شاء الله في الفصل الدراسي السابق (أكتوبر/تشرين الأول 2019) أن أتخذ من الرسالة الشهيرة للمؤرخ تقي الدين المقريزي «إغاثة الأمة بكشف الغمة»، التي يتحدث فيها عن مجمل المحن والشدائد التي مرت بها مصر، نصاً يدرسه طلاب العلوم السياسية، كنموذج لتقليد دراسة السلطة في كنف علم التاريخ، في الحضارة العربية الإسلامية. وكان المقريزي قد تتلمذ على يد العلامة عبد الرحمن بن خلدون لنحو عشر سنوات، حين لاذ هذا الأخير بمصر، وعمل قاضي قضاة المذهب المالكي، ودَرَّس فصولاً من مقدمته الشهيرة لكتاب (العبر) في المدرسة القمحية.

فشاء الله في هذا الفصل الدراسي (فبراير/شباط 2020) أن أعمد إلى مقدمة ابن خلدون ذاتها، التي يرسي فيها دعائم علمه الجديد الذي سماه «علم العمران»، فأتخذها مادة لدرس الطلاب، كنموذج للإبداع في وضع تقليد جديد لدراسة السلطة السياسية، وفي كنف علم التاريخ أيضاً، في الحضارة العربية الإسلامية.

ولكن شاء الله أن يجتاح الوباء المسمى كورونا مشارق الأرض ومغاربها، وكأنه شدة خرجت من بين دفتي كتاب المقريزي لتتجسد عياناً في الواقع المعاش، فتُصاب من عموم الناس وخصوصهم في شتى البلاد أعداد ليست بالقليلة. وأخذت أحوال البلاد والعباد تضطرب، فشرعت الحكومات في فرض إجراءات وقائية لتقليل احتمالات العدوى بمنع التجمعات البشرية، سواء غير الضرورية منها أو حتى الضرورية. فتعطلت المصالح والهيئات الحكومية، وأغلقت المساجد والكنائس، وكذلك المطاعم والمقاهي، وفُرض حظر تجوال بعد ساعة معينة من المساء، وفي أيام معينة من الأسبوع، وهكذا شاء الله في خضم ذلك كله أن تُعطل الدراسة بالفعل بالمدارس والجامعات لأجل غير مسمى، في بلدنا هذا وسائر البلدان الأخرى، حسبما أعلم.

ولقد شاء الله ألا يمنع تعطل الدراسة لدينا من استمرار التعليم بالمدارس والجامعات، ولكن «عن بعد». ولذا كان لزاماً عليّ أن أواصل ما شرعت فيه من قبل من تدريس ابن خلدون ومقدمته وأفكاره وتنظيره السياسي، بأسلوب «التعليم عن بعد». والحقيقة أن اعتماد هذا التغيير في أسلوب التعليم والتعلم هو لا محالة أمر له ما بعده، حتى بعد انجلاء غمة كورونا؛ والحقيقة أيضاً أن اضطراب الأحوال ووطأة الخطب لم تسمح بفتح الباب لمناقشة علنية هادئة متعقلة، وما كان للأمر أن يكون بخلاف ذلك في ظل هذا الظرف العصيب. ومع ذلك فمن الأهمية بمكان أن يبدأ على الفور نقاش علني حول فوائد ومضار التعليم عن بعد، ونجاحاته وإخفاقاته، وعقباته ومُحفّزاته، كوسيط لحمل المادة العلمية والمقررات الدراسية، وذلك بغية استخلاص الدروس والعبر للمستقبل.

وإنني وأنا أناقش هذه القضية لأسترشد بمقولة بديعة للفيلسوف الألماني كانط، أوردها في مقاله الشهير «ما هو التنوير؟»، وهي مقولة تحدد فيما ذهب كانط أسلوب تناول الدارس للموضوعات العامة، حينما يكون جزءًا من آلة السلطة؛ «جادل بقدر ما تريد وفي كل ما تريد، ولكن أطع». وبرأي كانط، فعند استخدام العقل استخداماً خاصاً، أي في المجال المتعلق بآلة الحكم، على المرء أن يُطيع أوامر السلطة، وها أنذا قد أطعت الأوامر وأقوم بتدريس مقرر النظرية السياسية بأسلوب التعليم عن بعد. أما عند استخدام العقل استخداماً عاماً، أي في المجال المتعلق بجمهور القرّاء، فللمرء أن يمارس حريته في التفكير بلا قيد، وها أنذا أمارس تلك الحرية في مناقشة التعليم عن بعد في حد ذاته.

