المناعة، تلك الكلمة المحبّبة والغامضة في آن. فهي تبعثُ على الراحة والطمأنينة وكأنها درعٌ فولاذيٌّة يحتضنُ أجسامَنا، ويحصّنُنا، فتتكسر نِصال وسهام المرض عليه، لكنها في المقابل تثير الرعب أيضًا، لمجرد تخيُّل حدوث ضعفٍ فيها، يفتح أبواب أجسامنا الهشة على مصراعيْها أمام استباحة الفيروسات والبكتيريا والفطريات والسرطانات، وكافة مسببات الأمراض.

لا يوجد أبٌ أو أمٌ لا تتقطّع قلوبهم لمرأى أحد أطفالهم مريضًا، ولو كان مصابًا بوعكةً معتادة كنزلات البرد الشائعة. وبما أن الوقاية خيرٌ ألف مرة من العلاج كما نحفظُ جميعًا عن ظهر قلب، فإن تقوية مناعة أطفالنا ضد الأمراض ليست رفاهية، إنما في صلب مسؤولياتنا كآباء. ولكن أولًا سنتعرف على ماهيَّة المناعة التي نريد أن نقوِّيها في أطفالنا.

ما المناعة؟

بالطبع لا يمكن الإحاطة بكل ما ورد في علم المناعة – الذي يتمدّد بشكلٍ جنوني في كل يوم – في المساحة المحدودة لهذا التقرير. لكن على الأقل سنرسم سويًا الخطوط العريضة لجهاز المناعة الذي يخوض مئات آلاف الحروب الصغيرة والكبيرة يوميًا دفاعًا عن أجسامنا، وأجسام أطفالنا الغضّة.

يمتد جهاز المناعة في كافة أنحاء الجسم طولًا وعرضًا ليحمي الجسم على مدار الساعة من كل محاولات الاختراق، أو القيام بالأنشطة غير الطبيعية. تضم المناعة خطوط الدفاع الأولى المتمثلة في الجلد الذي يغلف الجسم من الخارج، والأنسجة الطلائية التي تبطنه من الداخل. كذلك تنتشرُ البلايين من خلايا المناعة في الدورة الدموية، وفي ثنايا كافة أنسجة الجسم تقريبًا، لتقوم بالمراقبة الجيدة، والاستطلاع، والتعرف المبكّر على الميكروبات والخلايا ذات الأنشطة المريبة كالسرطانية مثلًا، للتعامل معها. وتحتفظ خلايا المناعة بسجلاتٍ عن الميكروبات التي سبق إصابة الجسم به، فتتيح تلك الذاكرة تعاملًا أسرع وأقوى في حالة تكرار الإصابة بتلك الميكروبات.

بالحفاظ على صحة الجلد وسلامته، وبالتغذية المتوازنة الجيدة، التي تضمن إمدادًا من البروتينات المفيدة اللازمة لإصلاح ما يتلف من أنسجة الجسم وخلاياه أولًا بأول، والتي تمنح الوقود الذي تحتاج أجهزة المناعة لتعمل بكفاءة، تكون المناعة على استعداد للتعامل الوقائي الجيد مع معظم الطوارئ المرضية.

كيف أزيد مناعة طفلي؟

مقطع قصير عن أهم النصائح لتقوية المناعة بوجهٍ عام

بالطبع لن نُغرِق في الأحلام، ونتصور أنه بالإمكان زيادة مناعة الطفل إلى حد ألا يُصاب بالمرض مطلقًا، فهذا مستحيل. لكن في إمكاننا أن نقلل مرات الإصابة بالعديد من الأمراض، وأن نُقصِّر مدة كل نوبةٍ مرضية، وكذلك أن نباعدَ بين أطفالنا وشبح الإصابة بالمضاعفات الخطيرة للكثير من الأمراض.

لن نذكر في السطور التالية حلولًا خيالية، إنما سنركّزُ على ما يمكن لمعظم الأسر، أيًا كان المستوى الاجتماعي أو الاقتصادي أو الثقافي لها أن تفعله من أجل تقوية مناعة أطفالها. وهذه أبرز النقاط من أجل تحقيق هذا الهدف:

1. في البدء كان الطعام

لقد أصبحَ معلومًا لدينا بالضرورة أن ما نأكُلُه له تأثير مباشر على مناعتنا ..
البروفسور ليو هيتلينر – الأكاديمية الأمريكية لطب الأطفال

كما ذكرنا سابقًا، فالطعام هو كلمة السر في الكثير من القضايا المتعلقة بالصحة. والطعام هو وقود خلايا المناعة، ويحتوي كافة المواد الخام اللازمة لإصلاح أنسجة وخلايا الجسم، وقيامها بوظائفها على أكمل وجه. الغذاء المتوازن الذي يحتوي مقادير جيدة من كافة المغذيات الأساسية كالبروتين والنشويات والدهون، والفيتامينات، والأملاح الذائبة هو الركن الركين. علينا تعويد أطفالنا على تناول الفواكه والخضروات بمختلف أنواعها، وكذلك الأسماك، والبيض، والألبان، مع الحرص على عدم سقوطهم في فخ السمنة. فالنظرية التقليدية التي تقيس صحة الطفل بحجمه، خاطئة تمامًا، ونعرف جميعًا الكوارث الصحية التي تسببها الزيادة المفرطة في الوزن ولو في قابل أيام الأطفال.

