شهدت تركيا على مدى الخمس عشرة سنة الماضية تغيرات وتطورات مهمة بفعل عدة عوامل أبرزها العولمة التي دفعت باتجاه تعزيز الفردانية والعلمنة مما جعل من الصعب للهياكل المغلقة أن تحافظ على نفسها.

كما شهدت مؤخرًا تهديدًا بتجاوز المسألة الكردية إلى ما وراء الدولة التركية عبر سعي الأكراد لإقامة حكم ذاتي في الجوار السوري، وفي الوقت الذي بدا فيه إرث الكمالية فاقدًا لزخمه قاد العدالة والتنمية مسيرة تنمية اقتصادية غير مسبوقة ضاعفت كلا من معدل دخل الفرد وأعداد الطبقة الوسطى وأدت إلى ارتفاع مستوى الديموقراطية والحقوق والحريات المدنية.

أمام هذه التغيرات بقي الحزب الحاكم مترددًا إزاء تنفيذ الإصلاحات الديموقراطية أو استخدام الطرق السلطوية مما سبب خيبة أمل وصعب من مهمة إدارة البلاد، فالتأخر في تنفيذ الحلول مترافقًا مع الشكوك حول الاتجاه الذي اتخذته البلاد شجعا تسييس الشباب ضمن جماعات محددة من بينها تلك التي تحولت لتبني توجهات راديكالية.

لذلك تأتي أهمية هذه الورقة التي قامت بالبحث في دائرة محددة من الشباب المسيس المنتمي لجماعات علوية وكردية وإسلامية في إسطنبول وديار بكر خلال عامي 2015-2016 وفقا لأبعاد الأيديولوجية والهوية والطبقة والفردانية والفعل/العنف.

وهي الورقة التي أعدها الدكتور إتين محجوبيان الذي سبق له شغل منصب كبير مستشاري رئيس الوزراء التركي خلال الفترة أكتوبر/تشرين الأول 2014 – أبريل/نيسان 2015 وقام مؤخرًا الباحث السوري صلاح الدين الملوحي بترجمتها ونشرت عبر مركز العالم للدراسات.

ويرصد البحث أربعة نماذج من إسطنبول ونموذجين من ديار بكر، في الجزء الأول، أجريت مقابلات مع شباب علوي ذي دخل منخفض بالإضافة لمقابلات معمقة مع 38 من قادة الرأي العلوي الذين هاجرت عائلاتهم من محافظات الأناضول، وفي الجزء الثاني أجريت مقابلات مع 23 من شباب الأكراد في منطقة كوتشوك تشيكميجيه بإسطنبول.

وفي الجزء الثالث، أجريت مقابلات مع 33 من الشباب الكردي الذين هاجرت عائلاتهم من المحافظات الشرقية والجنوب شرقية بسبب الهجرة القسرية. بينما خصص الجزء الرابع، لإجراء مقابلات مع 30 من الشباب الناشطين بالمنظمات الإسلامية في إسطنبول بحيث تعكس الطيف الإسلامي الواسع.

في الجزء الأول من بحث ديار بكر أجريت اللقاءات مع 20 من الشباب القريب من الحالة السياسية الكردية، بينما خصص الجزء الثاني لمقابلات تمت مع 18 من الشباب المنخرط في المجتمع المدني ضمن الحلقات الإسلامية.


1. لماذا تبدو الأيديولوجيا صلبة في ديار بكر وناعمة في إسطنبول؟

بغض النظر عن الهويات والجماعات السياسية المختلفة إلا أن المحور الأساسي الذي يوحد إسطنبول وديار بكر هو الأيديولوجيا، ويتشارك الشباب إدراك كافة المسائل والحلول عبر مدخل الأيديولوجيا التي تملؤهم ورغم ذلك عندما يتعلق الأمر بالحياة اليومية يظهر التمايز بين المدينتين.

أكثر ما يشغل بال شباب إسطنبول هو الحماية والحفاظ علي الذات من الذوبان في بيئة الآخر كونهم يعيشون في بيئة غير متجانسة؛ لذا فإن تحليلاتهم تكون مسبوقة بالشك وانعدام الثقة ونتيجة لزيادة قلقهم على مسار الحياة اليومية تظهر فجوة بين الخطاب الأيديولوجي والممارسة الحياتية، حيث إنهم لا يرون في حل مشكلات الآخرين تهديدًا لهم.

بينما يعيش شباب ديار بكر في بيئة متجانسة الهوية مما يدفع الخطاب المؤدلج والحلول الكلية إلى الصدارة ويرجئ أخطار الحياة اليومية إلى الخلف ويأتي ذلك على حساب عدم رؤية التهديدات التي تمثلها حل مشاكلهم على الآخرين .

