محتوى مترجم
المصدر
Jacobin
التاريخ
2020/12/26
الكاتب
بيتر هوديس

قدّمت الاحتجاجات المتجدّدة ضدّ العنصريّة والوحشيّة الشّرطيّة خلال العام الماضي زخماً جديداً للتّفكير في طبيعة الرّأسماليّة وعلاقتها بالعنصريّة وبناء بدائل لكليهما. قلّةٌ من المفكّرين تتحدّث بشكلٍ مباشرٍ عن مثل هذه القضايا أكثر من فرانز فانون، الفيلسوف والطّبيب النّفسيّ والثّوريّ المارتينيكيّ الّذي يُعتبر على نطاقٍ واسعٍ أحد أبرز مفكّري القرن العشرين فيما يخصّ العرق والعنصريّة.

امتلك فانون خبرةً مباشرةً بالحكم الاستعماريّ الفرنسيّ، من منطقة البحر الكاريبيّ إلى شمال إفريقيا، ووظّف تلك الخبرة بشكلٍ مؤثّرٍ في عمله الفكريّ. لقد لعب دوراً نَشِطاً في الحركة الثّوريّة الجزائريّة الّتي ناضلت من أجل الاستقلال في الخمسينيّات من القرن العشرين، لكنّه حذّر من أنّ الدّول الأفريقيّة المستقلّة ستستبدل ببساطةٍ النّظام الاستعماريّ ببرجوازيّةٍ وطنيّةٍ ما لم تتّبع طريق الثّورة الاجتماعيّة.

تتوفّر بعض أعمال فانون الرّئيسة بالتّرجمة الإنجليزيّة منذ أعوام عديدة. ومع ذلك، فإنّ المؤلَّف المنشور مؤخّراً فيما يزيد على ستمائة صفحة من كتابات فانون الّتي لم تكن متوفّرة سابقاً حول الأدب والطّب النّفسيّ والسّياسة يجعل هذه الّلحظة مناسبةً لإعادة النّظر في فكره من جديد.

لاطبعنة العنصريّة

ولد فانون عام 1925 ونشأ في جزر الأنتيل الصّغرى في المارتينيك الّتي كانت تحت الحكم الفرنسيّ. في البداية – وكما كان الحال بالنّسبة إلى العديدين في ذلك الوقت – رأى نفسه كفرنسيّ وليس كـ «أسود». وقد بدأ هذا يتغيّر عندما تمّ تجنيده في القوّات الفرنسيّة الحرّة خلال الحرب العالميّة الثّانيّة. وبالنّسبة إليه، جلبت التّجربة عنصريّة «الحضارة» الفرنسيّة بشكلٍ مؤلمٍ إلى أراضي الوطن.

بالعودة إلى فرنسا في أواخر الأربعينيّات من القرن الماضي، انغمس فانون في أدب النغريتيود، وهي حركة فخر سوداء ناطقة بالفرنسيّة. وفي الوقت نفسه، استوعب أحدث التّطوّرات الفكريّة الأوروبيّة مثل الفينومينولوجيا والوجوديّة والتّحليل النّفسيّ والماركسيّة. وأدّى ذلك إلى كتابه الأوّل، الّذي نُشِر عام 1952 عندما كان فانون في السّادسة والعشرين من عمره: بشرة سوداء، أقنعة بيضاء.

تَمثّل إنجاز فانون العظيم في بشرة سوداء، أقنعة بيضاء في تحليل العنصريّة من منظور جذورها الاجتماعيّة وإنكار أيّ أساسٍ طبيعيٍّ لها. قد يتمّ تحديد لون البشرة بيولوجيًا، ولكن الطّريقة الّتي نراه ونفسّره بها مشروطة بقوى اجتماعيّة خارجة عن سيطرتنا.

هذه الظاهرة متغلغلة إلى حدّ أنّ العرق والعنصريّة يتبدّيان كظاهرةٍ «طبيعيّةٍ» عابرةٍ للتّاريخ. بالنّسبة إلى فانون، لا يمكن تجريد مثل هذا الغموض من خلال النّقد المستنير فقط لأنّه متجذِّر بعمقٍ في الوقائع الاجتماعيّة الموضوعيّة ويجب تحدّيه على هذا المستوى.