والحقيقة أن مناقشة أسلوب التعليم عن بعد أو عن قرب أمر في منتهى الحيوية بالنسبة للعملية التعليمية، ليس فقط لأن القلب على قدر أهمية القالب، ولكن أيضاً لأن القالب يُغيِّر القلب ويُبدِله ويُعيِد تشكيله، ألم يُسمى القلب قلباً سوى لأنه يتقلب؟! ولعل هذا الأمر تحديداً هو ما قصده الإمام محمد عبده، في حديث مباشر له مع تلميذه المُقرَّب رشيد رضا، حين تحدث عن العلاقة بين نفس المتكلم ومحل الكلام.

وكانت حالة الجمهور المُخاطَب تؤثر أشد التأثير في الأستاذ الإمام، إذ كان يقول:

فإذا حضرني جماعة من البلداء الخاملي الفكر أحل [أي أشرح] لهم المعاني بكلمات قليلة. وإذا كان هناك من ينتبه لما أقول ويلقي له بالاً يُفتح عليّ بكلام كثير.

وهنا على وجه التحديد يغدو بالإمكان لنا أن نتلمس من كلام الأستاذ الإمام قدر أهمية التفاعل الحقيقي المباشر في عملية التعليم، ذاك التفاعل الذي يفتقر إليه التعليم عن بعد، مهما جرى التعويض عن البعد المكاني ببرامج الاتصال المباشر في الواقع الافتراضي. فحضور وانتباه المتلقي يحفز ملكات المُعلِم، بشكل يعيه بالفعل وإن لم يقدر على تفسيره حتى لنفسه، فيجد المعاني وقد حضرت في ذهنه، والكلمات وقد جرت على لسانه، وهو ما عبر عنه محمد عبده برغم توجهه العقلاني الشهير بمصطلح «الفتح الصوفي». والأمر بالفعل فتح لا يدركه سوى من مارس التدريس ممارسة شغف والتذاذ لا ممارسة روتين وسآمة.

والحقيقة أن فضل ابن خلدون لا يُجحد في توجيه دفة النقاش في تلكم القضية، ليس فقط من حيث مقصدها وهو استخلاص الدروس والعبر، ولكن أيضاً من حيث موضوعها، حيث إن ابن خلدون –وللدهشة الشديدة، على الأقل من جانبي– تناول بالفعل مسألة التعليم عن بعد في أحد أعماله.

وهكذا بعد أن فصلت لك أيها القارئ في هذا المقال كيف ساقتني الأقدار الإلهية للوصول إلى هذا الموضع، أفلا يجمل بي أن أضرب قضاء الله بقضاء الله، كما يذهب ابن القيم، فأفيد مما ذكره ابن خلدون بصدد موضوع التعليم عن بعد، عل حديثه في الأمر يكون مرشداً وهادياً في مصرنا وعصرنا، فلا نقع فيما وقع فيه الأقدمون من أخطاء، ونهدر جهوداً قيّمة وموارد شحيحة من الأصل. والمرء في الوقت ذاته يقوم على تراث القدماء بالتهذيب والعناية لاستنباته وتثميره، فتؤتي أفكارهم أكلها كل حين بإذن ربها.

بالرغم من أن ابن خلدون قد اكتسب شهرته لدينا كمؤرخ واسع الاطلاع وعالم اجتماع ثاقب النظر في حركة المجتمعات، بل وحتى كسياسي شديد الطموح قادر على التلاعب بالأمراء وتأليب العصبيات، إلا أن جانب التصوف في حياته لم ينل القدر الواجب من الاهتمام، كما تخبرنا بذلك أحدث الدراسات عن الرجل.

