انتهينا من تناول خطة لقراءة روايات نجيب محفوظ الواقعية، لنبدأ رحلة جديدة مع صاحب نوبل، والذي أثار كثيرًا من الجدل عند تناوله الرموز، ولنبدأ كما اعتدنا بأسباب لقراءة أعمال نجيب محفوظ الرمزية.

لماذا تقرأ نجيب محفوظ الرمزي؟

قد تكون الآراء حول رواية رمزية مثل «أولاد حارتنا» دافعًا للابتعاد عن قراءة نجيب محفوظ، أو على الأقل التوقف عند المرحلة الواقعية وتجنب الخوض في رحلة مثيرة، فيما الحقيقة أن قراءة الروايات الرمزية لنجيب محفوظ كافية للتوقف عن التذمر من الرجل وستنهي كل هذا الجدل بسهولة، فكما حدث مع محاولة اغتيال الرجل، فإن مغتاله لم يقرأ الرواية، فلا تفعل مثله، وحاول أن تجد المساحة الكافية لقراءة والاستمتاع بتجربة ربما لا مثيل لها في الأدب العربي كله.

رحلة القراءة

عندما بدأت في قراءة نجيب محفوظ لم يكن لدي دليل واضح للرحلة، وبعد الانتهاء منها قرأت كتاب جورج طرابيشي «الله في رحلة نجيب محفوظ الرمزية» المنشور عن دار الطليعة ببيروت عام 1973، وهو أفضل دليل ممكن لقراءة الرجل، لذلك سأستعين به معظم الوقت في بناء الرحلة والتعقيب على أعماله.

المرحلة الأولى (القراءة للتخلي)

في هذه المرحلة سنبدأ برواية «أولاد حارتنا» لا لمتعة فنية فيها، بل فقط للتخلي عنها والاستمتاع بالرحلة، فالرواية الأكثر مبيعًا عامًا بعد عام لا تمثل إلا مجرد محاولة بدائية لكتابة رواية رمزية، والأهم هو التخلص من عبئها للالتفات لقراءة أعمال الرجل المهمة.

أولاد حارتنا

كتبت الرواية في حلقات نشرت في جريدة الأهرام، ثم منعت لسنوات طويلة قبل أن تنشر كاملة في مصر بعد نشرها في لبنان، الرواية الصادرة عام 1962 في لبنان بعد عام تقريبًا من نشرها تتحدث عن عالم الحارة الذي يمثل الدنيا، فيما شخوصها الأساسيون هم الأنبياء بداية من أدهم، فموسى، فعيسى فمحمد عليهم السلام، انتهاء بعرفة، وهو نبي العلم في الفصل الأخير.

يقول جورج طرابيشي في كتابه، إن نجيب محفوظ حاول كتابة تاريخ الإنسانية من منظور التراث العربي الإسلامي، وهي مهمة شديدة الصعوبة، ولم يوفق نجيب في تقديم رواية متماسكة لأنه حاول الالتصاق بالتاريخ الفعلي لهؤلاء الأنبياء، فيما الفصل الأول، والأخير من الرواية هما الأفضل، لتتبعهم في الأول خروج آدم من الجنة، وهي في الأساس قصة جيدة على مستوى الحبكة، والأخيرة لأنها من خيال نجيب محفوظ بالكامل.

في النهاية يبدو الهدف من «أولاد حارتنا» هو تجريب نمط جديد للكتابة، وككل التجارب الأولى يجانبها الصواب أكثر ما تصيبه، وسيتدارك محفوظ تلك المشاكل سريعًا في باقي روايته ليتيح لنا الفرصة للاستمتاع بمجموعة متفردة، ولا مثيل لها تقريبًا في الأدب العربي لروايات تناولت موضوعات شديدة التعقد كدور الإله، رحلة الحياة وعدالة الزمن في روايات توجهت بما يمكن اعتباره أفضل ما كتب باللغة العربية.

أولاد حارتنا: سيرة الرواية المحرمة

يمكن استكمال هذه المرحلة القصيرة بكتاب نقدي للصحفي محمد شعير بعنوان «أولاد حارتنا: سيرة الرواية المحرمة» صادرة عن دار العين المصرية عام 2018، سيعطيك فرصة للتعرف على تفاصيل الرواية، وظروف كتابتها، ورأي نجيب محفوظ فيها.

المرحلة الثانية (البداية الحقيقية)

نبدأ مع سلسلة من الروايات التي صدرت ما بين 1961 و1971 عقد كامل عمل فيه نجيب على شحذ أدواته لإنتاج روايات تتناول الأسئلة الكبرى برمزية غير مفتعلة.

اللص والكلاب

بداية جيدة جدًا لرحلة الرمزية، فالقصة شهيرة للغاية، السفاح محمود أمين سليمان، الرجل الذي ظل متصدرًا عناوين الأخبار لفترة طويلة، إضافة للفيلم الذي قدمه برؤية مختلفة، إطار عام مشوق، جرائم قتل، ونساء يتلاعبن بالرجال وخيانة ومشاهير، عناصر تصنع قصة مشوقة لكن قدمها نجيب في إطار عام خفي يتناول بها علاقة الإنسان بالحياة وأدخل عناصر الصوفية التي ستصبح سمة أساسية في باقي أعماله.

