في عصرٍ تزاحمت فيه الصور والأفلام والمشاهد، وتعددت فيه الرؤى والحوارات والآراء، وأصبح من السهل على كل متفرج أن يعرض وجهة نظره، ولكل صانع فيلم أن يروِّج لمنتجه كما يشاء، ووسط زحام كبير من الأفلام عربيًّا وعالميًّا، يكون من المهم جدًّا أن يكون للمتفرج وقفة خاصة وواعية، يتعرَّف فيها على أساسيات تلك الأفلام، وكيف بدأت وتكوَّنت، حتى وصلت إليه، وما الذي يجعل فيلمًا من الأفلام جميلًا ورائعًا يجمع على ذلك كل المشاهدين؟ ولماذا يكون فيلم آخر على النقيض تمامًا؟

ما يقدمه الناقد الكبير محمود عبد الشكور في كتابه الجديد الصادر مؤخرًا عن «نهضة مصر»، يتجاوز فكرة السؤال الذي وضعه في العنوان «كيف تشاهد فيلما سينمائيا؟»، ليدور بالقارئ بشكلٍ سريعٍ وموجز حول «السينما» وتاريخها، دون أن يستغرق طويلًا في ذلك التاريخ، ولكنه يقدم إضاءات مهمة وعلامات يجب على كل مهتم بذلك الفن أن يكون على إحاطةٍ ودرايةٍ بها، وذلك كنوعٍ من التمهيد حتى ينتقل به إلى أساسيات صناعة الفيلم بمكوناته المختلفة.

ثمانية فصولٍ متصلة، يقدِّم فيها الكاتب عالم السينما والأفلام للقارئ المهتم، الذي لا شك سيكون على دراية بعددٍ من مكونات هذا العالم الثري، بدءًا من المؤلف كاتب السيناريو، انتقالًا إلى ما يدور في أروقة المونتاج والتصوير والمعالجة الدرامية للنص المكتوب وصولًا إلى الدور الرئيسي والمهم الذي يقوم به «المخرج/الفنان» حتى يخرج الفيلم إلى النور.

إذا كان هناك كلمتان يمكن أن تعبرا عن معنى الفن فهما «الإيهام والمحاكاة»، الإيهام هو سحر الفن وصنعته، والقدرة على تجسيده هي عنوان الموهبة، أمَّا المحاكاة فلا تعني التطابق مع الواقع؛ لأن هناك عنصرًا مهمًا بين الواقع وبين ما نشاهده، إنه الفنان نفسه، الذي يحدد وحده نسبة ما يأخذه من الواقع، مضافًا إليه ما يتخيله من علاقات، ومخلصًا فقط لخدمة رؤيته كفنانٍ لهذا الواقع، قد يأخذ الفنان نسبة عالية من الواقع، وقد يأخذ على العكس النسبة الأكبر من الخيال، وفي كل الأحوال فإنه يقدم واقعًا موازيًا وتاريخًا موازيًا مهما كانت نسبة الحقائق في عمله.

من البداية يقدِّم عبد الشكور سبع قواعد مهمة للتعامل مع الفيلم السينمائي، يمكن إيجازهم في ضرورة إدراك أن الفيلم أيًا كان نوعه يعبِّر عن وجهة نظر صانعه ورؤيته للناس والحياة، كما أن السينما ليست نوعًا واحدًا، وإنما هي أنواع متعددة مختلفة، على كل متفرج أن يدرك أولًا ما النوع الذي يحبه ويستهويه منها، كما يجب أن يكون على درايةٍ تامة بأن الفيلم ليس مجرد «قصة» يمكن حكايتها ببساطة، وإنما هو عدد من العناصر المترابطة المتشابكة التي تؤثر كلها في عملية التلقي، سواء كانت القصة أو التصوير حتى تصل إلى الإضاءة والموسيقى وغيرها من العناصر.

كما أنه من المهم جدًّا لكل متفرج أن يدرك أن الذاتية هي شرط الفن، فلا يوجد حياد ولا موضوعية في الأفلام، وإنما هي وجهة نظر المخرج والكاتب يقدمها كما يشاء، وعلينا أن نتقبلها كما تم عرضها سواء اتفقنا مع رؤيته أو اختلفنا معها. ومن المهم أيضًا أن يعرف المشاهد أن الفيلم له شكل ومضمون، وأنه كلما اتسق الشكل مع المضمون أصبح الفيلم أقرب إلى الجودة، وأنه في النهاية «هناك فيلمان يؤثران عليك في نفس الوقت أثناء المشاهدة: فيلم داخلي يتمثل في كل ما يدور في عقلك وأفكارك المسبقة وحالتك النفسية والعاطفية، وفيلم خارجي هو العمل الذي تشاهده على الشاشة، وكلما نجحت في تقليل أثر الفيلم الداخلي كانت ظروف استقبالك وتذوقك أفضل وأعمق للفيلم الخارجي».