في العقود الأخيرة، أصبح «البناء الاجتماعيّ للعرق» كليشيهًا بحيث يَسهل إغفال الآثار الرّاديكاليّة لإنجاز فانون النّظريّ. إذا كان العرق مبنيًّا اجتماعيًّا، فسيترتّب على ذلك أنّ علاقات اجتماعيّة محدّدة هي المسؤولة عن ولادته واستدامته. فما الّذي يُمكن أن تكون عليه هذه العلاقات؟ يصرّ فانون على أنّها علاقات اقتصاديّة:

إنّ الّلااغتراب الحقيقيّ للرّجل الأسود يعني وعيًا وحشيًّا بالوقائع الاجتماعيّة والاقتصاديّة… إنّ مشكلة السّود لا تتعلّق فقط بعيش السّود بين البيض، وإنّما تتعلّق بالسّود الّذين يتمّ استغلالهم واستعبادهم واحتقارهم على يد المجتمع الاستعماريّ والرّأسماليّ الّذي يُصادف أنّه أبيض.

ومع ذلك، لا يعني هذا أنّ العرق يحتلّ مكانةً ثانويّةً في علاقته بالطّبقة، أو أنّ النّضال ضدّ العنصريّة خاضع للمعركة ضدّ الرّأسماليّة. لا يتمّ تعريف الظّاهرة بشكلٍ حصريٍّ من خلال أصلها. تأخُذ العنصريّة حياةً خاصّةً بها وتُحدّد الآفاق العقليّة للأفراد بعد فترةٍ طويلةٍ من تلاشي بعض ضروراتها الاقتصاديّة من المشهد. ولذلك، أصرّ فانون على أنّ «الرّجل الأسود يجب أن يخوض النّضال على مستويين»، موضوعيّ وذاتيّ. فأيّ «تحريرٍ من جانبٍ واحدٍ معيب، وأخطر خطأ هو الاعتقاد بأنّ اعتمادهما المتبادل أوتوماتيكيّ».

لسوء الحظّ، ميّز هذا «الخطأ» الأشكال السّائدة للماركسيّة في زمن فانون: لقد رأت العنصريّة (في أحسن الأحوال) بوصفها اعتبارًا ثانويًّا، بينما فشلت في إنتاج نظريّةٍ ماركسيّةٍ ذات مصداقيّةٍ عن العرقنة. لهذا السّبب، بالرّغم من معارضته الشّديدة للرّأسماليّة، لم يرتبط فانون قطّ بأيّ اتّجاهٍ ماركسيٍّ قائم. وكما تلخّص سيلفيا وينتر موقف فانون الجديد:

يجب توفير الحلّ على المستوى الموضوعيّ للاقتصاديّ-الاجتماعيّ، وكذلك على مستوى الخبرة الذّاتيّة والوعي، وبالتّالي الهويّة.

من الشّيء إلى الذّات

بالنّسبة إلى فانون، مثّل التّأكيد الإيجابيّ للهويّة لحظةً حاسمةً في تطوّر الوعي بالذّات. وتوقّف تحرير السّود بوصفهم ذوات على استعادة الشّعور بالذّات والكرامة الّذي سلبته «النّظرة البيضاء». والاعتزاز بالسّمات العرقيّة الّتي يشوّهها المجتمع في الأشخاص الملوّنين سيكون وسيلةً حاسمةً لتحدّي طبعنة العلاقات الاجتماعيّة الّتي تدعم العنصريّة.

طوّر فانون هذا المنظور من خلال اشتباكٍ نقديٍّ مع فينومينولوجيا الرّوح لهيغل. وحاجج بأنّ الاعتراف المتبادل مستحيل في مجتمعٍ تُحدّده النّظرة العرقيّة، لأنّه يعني أنّ الأشخاص الملوّنين يُنظَر إليهم على أنّهم أشياء: «لقد وجدتُّ أنّني كنت شيئًا وسط أشياء أخرى».