دنيا الله

مجموعة قصصية فيها الإرهاصات الأولى لصورة الإله، كما يبين لنا طرابيشي في كتابه، قصة الزعبلاوي وهو الاسم المشابه للجبلاوي الذي تصوره نجيب كالإله الحاكم، واحدة من أفضل القصص في المجموعة ومفتاح لفهم تطور نجيب بتحوله عن طموحه برواية تاريخ العالم لصالح طموح أقل لكنه أعمق، برواية رحلة الإنسان العادي في الدنيا وبحثه عن الله، وهي تيمة ستتكرر في روايات أخرى.

أنصح بقراءة المقالات النقدية للروائي أحمد الفخراني الذي وجد طريقة مثالية لمناقشة قصص نجيب محفوظ.

الطريق

رواية صدرت عام 1964، ولا أجد أفضل مما قدمه طرابيشي لفهم الأبعاد الأساسية للرواية «هي بدورها قصة بحث عن زعبلاوي، ولكن باسم جديد هذه المرة: سيد سيد الرحيمي. ومن الممكن لنا على الفور أن نتبين ما في هذا الاسم من رمزية: فالله هو السيد، وهو الرحمن الرحيم، وهو أخيرًا سيد بني الرحم، أي البشر والحق أن رواية «الطريق» قابلة كلها لكي تفسر على مستويين: المستوى المباشر، الواقعي، والمستوى اللامباشر، الرمزي. وعلى المستوى الأول لا تعدو أن تكون قصة بحث عن أب، ولكنها على المستوى الثاني قصة بحث عن الأب، أي الله».

الشحاذ

استكمالًا لرواية «الطريق»، تبدو رواية «الشحاذ» الصادرة بعد عام واحد مكتوبة في مستويين، عمر الحمزاوي يبحث عن حل للملل الذي صاحب حياته الناجحة، وفي مستواه الأعمق هي رحلة الإنسان في البحث عن المعني، ومغزى الحياة.

حكاية بلا بداية ولا نهاية

مجموعة قصصية متميزة لنجيب محفوظ صدرت عام 1971، يظهر فيها الرمز في ثلاث قصص أساسية هي «حارة العشاق»، الرجل الذي فقد ذاكرته مرتين وقصة «حكاية بلا بداية ولا نهاية»، وواجهت قصة حارة العشاق مشكلة كبيرة في تفسيرها ورأى نجيب محفوظ أن الآراء المختلفة حولها لم تتمكن من فهمها بشكل كاف، غير أن ما قدمه جورج طرابيشي في كتابه النقدي نال إعجاب محفوظ حتى أنه أرسل له رسالة يقول فيها:

بصراحة أعترف لك بصدق بصيرتك، وقوة استدلالك، ولك أن تنشر عني بأن تفسيرك للأعمال التي عرضتها هو أصدق التفاسير بالنسبة لمؤلفها.

يرى طرابيشي أن قصة حارة العشاق هي:

ليست قصة يقين، بـل قصة شك ليست قصة بحث عن زعبلاوي وإيمان بضرورة الوصول إليه، بل قصة ما بعد الوصول والجواب الذي ينقلب أبدًا من جديد سؤالًا. وهي أيضًا، بعكس قصة زعبلاوي، ليست قصة رحلة معكوسة أو انحداريه في مدارج المعرفة، بل قصة رحلة ارتقائية من أشكال المعرفة الأدنى إلى أشكالها الأعلى. بطل القصة موظف صغير يدعى عبد الله. تزوج قبل خمس سنوات عن حب عارم من تدعى هنية، وعاش معها حياة لا تعرف غير الكدح في سبيل لقمة العيش. وأن تكون في الوقت نفسه حياة سعيدة ملؤها الحب والطمأنينة. إلى أن رقي من مجرد موظف أرشيف خارج الهيئة إلى مراجع وحدة «ينتهـي عمله في تمام الثانية بعد الظهر مثل كبار الموظفين»، وعلى كل، فإن مفتاح حارة العشاق ينبغي البحث عنـه. في رأينا. على مستوى استمرارية رؤيا نجيب محفوظ، أو على مستوى استمرارية «مسأليته» (Problematique) التي تمثل فيها مشكلة الله مشكلة مركزية.

في نهاية هذه المرحلة أرى أن كتاب جورج طرابيشي هو أفضل خاتمة له.

«الله في رحلة نجيب محفوظ الرمزية»

صدر الكتاب في مارس 1975 عن دار نشر الطليعة اللبنانية، وقدم فيه طرابيشي رؤيته الثاقبة لعدة روايات وقصص هي «أولاد حارتنا، زعبلاوي، الطريق، الشحاذ، ثرثرة فوق النيل، حارة العشاق، حكاية بلا بداية ولا نهاية»، وكنت أتمنى أن يتناول الناقد الكبير أهم أعمال محفوظ الرمزية رواية «ملحمة الحرافيش» والتي ستحتل وحدها المرحلة الثالثة من رحلتنا.

