قبل أن يودع العالم، ترك المخرج الإيراني الشهير «عباس كياروستامي» عملاً أخيرًا ليذكرنا بإسهاماته المستمرة، ليس فقط في فن السينما بل في استكشاف علاقات الفنون ببعضها البعض وبالحياة، سمى العمل «24 إطار»، في إشارة لعدد الكادرات الموجودة في الثانية الواحدة في اللقطة السينمائية.

تتضمن تلك الإطارات الأربعة والعشرون عدة صور فوتوغرافية ثابتة التقطها كياروستامي بنفسه، لكنه وبالاستعانة بفريق من فناني المؤثرات البصرية قرر أن يستكشف إمكانية معرفة ما يسبق ويتبع كل لقطة، فنرى صورًا ثابتة لكنها تتحرك بالتدريج فتتساقط الثلوج ونسمع أصوات نقر العصافير الصغيرة، نباح الكلاب، وحفيف أوراق الأشجار.

قبل أن يقرر كياروستامي عمل الفيلم باستخدام صوره الفوتوغرافية، أجرى تجارب على اللوحات الزيتية القديمة الشهيرة، وحفظت إحداها مكانها في مقدمة الفيلم وهي لوحة «الصيادون في الثلج» لبيتر برويجل الأب، وهي عبارة عن مشهد جليدي ثابت لثلاثة صيادين عائدين من رحلة صيد بجانبهم كلابهم وفوقهم بعض الطيور تراقب المشهد من مكانها على فروع أشجار عارية من الأوراق.

عند رؤية ووصف اللوحة نشعر بالفعل بوجود الحركة بها، لكن في منطق فيلم كياروستامي اللوحة تتحرك فعلاً، فنرى البخار يخرج من مداخن المنازل الصغيرة، وكلاب الصيادين تنبح وتتجول، والطيور المراقبة تطير ثم تعود إلى أغصانها، والثلوج تتساقط دون توقف فتزيد المشهد برودة.

لم يكن عباس كياروستامي هو المخرج السينمائي الأول الذي تلهمه لوحة «الصيادون في الثلج»، فلسبب ما استخدمها عدة مخرجين آخرين سواء بوجودها الفعلي كلوحة، أو باستلهام عناصرها وجماليتها في أفلامهم على الرغم من إغراقها في القدم. نفذت اللوحة في عام 1565 بالإضافة لخمس لوحات أخرى تمثل أوقاتًا مختلفة من العام، وهو جزء من تقليد فني في العصور الوسطى وعصر النهضة، حيث ترسم لوحات لتمثيل شهور أو فصول السنة والأعمال التي تتم بها، مثل الصيد والزراعة وغيرها، ويرمز التقليد ككل لتنظيم الإله لحياة البشر.

ينتمي برويجل الأب لعصر النهضة الهولندي، وهو المقابل لعصر النهضة الإيطالي الذي يقدمه فنانون مشهورون مثل ليوناردو دا فينشي، ومايكلانجلو، وتخصص في اللوحات النوعية، أي التي تصور أحداثًا إنجيلية أو اجتماعية معينة وثابتة، لكنه نفذ ذلك بأسلوبية مميزة ألهمت الفنانين بعده ولا تزال تلهم المعاصرين حتى الآن.

Joachim patinir، فن تشكيلي
Joachim patinir -landscape with the flight into egypt

على سبيل المثال، يمكن إرجاع تأثر السينمائيين به لأسلوبه في رسم المنظر الطبيعي الذي استقاه من سابقه من عصر النهضة خواكيم باتينير، وهو أسلوب يسمى بالمنظر العالمي، أي أننا نرى المنظر الطبيعي بشكل بانورامي ومتدرج، فنرى مساحات شاسعة من الجبال والأنهار والبيوت، ويقل دور العنصر البشري فنادرًا ما نرى وجهًا آدميًا، وكثيرًا ما نرى أجسادًا صغيرة تمارس مهام يومها من بعيد.