كانت هذه هي القضيّة المركزيّة بالنّسبة إلى فانون: العنصريّة لا تحرم ضحاياها من الموارد الاقتصاديّة والوضع الاجتماعيّ فحسب. إنّها تجرّدهم من إنسانيّتهم ​​ومن شخصيّتهم، تاركةً السّود «يسكنون منطقةً من الّلاوجود، منطقةً مُجدِبةً وقاحلةً بشكلٍ غير عاديّ، يسكنون منحدَرًا جُرِّد من كلّ أساسيٍّ يُمكن أن ينبثق منه تَرحال جديد حقيقيّ». وقد أنتجَ هذا عقدة نقص، وإحساسًا بقيمةٍ أقلّ للإنسان. وأولئك الّذين سماهم «معذّبو الأرض» لا يستطيعون تجاوز هذا إلّا من خلال ضمان الاعتراف بإنسانيّتهم​​، بناءً على تأكيدٍ إيجابيٍّ لخصائصهم العرقيّة أو القوميّة.

والاعتراف مصطلح يُساء فهمه كثيرًا في أعمال فانون. وفي الفكر السّياسيّ الحديث، تُشير عبارة «سياسات الاعتراف» إلى الاعتراف المتبادل بـ «الحقوق المتساوية» للمواطنين. وتنطوي كافّة العلاقات التّعاقديّة، سواء في السّياسة أو الاقتصاد، على الاعتراف بحقوق الطّرف الآخر. بيد أنّ فانون لم يتحدّث عن الاعتراف بهذا المعنى على الإطلاق.

لم يكن لديه أيّ وهمٍ بأنّ العنصريّة يُمكن التّغلّب عليها من خلال التماس المساواة الشّكليّة، لأنّه، كما رأى الأمر، لم يُنظَر إلى الأشخاص الملوّنين على أنّهم بشر كاملون وبالتّالي تمّ استبعادهم من العقد الاجتماعيّ. وانتقدَ أولئك الّذين سعوا للحصول على الاعتراف داخل المجتمع الحاليّ، معتبراً ذلك محاولةً «ليصبحوا بيضًا»، محاولةً ظلّ ممارسوها عُرضةً لعقدة نقص.

يهدف فانون إلى نوعٍ أعمق من الاعتراف، الاعتراف بالكرامة الإنسانيّة وقيمة المُهمّشين والمضطّهدين. وقد صرّح بجرأةٍ بأنّ تحقيق هذا الهدف «يعني إعادة بنينة العالم».

ولذلك، فإنّ مقاربة فانون تطرح بديلًا للطّريقة الّتي تصطفّ بها غالبًا النّقاشات حول العرق والطّبقة والهويّة داخل اليسار اليوم. لقد عارض ذلك النوّع من الثّورويّة المجرّدة الّتي تصوِّر البروليتاريا كضامنٍ للتّحرير مع التّقليل من أهميّة النّضال ضدّ العنصريّة. أيضًا، رفضَ نسخة سياسات الهويّة الّتي بحثت عن التّعبير عن الذّات والمواساة داخل بنية العلاقات الرّأسماليّة القائمة. وكان هذا واضحًا بشكلٍ خاصٍّ في عمله كطبيبٍ نفسيّ.

المعالجة الاجتماعيّة

شرع فانون في دراسة الطّبّ النّفسيّ في ليون في أواخر الأربعينيّات من القرن الماضي، وقدّم في الأصل نصّ بشرة سوداء، أقنعة بيضاء كأطروحة دكتوراه في عام 1951. وسُرعان ما رفض مشرفوه الأكاديميّون العمل بسبب محتواه غير التّقليديّ. واستجاب فانون من خلال تسليم دراسةٍ تقنيّةٍ حول الآثار النّفسيّة لرَنَح فريدريك – وهو تنكّس عصبيّ في العمود الفقريّ.

وتُعدّ الأطروحة، الّتي تمّ نشرها مؤخّرًا فقط بالإنجليزيّة، آخر مكانٍ قد يتوقّع المرء أن يجد فيه مناقشةً للعلاقات الاجتماعيّة. ومع ذلك، تألّقت رؤية فانون حول الطّابع الاجتماعيّ المنشأ للعنصريّة من هذا العمل أيضًا. لقد أصرّ على أنّ المرض العقليّ، بالرّغم من أنّه قد تكون له أصول عضويّة، «دائمًا نفسانيّ في مسبّباته المرضيّة».