المرحلة الثالثة (الملحمة)

ملحمة الحرافيش

أصبح من المعتاد تذكر رواية ملحمة الحرافيش باسمها المختصر «الحرافيش» كتبت الرواية عام 1977، وبلا مبالغة أعتقد أن هذه الرواية هي أهم أعمال نجيب محفوظ وأهم رواية عربية ولا تقل بأي حال عن كل الأعمال الكلاسيكية الأشهر في العالم، وبها يتوج أديب نوبل أعماله الوجودية الرمزية بعمل مكتمل في كل أركانه، من اللغة الشاعرية الأسطورية إلى الحكايات المتقنة، إلى الرمز والأسئلة الكبرى التي وجدت طريقها في كل حكاية من الحكايات العشر للرواية.

تحكي الحرافيش حكاية عشرة أجيال من أسرة المؤسس الأول عاشور الناجي، تبدأ بحكاية نجاته وصعوده وتنتهي بقصة التوت والنبوت وفيها يظهر عاشور الناجي كاسم فقط حمله أحد الأحفاد في نهاية الرواية كتتمة لحكاية دائرية.

تذخر الرواية بالرمزية في كل قصة، وفي داخلها نثر محفوظ أبيات شعر فارسية للشيرازي مستفيدًا من تطابق الأبجدية الأساسية للعربية والفارسية ما يجعلها مستساغه في القراءة، وإن كانت غير مترجمة ما يضيف فقط كلمات منغمة وشاعرية من دون أن يظهر معناها فتبقى محتفظة بنفس الأسطورية المسيطرة على النص.

أما افتتاحيه الرواية، فهي من أجمل ما قرأت وبسهولة ستعلق في ذهنك لسنوات: «في ظلمة الفجر العاشقة، في الممر العابر بين الموت والحياة، على مرأى من النجوم الساهرة، على مسمع من الأناشيد البهيجة الغامضة، طرحت مناجاة متجسدة للمعاناة والمسرات الموعودة لحارتنا».

لا يمكن سبر غور الحرافيش بسهولة، ولا أظن أن أحدًا من النقاد قد قدم ما يمكن تعريفه كشرح واف للرواية، ولا تتوقف أبدًا عن الإبهار في كل قراءة لها، ولا أظن أنها رواية يمكن أبدًا الاكتفاء منها أو التوقف عند قراءتها في أي لحظة، فبمجرد البدء فيها ستجد نفسك غارقًا في عوالم أسطورية منظمة البناء بلغة شاعرية ورموز تظهر في كل مرة بشكل مختلف مع اختلاف توقيت القراءة واستقبالك لها، لا أظن أن كثيرًا من النصوص العربية يمكن أن توصف بهذه الأوصاف، بل يمكن القول تأكيدًا على ما ذكره الإيطالي إيتالو كالفينو عن مفهوم الأعمال الكلاسيكية أن الحرافيش هي رواية كلاسيكية تقهر الزمن ويمكن لكل قراءة لها أن تظهر معاني جديدة، ورغم تغير الزمن والسياق فإن قراءتها لا تزال ممكنة في كل وقت ويمكن أيضًا تفسيرها وفق كل سياق جديد وزمن جديد.

المرحلة الرابعة (كتابات نهاية العمر)

في هذه المرحلة سيتحول نجيب محفوظ نحو الكتابة المقتضبة جدًا، شديدة الاختصار والمباشرة ولا يختفي منها الرمز أبدًا، بل يتجلى في أصفى صورة ممكنة، بدأت تلك المرحلة بعد فوزه بجائزة نوبل عام 1988 وتعرضه لمحاولة اغتيال عام 1994 وانتهت بوفاته.

ضمت هذه المرحلة خمسة كتب تقريبًا هي: أصداء السيرة الذاتية 1995، القرار الأخير 1966، صدى النسيان 1999، وأحلام فترة النقاهة 2004، وتخللها أيضًا فتوة العطوف عام 2001.

لا تنتهي رحلة قراءة نجيب محفوظ، فهي رحلة كما التعبير الإسلامي كالحال المرتحل، ما إن تنتهي من جزء منها حتى تنتقل لجزء آخر فيها، لا يتوقف محفوظ عن الحياة بيننا رغم وفاته، توفر حكاياته ورواياته وقصصه مادة لاستيعاب، ليس مجرد، رحلة كاتب حاز جائزة نوبل، بل رحلة روائي حاول على مدار أكثر من 70 عامًا التحرك في كل المساحات الممكنة، متسلحًا برغبة وطاقة لا ينضبان، ومن دون خوف من ولوج مساحات لم يلجها غيره، وغير ملتف للنقد أو الاستهزاء أو التجاهل، هو نموذج ليس للطامحين للكتابة فقط، بل لكل الساعيين نحو تحقق أهدافهم رغم ضيق الوقت وظروف الحياة وفناء الإنسان الأكيد.