فلقد خلف لنا ابن خلدون رسالة في التصوف لم تشغل بال الكثيرين؛ فرواد الدراسات الخلدونية أهملوها لأنها تُخلخِل الإطار العقلاني الوضعي الذي حبسوا فيه صاحبنا ومقدمته، وكذلك الحال بالنسبة لدارسي التصوف، الذين اكتفوا بصفحات معدودة في مقدمة كتاب «العبر» عن علم التصوف، إذ اعتبروا ما كتبه الرجل عن التصوف محض تأريخ لا يرقى لأمهات كتب التصوف ولا لكتب طبقات الصوفية الشهيرة. وقصة تأليف رسالة ابن خلدون في التصوف، تلك المسماة «شفاء السائل وتهذيب المسائل»، أن صاحبنا بعد خطوب وشدائد مر بها كان قد ملَّ السياسة وزهد في شئون الحكم والرياسة، بل وحاول عن جد الانقطاع عنهما –كما تُصرِّح بذلك الرسائل المتبادلة بينه وبين صديقه لسان الدين بن الخطيب– للتفرغ للعبادة والذكر والتسبيح في مقام سيدي أبي مدين الغوث، ومن هنا أراد أن يُدلي بدلوه في خلاف شديد الأهمية نشب بين علماء الأندلس في أخريات القرن الثامن الهجري، الذي يجوز لنا تسميته قرن ابن خلدون.

وقد صاغ صاحبنا في مستهل رسالته تلك ذلك الخلاف على هيئة السؤال التالي:

هل يصح سلوك [طريق المتصوفة] والوصول به إلى المعرفة الذوقية… تعلمًا من الكتب الموضوعة لأهله واقتداء بأقوالهم الشارحة لكيفيته؟ أم لا بد من شيخ يُبيِّن دلائله [أي الطريق] ويحذر غوائله… فيتنزل منزلة الطبيب للمرضى والإمام العدل للأمة الفوضى؟

إنها إذن نفس مشكلتنا التي نكابدها الآن تحملق فينا من وراء اللغة الكلاسيكية لابن خلدون، وستكشف لنا النقاب عن محياها، لو وضعنا بين قوسين تلك القضية محل التساؤل في الرسالة، (أي التصوف)، وركزنا على المشكلة ذاتها، وذلكم هو النهج الذي سأسير عليه في قراءة الخبرة الخلدونية تلك.

بعبارة أخرى، فالسؤال الذي صاغه ابن خلدون وقدم الإجابة عليه في الرسالة هو: هل يصح السير في طريق العلم بالاعتماد على الكتب المؤلفة في موضوعات العلم وكذلك الشروح والتعليقات عليها (أي التعليم عن بعد) أم لا مفر من وجود أستاذ أو معلم يبين معالم طريق العلم ويحذر من يسلكه من مخاطره، بحيث تكون علاقته بطالب العلم كعلاقة الطبيب بالمريض (أي التعليم المباشر)؟

إذن تدور الرسالة حول المفاضلة بين التعليم عن بعد (ووسيلته الكتب والشروح والتعليقات، كوسائط تعليمية سائدة في عصر ابن خلدون، تمامًا مثل المحاضرات المسجلة والملفات الإلكترونية وحتى برامج التفاعل بالصوت والصورة في الفضاء الافتراضي في عصرنا) والتعليم المباشر (عن طريق الأستاذ المعلم أو الشيخ المعمم، سواء في عصر ابن خلدون أو عصرنا). وتلك بحق نفس إشكالية الوقت لدينا، رغم الاختلاف في طبيعة الظرف التاريخي بيننا وبين ابن خلدون، ذلك الظرف الذي تسبب في امتناع التواصل المباشر بين العالم والمتعلم. ففي حين تسببت جائحة الوباء وتعطيل الدراسة النظامية في انقطاع العلاقة التعليمية المباشرة في عصرنا، فقد شهد قرن ابن خلدون تناقص عدد شيوخ التصوف في الأندلس، بالموت أو الهجرة، جراء تتالي سقوط مدن المسلمين بالعدوى الأندلسية في يد الأسبان، فضلاً عن اضطراب أحوال ما بقي منها في يد أمراء، أخس وأحط من أن يوصفوا بأي وصف.