رفض فانون اختزال حتّى الأمراض العصبيّة إلى مكوّنها البيولوجيّ. وكان مهتمًّا بالضّرر النّفسانيّ الّذي ألحقته بالفرد الحيّ، مسترشدًا في مقاربته بنزعةٍ إنسانيّةٍ عنيدة:

يتوقّف الكائن البشريّ [الفرد] عن كونه ظاهرةً منذ الّلحظة الّتي يواجه فيها وجه الآخرين. لأنّ الآخر يكشفني لنفسي. والتّحليل النّفسيّ، من خلال اقتراحه إعادة دمج الفرد المجنون داخل المجموعة، يُثبِت نفسه على أنّه علم الجماعة بامتياز. هذا يعني أنّ الإنسان العاقل هو إنسان اجتماعيّ: أو أنّ مقياس الإنسان العاقل، من النّاحية النّفسيّة، سيكون اندماجه المثاليّ إلى حدٍّ ما في المجتمع.

من شأن هذا المنظور أن يوجّه فانون خلال الأعوام الثّمانية المقبلة في الوقت الّذي أمضاه في العمل في سلسلةٍ من عيادات الطّبّ النّفسيّ، أوّلًا في فرنسا، ثمّ في الجزائر وتونس، حيث مارس – في البداية تحت وصاية فرانسوا توكويل – «المعالجة الاجتماعيّة». ويعني هذا تحرير المرضى من ظروف شبيهة بالسّجن والسّعي إلى دمجهم في المجتمع.

لقد استخدم فانون وزملاؤه تقنيّاتٍ مثل العلاج المهنيّ، وجعل المرضى يُنتجِون صُحُفًا ومسرحيّات، والسّماح لهم بالتّواصل بحرّيّةٍ مع بعضهم البعض داخل المؤسّسة. وفي سياق هذا العمل، كان فانون لا يزال مستعدًّا لمنح أدويّةٍ صيدلانيّة، حتّى أنّه استخدم العلاج بالصّدمة. لكنّه فعل ذلك أثناء سعيه لخلق بيئةٍ إنسانيّةٍ تُعامِل المريض كشخص.

وقد أدّى انفتاحٌ على الإمكانات البشريّة إلى تأسيس هذه المقاربة، سواء في عمل فانون كطبيبٍ نفسيّ، أو في دوره الّلاحق كناشطٍ ثوريّ. ونقلت أطروحته تعليقًا من جاك لاكان:

ثمّة تنافر جوهريّ داخل الواقع البشريّ. وحتّى إذا كانت الظّروف العضويّة للسّمّيّة سائدة، فإنّ الموافقة على الحرّيّة ستظلّ ضروريّة.

إذا كان «تنافر جوهريّ» يُحدّد طبيعتنا، فلا يمكن التّغلّب عليه؛ من هذا المنظور، يجب أن يُنظّر إلى الاغتراب على أنّه جزء لا يتجزأ من الوجود البشريّ. من جانبه، ردّ فانون بالسّؤال: «أليس من الأفضل ترك نقاشٍ يتضمّن حدود الحرّيّة ذاتها – أي مسؤوليّة الإنسانيّة – مفتوحاً؟».

وكانت الصّفحات الافتتاحيّة من بشرة سمراء، أقنعة بيضاء قد احتوت إعلانًا نابضًا بالحيويّة: «إنّ الإنسان هو ‘نعم’ تُدوّي من التّناغم الكونيّ». وتصوّر فانون الحرّيّة على أنّها «عالم من الاعترافات المتبادلة»، وأصرّ على أنّ رغبةً في «لمس الآخر والشّعور بالآخر واكتشاف بعضنا البعض» تمثّل جزءًا أساسيًّا من كيان البشريّة.

الثّورة الجزائريّة

بعد أن مارس الطّبّ النّفسيّ في فرنسا لعدّة أعوام، انتقل فانون إلى الجزائر عام 1953، حيث شَغِل منصبًا في مستشفى بليدا جوينفيل، خارج الجزائر العاصمة. لم يقم بهذه الخطوة لأسباب سياسيّة، ولم يكن يعرف سوى القليل عن الجزائر في ذلك الوقت، واتّصاله كان ضئيلًا بحركات التّحرّر الإفريقيّة.