لذا يكون من الطبيعي تمسك الشباب بخطاب ينبذ مستلزمات الحياة اليومية ويعطي أهمية أكبر لمعنى الذات وأعدائها ويزيد الإيمان بالأهداف الكبرى طويلة الأمد، وتكاد تمثل نقطة التمايز الأبرز في ديار بكر تبني الشباب الإسلامي خطابا سياسيا أكثر مبدأية، بينما يتبنى أولئك المشبعون بالهوية الكردية خطابا سياسيا أكثر انتهازية.


2. ما ديناميات الحفاظ على الهوية في إسطنبول؟

تبرز أوجه تشابه بين المجموعات الكردية والعلوية والإسلامية في إسطنبول تتمثل في أن تعقيد الحياة اليومية والمالية يدفع الشباب للبحث عن الذات وتعريف أنفسهم في مواجهة الآخر، وكذلك تدفعهم الغريزة الدفاعية للعيش في مجموعات متماثلة وأحياء قريبة خاصة بكل تجمع مما يمكنها من الحفاظ علي مسافة فاصلة مع الهويات الأخرى،في المقابل يتمثل عامل الاختلاف الأبرز في اللغة الأم بالنسبة للأكراد وفي العقيدة بالنسبة للعلويين.

في ديار بكر لا يملك كل من الشباب الإسلامي والكردي حس الانتماء لتركيا ويتشاركان الإحساس بالتمييز والظلم لذلك تتوجه دائرة الانتماء نحو الأراضي الكردية بالنسبة لذوي التوجه القومي أو للأمة الإسلامية بتعريفها الواسع بالنسبة للإسلامي.

يبدو الشباب من مختلف الجماعات في إسطنبول في عملية تعلم مستمرة كونهم يواجهون صراع وجود إجبارىًا يلزمهم اتباع تكتيكات ضرورية للتعايش مع الآخرين، وهم في ذلك يميلون إلى تعريف الصراع في نطاق ضيق هو بيئاتهم الخاصة لذلك يمكن القول، إن الشباب في إسطنبول يركزون على الاجتماعي.

في المقابل لا يشعر الشباب في ديار بكر بتهديد الهوية بل يميلون إلى البحث عن هوية ذات تأثير طاغ على مجمل الحياة، ونتيجة لضعف التواصل مع غرب تركيا يتم النظر إلى المنطقة كوحدة مكتفية بذاتها وأنهم غير معنيين بما يحدث خارجها الأمر الذي يمنحهم الدافع لتكريس طاقاتهم بشكل مباشر للعمل ضمن المنطقة وفي مواجهة الآخرين.

لذلك كلتا المجموعتين في ديار بكر تعملان على تعزيز الهوية التي هي الكردية لمجموعة، والإسلام للأخرى.


3. ما تأثيرات الطبقية على اعتناق الهوية؟

تظهر علاقة طردية بين تدني المستوى الاقتصادي والاجتماعي واعتناق الهوية، وتبدو الطبقات الاجتماعية الدنيا أكثر تقبلاً للأفكار الراديكالية، ذلك أنها تتولد لديها نظرة طبقية تجاه المجتمع، إلا أن ثمة توجها مخالفا لدى العلوية التي تتمتع فيها الطبقات الاجتماعية العليا بنهج أكثر سياساوية.

ويغلب على الشباب السعي لمغادرة الهامش نحو المركز في إسطنبول بغية إحراز مكانة اجتماعية عالية، بينما يلعب التعليم والترقي الطبقي بما يكفله من تحسين ظروف الحياة الدور الأبرز في الدفع نحو الاندراج بالمركز تأسيسًا لهوية ناعمة تضفي على الشباب في إسطنبول رؤية أكثر أملاً في المستقبل ولذلك صلة بطبيعة الحل الذي يراه شباب إسطنبول أكثر فردانية.

في ديار بكر رغم ربط المسألة الاقتصادية والاجتماعية بالمسألة الكردية حيث يتم توظيفها في إطار أيديولوجي محرض مما يدفع نحو الظن بأنه من شأن هوية كردية أكثر اتساقا أن تكون ضد بقية المجتمع والدولة، إلا ثمة تعامل مختلف من قبل المجموعتين القومية والإسلامية، حيث نجحت الأخيرة في أن تظل في منأى عن الهوية الكردية بطابعها المؤدلج.