ويغدو السؤال بالنسبة لنا هو: أي مضمون يمكن لنا تجريده من إجابة ابن خلدون على السؤال السابق، بغية اتخاذه مبتدأ نعرض عليه خبر خبرتنا في التعليم عن بعد في اللحظة الحاضرة؟ وهذا بالأساس هو الهدف من القراءة الحالية لابن خلدون وأساس شرعيتها، ومن ذلك تبين أهمية الإفادة من تراث الأقدمين.

وقد وضع ابن خلدون في رسالته مقولة مفتاحية تفضي مباشرة إلى طرحه في التعليم عن بعد؛ «اختلاف المجاهدات باختلاف البواعث». ويتلخص رأيه في القضية كالتالي: «اعلم أن افتقار هذه المجاهدات إلى الشيخ المعلم والمربي الناصح ليس على سبيل واحدة، بل هو في بعضها أكمل وأولى، وفي بعضها أحق وآكد، وفي بعضها أوجب، حتى إنه لا يمكن بدونه».

وتفصيل ذلك وبيانه هو أن العلّامة ابن خلدون لم يجعل المجال المعرفي موضع المناقشة (أي علم التصوف) كتلة واحدة، بل إنه بعد أن أرخ لظهوره كخبرة وممارسة ثم كعلم ودراسة قسّمه إلى مستويات متباينة، من حيث درجة قربها إلى لب هذا العلم. كما أنه لم يجعل المفاضلة بين أسلوبي التعليم تأخذ شكلاً حديًا، صفرًا أو واحدًا، بل قدم حالات بينية متمازجة على المتصل القائم بين الحالتين الطرفيتين، الواجب وغير الواجب.

بيّن ابن خلدون طبيعة التصوف كعلم عملي يبدأ من المجاهدة[…] ويهدف إلى الوصول لغاية

فلقد بيّن ابن خلدون طبيعة التصوف كعلم عملي يبدأ من المجاهدة، أي ممارسة الرياضات الروحية المتعلقة بالأمور السلوكية والأمور القلبية، ويهدف إلى الوصول لغاية، هي الكشف والمشاهدة، أي العلم بالله وصفاته وأفعاله وأسرار ملكه. وفي هذا الإطار، قسم المجاهدة إلى ثلاثة مستويات أو مراحل، يقوم الاختلاف بينها على اختلاف الباعث في كل منها، بحسب المقولة المفتاحية المذكورة سلفًا.

فهناك أولاً مجاهدة التقوى، وتتلخص في مجاهدة النفس للوقوف عند حدود الله، بالتوبة عن المخالفات وترك ما يفضي إليها من أعمال، وبمراقبة أفعال القلب لتصحيح النية والإخلاص في العمل لوجه الله. وباعث مجاهدة التقوى هو مجرد طلب النجاة من العقاب الإلهي، أي الفرار من نار الجحيم.

ثانيًا؛ هناك مجاهدة الاستقامة، وتتمثل في تقويم النفس لتتحسن أخلاقها وتصدر عنها أفعال الخير من دون تكلف، ولا يتأتى ذلك بقمع الصفات البشرية أو بترها بالكلية، ولكن بعلاجها بموازنتها بما يضادها من صفات تخالف هوى النفس، مثل علاج البخل بالسخاء والغضب بالحلم والشره بالامتناع عن المشتهى. وباعث مجاهدة الاستقامة ليس النجاة ولكن الفوز بالدرجات العلى، وهي مراتب النبيين والصديقين في جنة الخلد.

تحتاج مجاهدة الكشف والمشاهدة احتياج وجوب واضطرار إلى وجود المعلم المربي، لأن غايتها رفع الحجاب والاطلاع على العالم الروحاني

وأخيرًا توجد مجاهدة الكشف والاطلاع، وهي عبارة عن محو الصفات البشرية وتعطيل القوى البدنية بالرياضات المفضية لصفاء القلب، تمامًا مثل صقل الأجسام العاكسة كالمرايا لتنطبع فيها صور الأشياء المقابلة لها. وباعث مجاهدة الكشف هو الاطلاع في هذه الحياة الدنيا على الأمور الغيبية التي ستحصل للروح بعد الممات، أي الوصول للعلم اللدني.

ولا شك أن بعد هذا التقسيم الثلاثي للمجال المعرفي موضع النظر سوف تختلف الإجابة على سؤال المفاضلة بين أسلوبي التعليم وجدوى التعليم عن بعد، بحسب طبيعة كل مستوى وباعثه وغايته.