اكتشف فانون بسرعةٍ مجتمعًا «مانويًا» حيث يعيش المستوطنون الفرنسيّون، نحو 10 في المائة من سكّان الجزائر، في عالمٍ مختلفٍ عن جماهير العرب والقبائل. لقد تعرّضت هذه الجماهير لتمييز كان أكثر وحشيّةً بكثيرٍ من أيّ شيءٍ مرّ به في جزر الأنتيل. وعندما اندلعت الثّورة الجزائريّة، في تشرين الثّاني/نوفمبر 1954، بقيادة جبهة التّحرير الوطنيّ المُشكَّلة حديثًا، احتضن فانون أهداف الحركة ودعوتها إلى الكفاح المسلّح.

جمع فانون الآن بين عمله في الطّبّ النّفسيّ والانخراط في حركةٍ ثوريّة. وأخفى سرًّا مقاتلي جبهة التّحرير الوطنيّ في المستشفى وقدّم العلاج لضحايا الاغتصاب والتّعذيب. كما أصبح نَشِطًا بشكلٍ متزايدٍ في النّقاشات السّياسيّة داخل الجبهة.

ومع ذلك، فإنّ الرّوابط بين الطّبّ النّفسيّ وسياسات فانون كانت أعمق من ذلك. وكما لاحظ روبرت يونغ، رسمَ فانون تشابهًا بين المجتمعات الخاضعة للحكم الاستعماريّ والمرضى العقليّين الّذين يحتاجون إلى العلاج:

كانت الثّورة هي الشّكل الضّروريّ للصّدمة الّتي من شأنها إعادة بناء المجتمع المستعمَر… إنّ سياسات فانون الخاصّة بالحرّيّة صِيغت بشكلٍ وثيقٍ على غرار ممارساته العلاجيّة واستندت إليها.

أجرى فانون سلسلةً من الدّراسات التّفصيليّة للمجتمع والثّقافة الجزائريّين في الخمسينيّات من القرن الماضي، حيث ناقش الدّور الّذي لعبه الدّين في البلدان الإسلاميّة، والإحساس المختلف راديكاليًّا بالوقت الّذي ميّز سكّان شمال أفريقيا عن الأوروبيّين، والطّريقة الّتي عرّفت بها المجتمعات العائليّة والعشائريّة في الجزائر نفسَها بشكلٍ متزايدٍ بالرّجوع إلى مجتمعٍ قوميّ أوسع.

وقد نظر بشكلٍ خاصٍّ في رفض المستعمَر المتكرّر الإقرارَ بارتكاب جريمةٍ ما، حتّى في مواجهة أدلّةٍ واضحةٍ على إثمه:

قد نكون قادرين على مقاربة هذا النّظام الأنطولوجيّ الّذي يهرب منّا من خلال الاستفسار عمّا إذا كان السّكان الأصليّون المسلمون يفكّرون حقًّا في أنفسهم على أنّهم منخرطون في اتّفاقيّاتٍ تعاقديّةٍ مع المجموعة الاجتماعيّة الّتي تُمارس الآن السّلطة عليهم. هل يشعرون بأنّهم مُلزَمون بالعقد الاجتماعيّ؟ ما الّذي سيكون عليه مغزى الجريمة والمحاكمة والحكم إذا لم يشعروا بذلك؟

وكما أشار فانون، فإنّ الإقرار يعتمد على الاعتراف المسبق، وهو أمر كان مفقودًا في السّياق الاستعماريّ: «لا يمكن أن يكون ثمّة إعادة دمج إذا لم يكن ثمّة دمج». ونظرًا لأنّ العقد الاجتماعيّ يستبعد السّكّان المستعمَرين، فإنّهم لم يشعروا بأيّ التزامٍ للتّقيّد بقواعده القانونيّة أو القضائيّة.

وخَلُصَ إلى أنّ رفض الإقرار كان عملًا من أعمال التّمرّد. ففشل النّظام في الاعتراف بإنسانيّة الشّعوب المستعمَرة دفعها إلى الضّغط من أجل اقتلاعٍ كاملٍ للمؤسّسات القائمة، وليس مجرّد إدخال إصلاحاتٍ عليها. وبالتّالي، ستكون الذّات المستعمَرة – من العرب والقبائل في الجزائر إلى السّود في أفريقيا جنوب الصّحراء أو الأمريكيّين السّود في الولايات المتّحدة – القوّة الطّليعيّة في معارك التّحوّل الاجتماعيّ، وفقًا لفانون.

