عنه. سيساعدك هذا في التعرف على العديد من الأعمال له وطبيعة وأسلوب رسمه.

هنري فوسيلي (7 فبراير 1741 – 16 أبريل 1825) هو رسام بريطاني من أصل سويسري، الابن الثاني بين ثمانية عشر طفل للرسام جوهان كاسبر فوسيلي، رسام مناظر طبيعية وبورتريهات كما إنه يُعتبر أحد المؤرخين الفنيين. درس هنري فوسيلي في البداية في جامعة كارولين في مدينة زيورخ الألمانية حيث أراد له والده أن يكون قس. هنري فوسيلي كان يميل لرسم المواضيع الخارقة وحالات الإنسان النفسية شديدة الكآبة والتعقيد. كان يرى أن لابد للرسم من أن يكون ذات طابع ما ورائي متجاوز، وقد كان هذا بسبب تأثره الشديد بمايكل آنجلو [1] والميثولوجيا التي قدمها.

الخطوة الخامسة: ما الذي يعنيه المحتوى؟ لوحة «الصمت» (1800) للرسام هنري فوسيلي عبارة عن امرأة تجلس منغلقة على نفسها في وضعيّة القرفصاء يغطي شعرها وجهها. ماذا نفهم من هذا المشهد؟ هنا يحضر ما قلنا سابقًا أنه انعكاسنا على اللوحة وانعكاس اللوحة علينا.

أين تجلس المرأة؟ هناك ظلام.. ظلام يُغلف المرأة، وكأن المشهد كله جزء مِن كهف داخلي. وكأنها تجلس في أكثر كهوف النفس عتمة. المشهد لا يفرض أي حكاية أو سيناريو عاطفي.. فنحن لا نعرف المرأة ولا قصتها، كلّ ما ندركه هو الصمت المطبق الذي يفرض نفسه كرمز ميتافزيقي متجاوز؛ في مشهد لا يمكن أنْ يكون أكثر وضوحًا، فلو سُلب العنوان مِن اللَّوحة- ستجد نفسك تلقائيًا تُطلِق عليها «الصمت».. بكل ما يحتويهِ الصمْت من عزلة، خوف، وحدة وانفراد بالنفس.

رأس المرأة يكاد يكون محاط بذراعيها.. وكأنَّ الجسد يحتضن الرأس الذي يحاول الغرق فيه. فالمرأة غارقة تمامًا في نفسها.. في كهفها. تعطي الشدة الواحة في التكوّر على النفس اِنطباع أنَّ المرأة تحاول جاهدة حضن نفسها. ببساطة شديدة، يعبر المشهد عنْ لغة الصمت المجردة: الانطوائيّة، العتمة، العزلة.

اللوحة الثانية: بورتريه لجيركو

الصمت، هنري فوسيلي
الصمت، هنري فوسيلي
جيركو
الخطوة الأولى: ألق نظرة على العمل، بعض الأعمال قد لا تجذبك من النظرة الأولى على الرغم من أنها قد تكون شديدة الصلة بحالاتك النفسية.

الخطوة الثانية: اللوحة عن ماذا؟ يبدو أنه رأس رجل. وماذا أيضًا؟ الألوان قاتمة والملامح غير واضحة.

الخطوة الثالثة: بالبحث بالصورة على الإنترنت سنجد أن اللوحة هي بورتريه شخصي للرسام ثيودور جيركو (1719- 1824) رسمه لنفسه قبل وفاته بفترة بسيطة.

الخطوة الرابعة: من هو ثيودور جيركو؟ جان لويس ثيودور جيركو (Jean-Louis André Théodore Géricault) هو رسام فرنسي ويعتبر أحد رواد المدرسة الرومانسية في الرسم. هنا تأتي أهمية أن نقرأ عن الرسام منفردًا بعيدًا عن اللوحة. تساهم معرفتنا بطبيعة الحالة العقلية للرسام في تفسير البورتريه الأخير له قبل وفاته. جيريكو كان يعيش فترات متقطعة مِن المرض العقلي كما أن أسرته عرفت بتاريخ طويل من الأمراض العقلية. وعلى الرغم من مرضه العقلي لوحاته عالجت عدة مواضيع إنسانية كمحاكم التفتيش في أسبانيا وتجارة الرقيق وحملت طابعا رومانسيا، صور الوجود الإنساني في معظم لوحاته هش ومريض وتائه.

الخطوة الخامسة: ما الذي يعنيه المحتوى؟ رسم جيريكو نفسه عجوزا مع أنه كان لا يزال شابًا (32 عام)، فاقد القدرة على الرؤية والسمع والشم والكلام. تبدو ملامح جيركو في اللوحة وكأنها منصهرة ومنهارة تمامًا. وكأنها تحملت ما لا طاقة لها به. توفى جيريكو بعد رسمه هذه البورتريه عن عمر 32 عام، كأنه كان يقول من خلال لوحته “اكتفيت،” قطع هو سُبل التواصل مع العالم، تخلص من العالم قبل أن يتخلص العالم منه.


ختامًا، قراءة اللوحات تعكس مِنَّا بقدر ما تعكس من الرسام. نحن بدورنا نقرأ أنفسنا عندما نقرأ لوحة. والجميل في الأمر أنه لا يوجد تأويل صحيح وتأويل خطأ هي محض تأويلات فقط تتردد في فضاء واسع بقدر سعة النفس البشرية. قراءتك لعمل ما وإن اختلفت عن قراءتي هذا لا يعني قصور عندي أو عندك. هي فقط تجاربنا الإنسانيّة المختلفة نتناول بها اللوحات من مناظير مختلفة. إلا أننَّا وعلى كل حال في النهاية لا يجب أن نحيد عن الانغماس في الفن بكلّ ما أوتينا مِن قوة. الأمر ليس عن رفاهية، بل لأن الجماليات، وقد تكون الجماليات وحدها، هي من تستطيع حقًا أن تُنقذ العالم من انهياره المُرتقب. تمسك بالجمال أينما كنت، وفي أي شيء، ولو في أدق التفاصيل، ولو في أبسط الأشياء، ولو في وردة لتوها تفتحت.


[1] مايكل آنجلو رسام ونحات وشاعر ومهندس إيطالي من العصور الوسطى، وهو صاحب لوحة «خلق آدم» ويمتد تأثيره على كل المدارس والعصور الفنية اللاحقة له.