هل الفكاهة نقد؟
لطالما افترض الكثيرون ذلك -وفي ذلك رؤساء الدول والرقابة الحكومية- غالبًا ما تبدو مجموعة من الأشخاص الذين يضحكون معًا بمثابة تهديد، مما يشير إلى نوع من الجماعية المعادية للمجتمع. هذا الخلط الإيحائي يكمن أيضًا وراء قوة مهرج العصور الوسطى، الساخر في العصر اليوناني، الكاتب الساخر في العصر الحديث، و -في عصرنا- الممثل الكوميدي التلفزيوني في وقت متأخر من الليل، وجميعهم يمتلكون قوة هائلة: القدرة على قول ما لا يقال، لمواجهة النفاق، وركل الأحجار.
كينان فيرجسون، أستاذ الفلسفة السياسية الأمريكي

ما ذكره كينان فيرجسون هنا يبدو موصوفاً لعالم ما قبل السوشيال ميديا، عالم أمريكي امتلك فيه الكوميديان التليفزيوني قوة للسخرية من الجميع، أو كما وصفه فيرجسون «قول ما لا يقال». هنا في مصر لم نملك نفس التقاليد أبداً، أو قل امتلكناها بشكل قصير الأمد من خلال باسم يوسف وبرنامجه، ثم توقف كل شيء وعادت التليفزيونات المصرية إلى مواقعها، اليوم المكان الوحيد الذي يسمح بمواجهة النفاق وركل الأحجار هي صفحات مواقع السوشيال ميديا.

تبدو المقدمة كمحاولة للتحذلق، خصوصاً مع عنوان المقال الذي يشبه عناوين موقع الحدود، لذا دعنا نقلل من الجدية والاقتباسات وندلف سريعاً إلى واقع الدراما الرمضانية المصرية، للإجابة على سؤال واحد: هل يصلح هذا المحتوى لأي نقد جدّي، أم أن الكوميكس هي المحاولة الأكثر جدية للتعامل معه؟

نجوم بالأمر المباشر

من منا اختار أن تصبح ريهام حجاج نجمة جماهيرية؟ من منا اختار أن تصبح مي عمر نجمة جماهيرية؟

من يملك الإجابة يمكنه أن يتواصل معنا وحق الرد مكفول، لكن ما يعرفه الجميع هو أن محمد سامي المخرج التليفزيوني قد قرر وبشكل حصري أن يصنع من زوجته نجمة، ورجل الأعمال زوج ريهام حجاج قرر أن يصنع منها نجمة. هل هذه مشكلة؟ وهل هذا يحدث للمرة الأولى تاريخيًّا؟ لا بالطبع، ومن حق الجميع أن يصنعوا منتجات فنية حتى ولو كانت رديئة.

لكن المشكلة وما يحدث للمرة الأولى تاريخيًّا هو أن هذه الأعمال هي الوحيدة المسموح بإنتاجها في مصر، تم احتكار المجال الفني من خلال شركة حكومية تنفق من جيوب المصريين.

إذن نحن أمام مجموعة من النجوم المصنوعة بأمر مباشر، لا يملكون أي قدر من النجومية، ولا من الكاريزما، وطبعاً بلا أي موهبة، والأهم بلا أي رغبة في التطور أو خجل من الجمهور. أنا هنا رغماً عنكم فأروني ماذا أنتم فاعلون.

نضرب المثل هنا بأمر واضح تماماً للعيان، لكن لا يفوتنا أيضاً أن نضيف لقائمة الأسماء مجموعة من النجوم التي صُنعت بالأمر المباشر أيضاً، لكن مع امتلاكهم إمكانيات ولو محدودة على مستوى الأداء أو الحركة، أمثال أحمد صلاح حسني وأمير كرارة وأحمد العوضي. هؤلاء من الممكن جداً أن يظهروا في أعمال مقبولة أو حتى جيدة، لكن المشكلة هي أن يكون الترقي دون أي حساب للمجهود أو الموهبة، والمصيبة أن تكون هذه هي القاعدة وليس الاستثناء، بل يصبح لا مكان ولا فرصة ولا مجال لصناعة أي عمل فني خارج هذه القاعدة المعيبة.

مخرجون وكتاب بالأمر بالمباشر

دعنا نصبح أكثر صراحة، من اختار محمد سامي ليصبح المخرج الرمضاني الدائم؟ هنا الأمر مختلف قليلاً فسامي قد صنع بالفعل مسلسلات ميلودرامية ناجحة جماهيرياً نذكر منها الأسطورة، لكنه مؤخراً قد قرر أن يصبح مؤلفاً أيضاً، وهنا لا سبب سوى أن الاحتكار قد ضمن له مكانة، فلا مانع من الكتابة أيضاً لو أن المنتج غير مهتم برأي الجمهور.

هذه الطريقة مأمونة العواقب في صناعة الفن تنتج محتوى رديئاً لا يصلح معه حتى الممثلون الجيدون، أحمد مالك وأحمد داش، وهما ممثلان موهوبان بحق قد تحولا لمسخة تحت قيادة سامي.

هل تعلم أن مسلسل وكل ما نفترق عن قصة محمد أمين راضي؟! نعم يمكنك أن تأتي بكاتب جيد وتنتج محتوى رديئاً أيضاً لأنك تتعامل دون أي جدية مع الصنعة.