تمديد الماركسيّة

قارن فانون البراكسيس الثّوريّ للمستعمَر بسلبيّة وخيانات اليسار الأوروبيّ. وقد أيّد الحزبان الاشتراكيّ والشّيوعيّ الفرنسيّان الحرب الإمبرياليّة الفرنسيّة ضدّ الثّورة الجزائريّة، حيث قتل أكثر من نصف مليون شخص.

وترأّس رئيس الوزراء الاشتراكيّ، غي موليه، حملة القمع العنيفة في الجزائر، بينما صوّت النّوّاب الشّيوعيّون في البرلمان الفرنسيّ لصالح اعتمادات الحرب، بالرّغم من التزامهم الشّكليّ بالمناهضة الّلينينيّة للاستعمار. وباستثناء شخصيّات مثل جان بول سارتر، كان ثمّة القليل من الدّعم النّشِط للثّورة الجزائريّة حتّى من أكثر القطاعات راديكاليّةً في اليسار الأوروبيّ. وأدّى ذلك إلى أن يصبح فانون ناقدًا بشكلٍ متزايدٍ للبردايم الّذي حدّد الكثير من جوانب الفكر الغربيّ.

كانت هذه الاعتبارات مركزيّةً في كتاب فانون الأخير والأكثر شهرة، معذّبو الأرض. لقد شرع في كتابته بعد أن علم أنّه مصاب بسرطان الدّم غير القابل للعلاج وتوفّي بعد وقتٍ قصيرٍ من ظهوره في عام 1961. وغالبًا ما يُغفِل الباحثون حقيقة أنّ معذّبي الأرض لا يدير ظهره تمامًا لأوروبا. عِوضًا عن ذلك، شرع فانون في إعادة التّفكير بشكلٍ نقديٍّ في أبعاد الفكر الأوروبيّ، بما في ذلك الماركسيّة.

أصرّ فانون على أنّ التّحليل الماركسيّ «يجب دومًا أن يتوسّع قليلًا عندما يتعلّق الأمر بمعالجة قضيّة الاستعمار». ففي تحليل ماركس للتّراكم الرّأسماليّ في أوروبا، أدّى تطوّر الرّأسماليّة إلى انتزاع الفلّاحين من «الورشة الطّبيعيّة» للأرض وتحويلهم إلى بروليتاريّين حضريّين، والّذين بدورهم سيصبحون قوّةً ضخمةً ومتراصّةً وثوريّةً من خلال تركيز ومركزة رأس المال. من جانبه، رأى فانون أنّ هذه العمليّة لم تتكرّر في إفريقيا.

لم يؤدّ تدمير أشكال الملكيّة الجماعيّة التّقليديّة في القارّة إلى تكوين بروليتاريا ضخمة ومُردكلة، لأنّ المستعمِرين لم يجعلوا من إفريقيا مكانًا صناعيًّا بل قوّضوا تطوّرها من خلال الاستخراج الوحشيّ لقوّة العمل والموارد الطّبيعيّة. ظلّ الفلاحون يمثّلون الجزء الأكبر من السّكان، بينما كانت الطّبقة العاملة في البلدات والمدن صغيرة وضعيفة نسبيًّا. لهذا السّبب، حاجج فانون بأنّ الفلّاحين والبروليتاريا الرّثّة سيخدمون بوصفهم قوّةً رئيسةً للثّورة، وليس الطّبقة العاملة النّاشئة في أفريقيا.

انتقد بعض الكتّاب فانون لتضخيمه دور الفلّاحين وتجاهله لحظاتٍ لعبت فيها الحركات العماليّة دورًا مهمًّا في نضالات الاستقلال الإفريقيّة في الخمسينيّات والسّتينيّات من القرن العشرين. وبينما يوجد شيء من العدالة في هذه الانتقادات، فإنّه من الجدير بالذّكر أنّ فانون يتّفق مع وجهة نظر ماركس القائلة بأنّ ثورةً اجتماعيّةً لا يمكن أن تنجح إلّا إذا كانت نتاج «الحركة الواعية والمستقلّة للأغلبيّة العظمى».