ليس هناك قول فصل إذن ينطبق على التصوف بأكمله كمجال معرفي، فيما يتصل بالمفاضلة بين التعليم المباشر والتعليم عن بعد، بل يتفاوت الأمر بين مستويات هذا المجال المعرفي. أما مجاهدة التقوى، فلكونها تتعلق بالالتزام بالأحكام والتكليفات الشرعية، وتلك أمور مودعة في بطون الكتب وصفحات التأليف، فيمكن الاستغناء فيها عن المعلم المرشد، الذي ليس لديه بالفعل فضل علم على ما في الكتب. على أن كمال التعليم على هذا المستوى يتحقق من خلال الاقتداء بشيخ معلم، لكن الأمر هنا برأي ابن خلدون مجرد شرط كمال لا شرط صحة ووجوب. بعبارة أخرى، يمكن الاستغناء عن المعلم المباشر على هذا المستوى ولا غضاضة في التعليم عن بعد، وإن كان الكمال يتطلب هنا وجود المعلم.

وبالنسبة لمجاهدة الاستقامة، فلكونها تتعلق بالتخلق بأخلاق القرآن ومعالجة خبايا النفس ومسالكها المتعرجة، فيتأكد فيها وجود المرشد العلم، ولكن ليس من المستحيل استدراك الموقف لعدم وجود الشيخ المعلم بتصفح ومدارسة كتابات العلماء في أحوال وأحكام الاستقامة، لأنها من قبيل المعارف الكسبية (أي التي يكتسبها المرء ببذل الجهد). وبعبارة أخرى، من الأفضل في هذا المستوى وجود معلم مباشر، لكن ذلك لا يصل إلى حد الوجوب فمن الممكن تعويض غياب المعلم بالكتب والمؤلفات.

وأخيرًا، تحتاج مجاهدة الكشف والمشاهدة احتياج وجوب واضطرار إلى وجود المعلم المربي، لأن غايتها رفع الحجاب والاطلاع على العالم الروحاني، وفي ذلك مزالق ومهالك كثيرة، ولذلك لا يمكن حصول هذه المجاهدة دون الشيخ المعلم. وبعبارة أخرى، لا استغناء عن المعلم المباشر في هذا المستوى بل يصل وجوده إلى حد الوجوب والضرورة.

إذا جردنا تصورًا نظريًا من كل ما سبق، لاستطعنا أن نرسم خطًا متصلاً فيما يتعلق بمسألة الاستغناء عن المعلم المرشد، أو التفاعل المباشر بين الطالب والمعلم. وسنضع المستوى الأول على الطرف الأيمن من المتصل، حيث يصبح وجود المعلم غير ضروري ويمكن الاستغناء عنه، لكن من الأكمل أن يوجد إذا سمح الحال، وسبب ذلك أن هذا المستوى إنما يتعلق بالعموميات أو المعارف الأساسية، التي تتوافر في كافة كتابات العلم لضرورة إلمام الجميع بها. وفي منتصف المتصل، يمكن وضع المستوى الثاني، حيث يصبح وجود المعلم أفضل من غيابه، بمعنى تراجع إمكانية الاستغناء عن الصلة المباشرة مع المعلم، فهي غير محبذة لكنها واردة. ويرجع ذلك إلى أن هذا المستوى لا يتعلق بعموميات ولكن بمعارف أرقى نسبيًا من المستوى السابق وتستلزم معاونة خبير لاكتسابها، وإن كانت تلك المعارف موجودة في العديد من الكتابات، وهي قابلة للاكتساب.

وفي الطرف الأيسر من المتصل، نضع المستوى الثالث، حيث يغدو وجود المعلم ضروريًا وواجبًا، ويستحيل الاستغناء عنه في الغالب. وهنا تختلف معارف هذا المستوى في حالة علم التصوف عن العلوم الأخرى، إذ إن علم المكاشفة علم وهبي (أي هو كما يرى الإمام أبو حامد الغزالي بمثابة نور يقذفه الله في قلب العبد دون حول أو قوة من العبد، لأنه منحة إلهية يختص الله بها من يشاء من عباده). ولكن يمكن مقابلة هذا المستوى بالمعارف شديدة التخصص في العلوم العقلية الكسبية، تلك المعارف التي يعسر الحصول عليها من دون مساعدة تلك القلة من ذوي الكفاءات العالية والعقليات الفذة.