ذلك الغنى البصري وتعدد طبقات الصورة يجعل من لوحات بيتر برويجل، وخاصة «الصيادون في الثلج»، مرجعية بصرية لا غنى عنها حتى في العالم المعاصر المحاط بالصور في كل مكان، ويجعلها ملائمة لفن السينما بشكل خاص بسبب طبيعتها الديناميكية الموحية بالحركة وفي نفس الوقت بسبب أجوائها المقبضة، وطبيعة ألوانها الحيادية التي يمكنها الاندماج مع صور وتصورات أخرى دون أن تنقص قيمتها، لذلك تم تخليدها بأكثر من رؤية على شاشة السينما وعلى يد أهم المخرجين ومن أبرزهم أندري تاركوفسكي.


الإشارة المباشرة والاقتباس

في عام 1972 اقتبس المخرج أندري تاركوفسكي رواية بعنوان «سولاريس Solaris» لتقديمها على الشاشة، كان العالم لا يزال مفتونًا بتحفة ستانلي كوبريك «أوديسا الفضاء»، كونه فيلمًا ثوريًا في نوع الخيال العلمي، حوى مؤثرات بصرية مبهرة، وأسئلة فلسفية عن ماهية الإنسان وعلاقته بالكون والتطور. لم يكن تاركوفسكي من أكبر معجبي الفيلم، رأى أنه لم يتخط النوع الفيلمي أي الخيال العلمي بشكل كافٍ، وأراد هو أن يجرب ذلك في «سولاريس»، فصنع فيلم خيال علمي مليء بالصور الشعرية والمرجعيات الفنية.

من ضمن تلك المرجعيات لوحة برويجل الشهيرة ذاتها، والتي يفرد لها تتابعًا كاملاً يتنقل فيه بين الإشارة المباشرة لوجود اللوحة ماديًا، وبين اقتباس جمالياتها، تتحول اللوحة من ثباتها الأبدي إلى مونتاج من الأحداث الصغيرة عندما تمر الكاميرا على عدة تفاصيل متتابعة منها. يحدث ذلك من خلال عين الشخصية التي تتأمل العمل الفني، وفي لحظة ما نرى مشهدًا جليديًا مصورًا يشابه ألوان وتكوين اللوحة وكأنه استدعاء لذكرى طفولة بعيدة.

مشهد من فيلم المرآة بجانب لوحة برويجل

لم تكن تلك المرة الوحيدة التي يتخذ فيها تاركوفسكي «الصيادون في الثلج» كعنصر أو إلهام لأعماله، في فيلمه «المرآة – Mirror» عام 1975 استدعى تاركوفسكي مشاهد من ذكرياته الشخصية على أرض روسيا الجليدية، لكنه لم يلجأ للوحة بوجودها المادي بل لتصوراته لمشاهد مشابهة لها، كأنه يعيد ترتيب عناصرها ليسقطها على أشياء حدثت له بالفعل، فنرى تلك العناصر مثل شجرة دون أوراق، طيور سوداء مستقرة على فروعها، وعدة مستويات للمنظر الجليدي، تلك الخيارات التكوينية يمكن إرجاعها لتأثير برويجل حتى ولو بشكل غير مباشر.


التأثر المفاهيمي

أندري تاركوفسكي, المرآة, الصيادون والثلج, بيتر برويجل الأب, فن تشكيلي
أندري تاركوفسكي, المرآة, الصيادون والثلج, بيتر برويجل الأب, فن تشكيلي

يمكن لمس إمكانية الـتأثير غير الحرفي للأعمال الفنية في الوسائط الأخرى عندما ينعدم الحضور المادي للعمل، فيمكن أن يكون تأثيرًا مفاهيميًا وليس له علاقة باقتباس التكوين تشكيليًا، وهو ما لجأ له المخرج السويدي المعاصر روي أندرسون.