ورغم توظيف مسألة الطبقية من قبل الجماعة التي تعرف نفسها بالكردية إلا أنها لا تلعب الدور الأبرز في تشكيل الهوية إذ يبدو التسييس سائدًا وهو بطبيعة الحال مرتبط بالحل الجماعي المتخيل لا المساعي الفردية مما يجعل الرؤية أكثر تشاؤمية لشباب ديار بكر.


4. هل يمكن اعتبار كل تأثيرات الفردانية إيجابية؟

في إسطنبول تبدو كل العائلات بطريركية البنية ووصائية أكثر من ديار بكر، ولديها حرص علي الأبناء ألا يتخطوا حدودا معينة، كما يعد الضغط على النساء سمة مشتركة، مع ملاحظة أن تسييس المرأة أكثر بروزا في العائلات الكردية والعلوية بخلاف الإسلامية التي تملك بنية أكثر صرامة، في المقابل فإن الشباب يتشاركون في الهروب من العائلة ومتابعة حياتهم خارجها، مما يطور بالتالي مواقفهم الفردية.

كذلك يسهم الموقع المتميز للتعليم والدخل في الاقتراب من المركز الذي يلعب دورًا إيجابيًا بالنسبة للفردانية كون تنوع المركز يعد عاملا ضاغطا نحو التعايش، كذلك تبدو مواقع التواصل الاجتماعي إحدى أدوات تعزيز الفردانية كونها تسمح للشباب بالابتعاد عن ضغوط محيطهم، وإن تم توظيفها في الاستقطاب وخلق مجموعات ضيقة.

في ديار بكر يقلل انسجام البيئة ضغط العائلة الواقع علي الشباب مما يخلق دوافع أكبر للفردانية تبدو في محاولات الشباب تعلم لغة والسفر، ويلاحظ على الشباب الذين انطووا على قدر أكبر من الفردانية بقاءهم على مسافة من العنف، بينما يُعنى القومي الكردي في اختيار أصدقائه بالقيم السياسية والأيديولوجية وتزداد أهمية هذه المعايير عند الشباب القريبين من حزب العمال الكردستاني.

يمكن القول إن للفردانية وظيفة تحريرية للشباب من كل الهويات، لكنها تظهر تناقضا بين البيئتين حيث رغم كون شروط الفردانية في ديار بكر أضعف فإنها تظهر آثارا إيجابية كونها تعني في المحصلة البقاء على مسافة من السياسات الصلبة، بينما يبدو الأمر في إسطنبول معكوسًا إذ يبدو التأكد من آثارها ملتبسا لأن ذلك قد ينطوي على تحول الشباب نحو تبني مواقف أكثر صلابة.


5. ماذا يمثل الفعل/العنف للجماعات المختلفة؟

في إسطنبول يعتبر السعي للفعل السياسي سمة مشتركة لكل الهويات ويتم النظر للافعل كموقف ضعيف، لكن رغم ذلك لا يزال هذا الفعل معبرًا عن عقل سلطوي ولا تزال فكرة مقابلة الإقصاء بالإقصاء مقبولة وما زال ينظر لمشاركة الهويات الأخرى كتهديد.

علي الرغم من الاتفاق علي ضرورة تجنب العنف قدر الإمكان فإن الكردي ينظر للعنف باعتباره تنفيسا وجدانيا ورد فعل وجوديا في مواجهة شعور الضحية المرشح للاستمرار بينما بالنسبة للعلوي فهو التزام يعبر عن براءة هويته فيما يمثل للإسلامي عقابا للظالمين، بمعنى آخر يحمل العنف دلالة نفسية للكردي وأيديولوجية للعلوي وسياسية للإسلامي.

في ديار بكر يقف الشباب في المنطقة الرمادية بين الجماعات العنيفة والأحزاب السياسية التي تمثل امتدادًا لها وليس من السهل توقع اتجاه الشباب المقبل، كذلك رغم الرفض المبدئي للعنف إلا أن مواقف الشباب قابلة للتحول حسب الحالة وبشكل أكثر نفعية عند الشباب القومي الكردي ويمكن القول إنه مع اتساع دائرة العنف مثل الأحداث في الجوار السوري يسهل التطبيع مع العنف واعتباره مقبولاً من مختلف الأطراف.

وبالنسبة لاستخدام العنف داخل تركيا فإن الشباب القومي يتقبله ويرون إمكانية شرعنته خلال الصراع كونه يصدر عن ديناميات الجماعة فضلاً عن كونه من متطلبات الصراع السياسي الجاري بينما يعطي الشباب الإسلامي للحل السياسي الأولوية.