لنمد الخط على استقامته أكثر وأكثر، من منا اختار أن يشاهد مرة تلو الأخرى هذه الميلودراما الرخيصة التي تتكرر في كل عام؟ أين المصريون الحقيقيون وأحلامهم ومآسيهم، بعيداً عن البهرجة المتخيلة والكومباوندات وعمليات التجميل والنساء المنتفخات والهوليوود سمايل والخطب الوعظية وكل هذا الافتعال؟

نجاح بالأمر المباشر

تقف ريهام حجاج في صورة منتشرة الآن على مواقع السوشيال ميديا لتحتفل بأن مسلسها “وكل ما نفترق” هو أنجح مسلسل في رمضان! الصورة انتشرت بالطبع للسخرية.

مسلسل ريهام حجاج قد ظهر على الساحة الرمضانية مرتين، الأولى نتيجة مشاجرة بطلة العمل مع أيتن عامر، التي قررت الانسحاب من العمل فيما بعد، أما المرة الثانية فمن خلال الكوميكس التي سخرت من أزياء بطلة العمل الصعيدية ومطاردة الأكشن التي اعتمدت فيها على حزم الفجل والبقدونس لهزيمة عصابة من المسلحين. هل هذا هو المسلسل الرمضاني الأنجح؟

الإجابة معلومة، لا بالطبع، لكنهم سيحتفلون بأنه الأنجح، تماماً كما احتفلت مي عمر بنجاح مسلسل لؤلؤ، المسلسل الذي اعتمد على صوت مغنية صاعدة تم حجب اسمها تماماً من كل تترات العمل حتى يصبح الاهتمام وحيداً منصباً على الأستاذة مي عمر وزوجها المشرف على الإخراج والتأليف. تماماً كما سيحتفل محمد سامي والسقا وكرارة وباقي صناع نسل الأغراب بنجاحه عقب نهاية رمضان، رغم كل ما صُنع للسخرية منه، من حبكته ورداءة أداء أبطاله وكل ما فيه.

سيحتلفون بنجاح لا يعلم عنه أحد منا شيئاً، كما سيحتفلون بتصدرهم لتريند تويتر، تماماً كما ستحتفل كل المسلسلات الأخرى بنفس التصدر، الحسابات الوهمية تكفي، وإن لم تكن كافية فسنحتفل حتى لو لم يحدث، من سيعترض؟ نحن من نصنع، ومن يمول لا يهمه الجمهور، ولا يهمه بالتأكيد النقاد.

الناقد ومعضلة الكوميكس

ما الذي يمنحنا الحق في تسمية أنفسنا نقاداً؟ هل تكفي القراءة والمشاهدات والكتابة المستمرة ومحاولات الدراسة والتعلم ممن سبقونا؟

في حقيقة الأمر أن كل هذا قد لا يكفي، إذا أنتجنا في النهاية محتوى يحاول أن يشارك في تضليل الجمهور، وظيفتك ناقداً تكمن في تحليل ما تشاهده، تفكيكه، وتقديم المتعة والمعلومة لمن يتابعك، لكن ماذا لو كان هذا المحتوى غير جدير بالمشاهدة، هو محتوى لا يحترم مشاهديه ولا ينتظر آراءهم، محتوى يعلن نفسه ناجحاً رغماً عنهم؟

هل يمكنني صنع محتوى نقدي لعمل لا أقوى على مشاهدة ساعة واحدة منه؟ تعودنا على مشاهدة الأعمال غير الجيدة، لكن هذا يحدث عادة بشكل غير مرتب، نشاهد مجموعة كبيرة من الأفلام والمسلسلات، بالطبع بعضها جيد وبعضها سيئ، هذه ضريبة العمل في هذه المهنة، لكن هل أقدم على مشاهدة عمل سيئ بشكل تم التخطيط له؟

دعنا نتخطى هذا لمنزلة أصعب، هل يمكنني مشاهدة عمل ليس من الآمن نقده؟ أنت تعرف بالتحديد ما أتحدث عنه هنا، يقول فيرجسون في الاقتباس الذي بدأنا به مقالنا إن الكوميديان يمكنه قول ما لا يُقال، هذا حقيقي.

أحمد عاطف ومحمد طاهر هما أهم نقاد رمضان 2021 الفنيين، هما ومن يصنعون محتوى ساخراً شبيهاً الوحيدون القادرون على نقد هذه المسلسلات، أما أنا وكثيرون فسنعود مرة أخرى لمقاعد المشاهدين لمتابعة الكوميكس، فهي تحمل إبداعاً أكثر من 30 ساعة من الرداءة المخطط لها، كما تحمل الحقيقة في مقابل أطنان من النفاق.

سنتابع الموسم حتى ينتهىيمن خلال الكوميكس، سنضحك ونتشارك السخرية، ربما حينها ستؤثر السخرية لتغيير هذه المأساة، تماماً كما حدث مع مأساة الملك أحمس.

سنفتش كمن يبحث عن إبرة في كومة قش، عن عمل أو اثنين نجا صناعهما من قاعدتي نجوم بالأمر المباشر ونجاح بالأمر المباشر، سنناقشهما مع جمهورنا، وغالباً سيهتم الفنانون الحقيقيون الذين صنعوهما بهذا النقاش، لكن فيما عدا ذلك سنفعل تماماً كما يقول ميلان كونديرا في روايته الأثيرة «حفلة التفاهة»:

لقد أدركنا منذ زمن طويل أنه لم يعد بالإمكان قلب هذا العالم، ولا تغييره إلى الأفضل، ولا إيقاف جريانه البائس إلى الأمام. لم يكن ثمة سوى مقاومة وحيدة ممكنة: ألَّا نأخذه على محمل الجد.