رفض فانون، شأنه شأن ماركس من قبله، الفكرة القائلة بأنّ ثورةً ناجحةً يمكن تحقيقها بواسطة طبقةٍ عاملةٍ أقلّويّةٍ يقودها – في الممارسة أو على الأقلّ من النّاحية النّظريّة – حزب طليعيّ «منضبط ومركزيّ». وكان يحاول رسم مسارٍ للثّورات الإفريقيّة لا يكرّر أخطاء الثّورات الّتي سبقتها.

نزعة إنسانيّة جديدة

تكمن أهم مساهمة لـ معذّبو الأرض في تحذيره النّبوئيّ من المصير الّذي قد يصيب الثّورات الإفريقيّة إذا لم يتطوّر النّضال من أجل الاستقلال إلى ثورةٍ اجتماعيّة – ثورة ستؤسّس ما سماه فانون «نزعةً إنسانيّةً جديدة». كان فانون مؤيّدًا متحمّسًا للتّحرّر الوطنيّ من خلال الكفاح المسلّح، ولكن ليس كغاية في حدّ ذاته.

وحاجج بأنّ الحركة الجزائريّة، من خلال اتّخاذها شكل النّضال القوميّ، قد تجنّبت التّفرّد العرقيّ، وجمعت بين العرب والقبائل والأفارقة السّود – وكذلك الجزائريّين البيض الّذين كانوا على استعداد للتّنازل عن امتيازاتهم. ومع ذلك، فقد تنبّأ بأنّ هذه النّضالات ستقع فريسةً لمكائد البرجوازيّة الوطنيّة، ما لم تنتقل بسرعةٍ إلى مرحلة التّحوّل الاجتماعيّ بعد الاستقلال.

يعني فانون بهذا رؤيةً تنمويّةً من شأنها أن تقف في وجه الرّأسماليّة على النّمط الغربيّ وكذلك النّموذج السّوفيتيّ القائم على التّصنيع من أعلى إلى أسفل. لقد أراد من الجماهير الثّوريّة أن تخلق مجتمعًا لامركزيًّا يكون لديها فيه سيطرة فعّالة وليس مجرّد سيطرة اسميّة على عمليّاته الاقتصاديّة والسّياسيّة. ولهذا السّبب، عارض الشّكل التّنظيميّ الّذي تبنّته كافّة الثّورات الإفريقيّة تقريبًا (بما في ذلك الثّورة الجزائريّة):

حكم الحزب الواحد هو الشّكل الحديث للدّيكتاتوريّة البرجوازيّة – المجرّدة من الأقنعة والماكياج والتّورّع والكلبيّة من كلّ جانب.

قارن فانون البلدان الرّأسماليّة الغنيّة، حيث «يتدخّل عدد كبير من الوعّاظ والمستشارين و’المُلغزِين’ بين المستغَلّين والسّلطات» لمنع حدوث صدامٍ مباشر، بالدّول المستعمَرة حيث «يضمن التّدخّل المباشر للشّرطة إخضاع المستعمَر لتفحّصٍ دقيقٍ واحتوائه بأعقاب البنادق». تُظهِر تجربة الأعوام الأخيرة أنّ الفجوة بين العالم المستعمَر الّذي كتب عنه فانون ودول مثل الولايات المتّحدة قد ضاقت إلى حدٍّ كبير. فالحواجز بين السّلطات والمستغَلّين في الولايات المتّحدة تتلاشى بسرعة، في حين أنّ العداء العنصريّ الّذي ساد كلّ مرحلة من تاريخ هذا البلد يتجلّى الآن على مستوى لم نشهده منذ انعكاس عمليّة «إعادة الإعمار السّوداء».

في ضوء الثّورات الفاشلة وغير المكتملة في القرن الماضي، فإنّ ما يبقى حرجًا هو فكرة فانون القائلة بأنّ النّجاح في اقتلاع البنى الاقتصاديّة والسّياسيّة القمعيّة يتطلّب منّا، أيضًا، تحويل العلاقات الإنسانيّة الأكثر حميميّة، وذلك بدءًا من الطّريقة الّتي نتصوّر بها بعضنا البعض في مجتمعٍ مُعرقَن. وكما قالت رايا دونايفسكايا ذات مرّة:

ليست وسائل الإنتاج هي الّتي تخلق النّوع الجديد من الإنسانيّة، ولكن النّوع الجديد من الإنسانيّة هو الّذي يخلق وسائل الإنتاج الجديدة.