ليست هناك من إجابة واحدة شافية تنطبق على مجال معرفي بأكمله أو حتى مقرر دراسي، بل يرتبط الأمر بمستوى المقرر الدراسي وطبيعة موضوعاته

ووفق النموذج الذي تم تجريده من الطرح الخلدوني لما نسميه في عصرنا بـ «التعليم عن بعد»، يغدو بالإمكان القول إنه من حيث مدى ملاءمة التعليم عن بعد لطبيعة المقررات الدراسية، فليست هناك من إجابة واحدة شافية تنطبق على مجال معرفي بأكمله أو حتى مقرر دراسي، بل يرتبط الأمر بمستوى المقرر الدراسي وطبيعة موضوعاته. فبالنسبة للموضوعات العامة المقررة على المبتدئين، يسهل الاستغناء عن المعلم، الذي لن يضيف جديدًا لما تحويه الكتب والمراجع، خاصة وأن الباعث على الدراسة في هذا المستوى هو مجرد النجاة من عذاب الجهل بموضوع العلم.

أما في حالة الموضوعات الأرقى درجة عن المعارف العامة، فمن الأفضل إيجاد وسيلة للتفاعل عن بعد مكاني، مع وجود إمكانية محدودة للاستغناء عن المعلم المباشر، لأن الأخير سينبه طالب العلم لجوانب خافية على غير الخبير بالعلم، خاصة وأن الباعث على التعلم في هذا المستوى هو وصول الطالب لمرتبة عالية في جنة المعرفة بذاك العلم، وليس مجرد دفع الجهل بعموميات العلم.

وأخيرًا، فبالنسبة للموضوعات شديدة التخصص، كمستوى دراسات الدكتوراه أو ما بعد الدكتوراه، فليس بالمستطاع أن يترك الطالب فيها وشأنه، لأن غياب المعلم المرشد والتفاعل المباشر وجهًا لوجه معه يعرضه لمخاطر ومهالك يعلمها كل خبير، وهنا لا يصلح التعليم عن بعد بأية طريقة كانت، بل لا بد من تأجيل تدريس تلك الموضوعات، عند توافر فرصة التلاقي الحقيقي المباشر بين المعلم والطالب. ولعل هذه النقطة الأخيرة ترفع الحرج عن إلغاء تدريس مستويات تعليمية أو مقررات دراسية بأكملها، لتعذر وجود عملية تعليمية حقيقية في الواقع، بسبب طبيعة الموضوعات محل التدريس.

لقد قمت في هذه الوريقات المحدودة بقراءة تلك الرسالة المهمشة عن التصوف لابن خلدون، بغرض تجريد نموذج نظري يمكننا من استخلاص الدروس والعبر في القضية المعروضة على بساط البحث، ألا وهي التعليم عن بعد. ويمتاز هذا النموذج النظري الخلدوني بأنه جعلنا ننظر إلى القضية من أفق واسع، يسمح لنا بتشكيل نظرة تركيبية غير اختزالية، تسلط الضوء على التباينات الدقيقة داخل نفس الموضوع، وهو ما يجعل الحكم على الأمر لا يأخذ شكلاً حديًا، بل يصير الحكم هو الآخر حكمًا مركبًا.

وسيمكن هذا النموذج كل معلم مربٍّ يقوم على أمر التدريس لمقرر ما، أيًا ما يكون مستواه، من إعادة توصيف أو تركيب مقرره الدراسي ليتناسب مع طبيعة التعليم عن بعد وغياب التفاعل الحقيقي المباشر بين المعلم والطالب. ويقينًا فإن خيار التعليم عن بعد، على هذا النحو الذي يرشد إليه النموذج الخلدوني، أفضل كثيرًا من بديل انقطاع التعليم بالكلية، فما لا يدرك كله حتمًا لا يترك كله.

مقالات الرأي والتدوينات لا تعبر بالضرورة عن وجهة نظر هيئة التحرير.