اقرأ: طعامُك .. الداء والدواء

سنبغي التركيز على أطعمة معيَّنة لها خصوصية في مجال تقوية المناعة، من أهمها، الزبادي، والذي يحتوي بعض أنواع البكتيريا المفيدة، والتي تساعد في هضم وامتصاص الطعام، وفي تحسين كفاءة جهاز المناعة بنسبة لا تقل عن 19%. كذلك تلعب اللحوم الصافية الخالية من الدهون دورًا مهمًا في دعم المناعة، فهي غنية بالبروتين الضروري حرفيًا لبنية ووظيفة كافة أنسجة الجسم، ومنها المناعة بالطبع، وكذلك فهي غنية بعنصر الزنك الذي يحسن كفاءة كرات الدم البيضاء التي تعتبر جنود المشاة في قوات المناعة بالجسم.

اقرأ: هل النظام الغذائي النباتي صحي .. العلم يجيب

كذلك ينصح الأطباء بالإكثار من الخضروات والفواكه عمومًا، وتلك الغنية بفيتامين سي بوجهٍ خاص، كالحوامض والجوافة والفلفل والبروكلي والبطاطا، فهو يعمل كمضاد لتفاعلات الأكسدة الضارة بخلايا الجسم، ويحسن حيوية الأنسجة الضامة الهامة للجلد، عضو المناعة الأكبر في الجسم.

اقرأ: 9 أسئلة تشرح فوائد فيتامين سي الصحية دون مبالغات طبية

وبالنسبة للأطفال الرُّضع، فالرضاعة الطبيعية المنتظمة في الشهور الأولى، جوهرية في تقوية مناعتهم، بما يحتويه اللبن من أجسامٍ مضادة تساهم في الدفاع عن أجسامهم الغضة ضد كافة مسببات وأنواع العدوى المرضية.

2. وما أدراكَ ما النوم الجيد

حصول الطفل على القدر المطلوب من النوم، خاصة أثناء الليل، يساهم في الحفاظ على حيوية مناعته،فأدلة علمية عديدة تؤكد أن الحرمان من النوم يزيد فرص الإصابة بشتّى أنواع العدوى. يحتاج الطفل حديث الولادة إلى 16-18 ساعة من النوم، بينما الرضيع حتى عاميْن من العمر إلى حوالي 12 ساعة، أما الأكبر قليلًا فنحو 10 ساعات.

3. التطعيمات

تمتلك الغالبية العظمى من دول العالم برامج للتطعيم الشامل للأطفال ضد العديد من الأمراض، والكثير من هذه التطعيمات يكون إجباريًا، وذلك لتحقيق ما يُعرَف بالمناعة الشاملة. فعدم إصابة طفلٍ ما بالمرض، لا يحميه هو فحسب، إنما يقلل فرص إصابة من حوله في المجتمع، وكلما زاد عدد الأطفال المُطعَّمين، زادت فرص القضاء على المرض. وفكرة التطعيمات كما نعرفها بسيطة لكنها عبقرية. في معظم التطعيمات يُحقَن الطفل بنسخة ضعيفة أو مقتولة من الميكروب، لكي يتدرب عليها خلايا المناعة، ويكون ذاكرة مناعية ضدها، فإذا حدثت الإصابة الحقيقية، كانت المناعة متحفزة، وجاهزة لسحق العدو، أو على الأقل احتواء آثاره التدميرية، أو تقليلها، أو أضعف الإيمان، تقليل فرص الوصول إلى المضاعفات الخطيرة التي قد تمس الحياة.

للأسف الشديد هناك موجة دعائية مضادة تتصاعد ضد التطعيمات، تشكك في فعاليّتها، أو تحاول ربطَها تعسُّفيًا ببعض الأمراض كالتوحد، دون سندٍ علميٍّ كافٍ. علينا جميعًا عدم الالتفات إلى تلك الدعايات غير المنطقية، والحرص على تلقي أطفالنا التطعيمات المطلوبة في توقيتاتها المحددة.

4. تجنب فوضى المضادات الحيوية

على النقيض من التطعيمات، فالمضادات الحيوية لا تعلم المناعة كيف تصطاد، إنما تحاول إعطاءَها السمكة، فهي تحارب البكتيريا بدلًا منها. عند استخدام المضادات الحيوية بالشكل المطلوب، تحت إشراف طبيب يفهم ما يفعل، فلا يصفُها في غير محلِّها، فإنها تكون معينًا لمناعة الطفل ضد بعض البكتيريا القوية التي لا يستطيع الجسم بمفرده التغلب منها.