لطالما شعرت بالغيرة من الرسامين، لأنهم يصنعون مشاهد يمكن للمرء أن ينظر إليها لدقائق ودقائق، وهو شيء نادر حدوثه في الأفلام، أن تهتم لدرجة أن تنظر لمشهد واحد لمدة خمس أو عشر دقائق، لذلك طموحي أن أصنع مشاهد واضحة ومدهشة يمكن التأمل فيها مثل التأمل في تاريخ الفن.

يملك «روي أندرسون» أسلوبًا يمكن تمييزه من نظرة سريعة، ألوان باهتة، مشاهد ثابتة لمدة طويلة من الزمن وتمثيل آلي مربك. يلتزم أندرسون بأسلوبه في ثلاثيته الأشهر «ثلاثية المعيشة» آخرها فيلم بعنوان «حمامة جلست على غصن تتأمل الوجود»، عنوان طويل يلفت النظر إلى نفسه، لكن به لمحة من فكاهة محببة مثل أفلام أندرسون التي تصور صعوبة وجود الإنسان في العالم بغلاف من الكوميديا السوداء.

حمامة, روي أندرسون, فن تشكيلي
لقطة من فيلم «حمامة جلست على غصن تتأمل الوجود»

يسرد أندرسون دائمًا قائمة من الرسامين ممن تأثر بهم، شكليًا وموضوعيًا، لكن هذه المرة كان النصيب الأكبر لبيتر برويجل الأب ولوحته الثلجية الشهيرة، عنوان الفيلم ذاته هو إشارة لانطباع أندرسون عن اللوحة، فبالنظر إليها نجد في أقرب مستوى عدة أشجار منعدمة الأوراق تملأها الطيور وفي مستويات أخرى سفلى، يمارس البشر نشاطاتهم اليومية، فتبدو الطيور وكأنها في وضع مراقبة وتأمل لحياة هؤلاء البشر. لا يلجأ أندرسون لاقتباسات مباشرة لتكوينات اللوحة، لكنه يشير لها في مشهد في أحد المتاحف، أما التأثير الأكبر فهو للفكرة ذاتها، مراقبة حياة البشر البائسة المضحكة من الوضع طائرًا.

لم يكن روي أندرسون هو الوحيد الذي نظر بشكل قاتم لجليد برويجل، ففي عام 2011 صدر فيلم «ميلانكوليا – Melancholia» للمخرج الدنماركي «لارس فون ترير»، وهو مخرج يملك نظرة قاتمة للحياة والأرض وسكانها، بلغ الأمر ذروته في «ميلانكوليا»، فنحن على عتبة نهاية العالم بكل شروره ومآسيه.

يصنع فون ترير افتتاحية ملحمية من القلق البحت، نرى قمرين متماثلي الحجم في السماء، تتمسك أم بابنها ولكن مثل كابوس سيئ تبتلع الأرض قدميها فيما تحاول الهروب من المصير المحتوم، وفي وسط كل تلك الصور المقلقة تغطي لوحة «الصيادون في الثلج» الشاشة، لكنها تبدأ في الاحتراق والانهيار أمام أعيننا. يبدو ذلك التساقط وكأن الطيور التي كانت ثابتة على الأشجار تسقط صريعة واحدة تلو الأخرى، ينعكس ذلك في مشهد آخر تسقط فيه طيور نافقة من السماء.

Melancholia, لارس فون ترير
Melancholia, لارس فون ترير

لعدة دقائق تحولت صورة ثابتة تعبر عن مشهد من الحياة العادية إلى تعبير بصري عن نهاية العالم، أو إلى وسيلة لاستدعاء ذكريات الطفولة وحياة الإنسان على الأرض، كأن الإنسان لم يملك تصورًا عن منظر جليدي مفتوح قبل تنفيذ بيتر برويجل الأب للوحته، فهي أشبه بالمرجعية المطلقة عندما يفكر الفنانون الآخرون في الثلج الذي يغطي الأرضيات، والأشجار الجرداء، والطيور التي تتأمل حيوات البشر.