بعد ذلك ينتقل إلى استعراض سريع لعناصر الفيلم بدءًا «بالسيناريو» كيف يتكوَّن وما الفرق بينه وبين «الدراما» التي تعني الحركة بشكلٍ عام، وليست «المشاهد المأساوية» كما شاع استخدامها بين الناس، يوضح «عبد الشكور» في هذا الفصل عددًا من القواعد المهمة في كتابة السيناريو وطرق الاقتباس عن الروايات والأعمال الأدبية، مؤكدًا نقطة مهمة جدًّا كثيرًا ما تغيب عن المشاهدين، وهي أن الفيلم ليس عملًا تاريخيًّا مهما أخذ من التاريخ، وليس هو الرواية حتى وإن كان مأخوذًا عنها، فالفيلم السينمائي عملٌ خاص مختلف، له شروطه وأساليبه، ويحمل في النهاية – كما ذكر من قبل – وجهة نظر صنَّاعه، سواء كان واقعيًّا أو اجتماعيًّا أو تاريخيًّا أو حتى تسجيليًّا.

الجميل في عرض محمود عبد الشكور لعناصر الفيلم السينمائي وكيف تترابط سويًا هو أنه يتخلَّى تمامًا عن اللهجة الأكاديمية المتخصصة، ويقدِّم للقارئ أمثلةً من الأفلام السينمائية المعروفة حتى يوضح ما يقصد إليه في كل فصلٍ من الفصول التي تتناول تلك العناصر، كما أن أسلوبه الأدبي الشيق يجعل من قراءة الكتابة متعة خاصة، حتى لمن لم يكن مهتمًا بالتعرف على عناصر الفيلم، وكيف يضمن لنفسه مشاهدةً دقيقة واعية.

لا يكتفي عبد الشكور بذلك الذي يعرضه بين ثنايا حديثه عن عناصر الفيلم من السناريو للحوار للإخراج، ولكنه يضع للقارئ فصلًا شديد الأهمية يسميه «قراءات بصرية» يتناول فيها بالعرض والتحليل قراءته لعدد من مشاهد الأفلام السينمائية، وهو بذلك ينقل القارئ من الإطار النظري السابق، إلى التطبيق العملي لكيفية تكوين «المعنى الدرامي» داخل عددٍ من الأفلام، وهي لقطات شديدة الذكاء والجمال يختارها الناقد السينمائي بعناية من أفلامٍ مثل «الحريف» و«بداية ونهاية» و«أيامنا الحلوة» حتى «فتاة المصنع»، وغيرها من الأفلام، والتركيز على مشهدٍ محدد وعرض كيف تم إخراجه وما التقنيات المستخدمة في إخراجه التي جعلته يخرج بالمستوى الأمثل الذي رأيناه، وكيف يجعل المخرج الذكي من “لقطة” صغيرة لا تدوم على الشاشة أكثر من دقيقة وربما أقل، كيف يمكنه أن يجعل منها مشهدًا مؤثرًا يبقى في ذهنية المتفرج والناقد طويلًا.

بعد هذا الاستعراض الجميل والشيق لما يتجاوز مائة مشهد من أفلام سينمائية متنوعة، ينتقل «محمود عبد الشكور» بالقارئ في نهاية المطاف إلى قراءة عدد من الأعمال التي سماها «أفلامًا سياسية ماكرة» فيقدم رؤية جديدة وقراءة مختلف لأفلام «عنتر ولبلب» و«الناصر صلاح الدين» و«إمبراطورية ميم» و«على من نطلق الرصاص» وأخيرًا «المواطن مصري»، ثم يعرض قراءات لأفلام أخرى مثل «المومياء» و«بداية ونهاية».

في نهاية الكتاب يرشِّح محمود عبد الشكور للقارئ أهم 30 كتابًا في السينما، راعى فيهم الجمع بين القديم والجديد، وأن تجمع بين الرؤى النظرية والعملية الفنية، نذكر منهم نجيب محفوظ على الشاشة لهشام النحاس، فن المونتاج السينمائي لكارل رايس، تجربتي مع الصورة السينمائية لسعيد الشيمي، حرفيات الإخراج السينمائي لعلي بدر خان، وغيرها من الكتب المهمة.

هكذا قدَّم «محمود عبد الشكور» من خلال هذا الكتاب وجبة سينمائية غنية جمعت بين الأسس التاريخية والنظرية لفن السينما المدهش شديد الثراء، وبين التطبيق العملي من خلال قراءات لمشاهد خاصة أو عدد من الأفلام المميزة في تاريخ السينما العربية بشكلٍ عام.

غنيٌ عن الذكر أن محمود عبد الشكور ناقد أدبي وسينمائي قدَّم العديد من القراءات النقدية والفنية لروايات وأفلام عديدة، وهو عضو جمعية النقاد السينمائيين المصريين، له عدد من المؤلفات السينمائية المهمة مثل «وجوه لا تنسى» و«يوسف شريف رزق الله عاشق الأطياف» و«سينما محمد خان البحث عن فارس» وغيرها من المؤلفات المهمة.