اقرأ: الأساطير المؤسسة لطب الأطفال في مصر .. أسطورة المضاد الحيوي

أما ما نراه على أرضِ الواقع من التسرع في إعطاء المضادات الحيوية للأطفال بمجرد ارتفاع درجة الحرارة، فهذا عبثٌ حقيقي. فالغالبية العظمى من أدوار البرد، والأمراض الحادة، تسببها الفيروسات، والتي لا تُعالجها المضادات الحيوية من الأساس. هذا التسرع في تعاطي المضادات الحيوية، يثبط رد فعل جهاز المناعة، ويجعله أكثر وهّنًا مع مرور الوقت، فهي مثلًا تقتل البكتيريا المفيدة التي تلعب أدوارًا مناعية هامةً في جهازنا الهضمي والتنفسي وعلى سطح الجلد. كما أن هذا الاستخدام غير الرشيد يعرض المضادات الحيوية لمخطر سوء الاستخدام، والتي أدَّت إلى تنامي ظهور فصائل شرسة من البكتيريا المُقاوِمَة لأعتى المضادات الحيوية، والتي إن أصيب بها أطفالنا أو حتى البالغين، فإننا نكون بلا حولٍ ولا قوة أمامها، ولا يكون بمقدورنا سوى مشاهدتهم يموتون بغير دفاع.

اقرأ: سوء استخدام المضادات الحيوية .. انتحار جديد للإنسانية

5. الحركة بركة

النشاط الرياضي المعتدل، والمواظبة عليه، من أهم ما يفيد صحة الأطفال على العموم، وقوة المناعة على الخصوص. بالأخص، في حالة مشاركة الوالديْن للطفل في أي نشاطٍ رياضي، ولو كان مجرد الجري المعتدل، أو ركوب الدراجة.

6. إسعاد الطفل

عندما يتحدث الطبيب عن أهمية الحالة النفسية للمرضى، يعتقد الكثيرون أن هذا كلام إنشائي ليس له أساسٌ علمي، والواقع عكس هذا المنظور تمامًا. يكاد لا يوجد مرضٌ لا يتأثر بالحالة النفسية للمريض، فمعظم الأمراض يفاقمها، ويزيد مضاعفاتها سوء الحالة النفسية للمريض، في المقابل، فإن فرص الإصابة بكثيرٍ من الأمراض تزداد مع تدهور الحالة النفسية.

والعلاقة بين الضغط النفسي وضعف المناعة أشبه بالحلقة المفرغة، فالضغط النفسي يضعف المناعة، فيُصابُ الطفل بالمرض، الذي يمثل عبئًا نفسيًا عليه وعلى والديْه، فيفاقم الضغط النفسي، فتضعف المناعة أكثر .. وهكذا، خاصةً في الأمراض المزمنة.

في المقابل، فإن الحالة النفسية الجيدة تقوّي رد الفعل المناعي تجاه الميكروبات بمختلف أنواعها، وكذلك تجاه الخلايا السرطانية وغيرها من الأجسام الغريبة.

7. إبعادهم عن عاداتنا الضارة

من واجبنا نحو الأطفال ألا نكون مصدر أذى لهم، فمثلًا لا نُدخِّن بحضورهم حتى لا نؤذهم مرتيْن، مرة بالتدخين السلبي الذي يمنحهم بغيرِ داعٍ، ومرة بتشجيعهم في اللاوعي على التدخين، فالطفل يعتبر والديْه خصوصًا، والكبار من حوله عمومًا، قدوات مقدسة. وبالطبع محاولة تطبيق كل التعليمات المذكورة في التقرير، خاصة النوم والطعام والرياضة، على أنفسنا أولًا، حتى يعتادها أطفالنا كجزءٍ من تكوينهم.

8. غسل اليديْن جيدًا

قد يتصور البعض أن تلك الممارسة لا تقوي المناعة بشكلٍ مباشر، فهي تحاول منع وصول مسببات العدوى إلى الجسم، وبالتالي لن يتعرف عليها خلايا المناعة، وتكون ذاكرة مناعية ضدها، لكن هذا تفكير قاصر، فغسل اليدين بالماء والصابون جيدًا كفيلٌ بتخفيف أعباءٍ كبيرة عن كاهل جهاز المناعة، فلا يُستَنزف بشكلٍ متكرر. فمثلًا هذه العادة الصحية قادرة على منع ثلث أدوار الإسهال، وخمسة أدوار التهابات الجهاز التنفسي.

يجب تعويد الأطفال على غسلِ اليديْن بالطريقة الصحيحة والتي تتكون من 5 خطوات بسيطة، تبدأ بغمر اليدين بماءٍ نظيفٍ جارٍ، ثم غسل باطن اليد وظهرها بالصابون، ودعكهما جيدًا لحوالي 15 إلى 20 ثانية، ثم إجراء الماء النظيف عليهما لإزالة الصابون، ثم التجفيف بمنشفة نظيفة أو المجفف الهوائي. وفي غياب الماء والصابون، يمكن استخدام معقّمات اليد hand sanitizers الـتي تُباع في الصيدليات.