منذ بداية صعود مروان حامد وهو يلجأ لمنحى عنيف في تعاملة مع شخصياته، قد يستعجل الصراع أو قد يأتي في وقته المناسب، وهذا في الأغلب هو ما يولد مشكلة في الإيقاع في أغلب أفلامه ولكن حتى يشتعل الصراع لدرجة الجنون نجد الشخصيات تلجأ إلى منحى غريب وقاسٍ، الشخصيات تذهب إلى الحد العكسي لها.

في فيلم «لي لي» تتفتق قريحة الشيخ عن حل غرائبي، هو سيذهب للأشخاص الذي يريد هدايتهم في أوكارهم وغرزهم وسينشد لهم ويدعوهم وهم يتعاطون الحشيش ويفعلون الفواحش، الشيخ هنا يمنطق الجنون ويذهب في منحى أسطوري ليس للمذنبين ولكن منحى أسطوريًا في علاقته بذاته، هو عندما أخذ هذا القرار كان يدمر ذاته، بمعنى ما شخصيات (مروان) تبحث عن الموت، الشخصيات تذهب إلى حتفها.

إبراهيم الأبيض

كان من المفترض أن يكون «إبراهيم الأبيض» هو ثاني فيلم لمروان حامد بعد «لي لي» لكن لظروف إنتاجية كثيرة انتقل الفيلم من شركة إلى أخرى ثم عمل مروان على فيلم «عمارة يعقوبيان» إلى أن تحمست شركة جود نيوز للعمل على سيناريو (عباس أبو الحسن).

هذا السيناريو الذي لاحقته الأساطير حتى قبل أن يعمل، ومع مواصلة التأجيلات كان السيناريو في السوق يزداد شهرة إلى أن أخذ لقب أشهر سيناريو لم ينفذ، إلى أن تم تنفيذه وصدوره في صيف 2009 وسط عاصفة مهولة من الانتقادات والصدمة.

الحقيقة أن الأساطير لم تتوقف لحظة عن الفيلم، فهناك قصص متناثرة عن أربعين دقيقة تم حذفها وهو شيء قاله عباس أبو الحسن في حوار له مع «الدستور» وقت صدور الفيلم ، وهناك قصص أخرى عن سرقة أكثر من نصف خام الفيلم الخاص بمشاهد القتال من معامل التحميض، وهناك من تكلم عن طول النسخة الأولى من العمل وتجاوزها للست ساعات –وهذا شيء لو حدث فهو طبيعي بالمناسبة- وهناك من تكلم عن عودة خالد مرعي لمقعد المونتير -بعد أن أصبح مخرجًا- لإنقاذ الموقف والخروج بنسخة مناسبة.

الحقيقة أن تفسيري لهذه القصص يعود في رأيي إلى أن الفيلم أشبع نقصًا شديدًا في الأسطورة عندنا، الفيلم ينحو بمنحى ملحمي أغريقي وأجده أشبه في بنائه ببناء (غضبة أخيليس) في الألياذة. هناك بطل محوري يبغي الموت وفي غضبه ينفي العالم تمامًا، يجعل كل شيء صفرًا.

ولكن لم يكن الفيلم نفسه كافيًا لتعويض التراث الأسطوري الناقص في السينما المصرية والعربية، فأصبح كواليس الفيلم –قبل وبعد التنفيذ- تغذي هي الأخرى الخيال الأسطوري عند الجمهور.

بعد كل هذه الفترة من الزمن، أرى أن هذا وقت مناسب للتوقف أمام شخصيات هذا الفيلم، التي كانت فريدة بشدة ومعها استمر تراث شعبي مصاحب للفيلم في مخيلة الناس.

عبد الملك زرزور

في شخصيات عباس أبو الحسن نستطيع بتحليل بسيط أن نفهم من أين جاءت، أو بمعنى ما :ما هي النماذج الأولية التي تستعيدها؟

الحقيقة أن شخصية (عبدالملك) نموذج للأب تحت الثقافة العربية، وهذا النموذج هو الآخر نموذج للـ(إله) في النسخة الإسلامية التي لها جذور قادمة من النسخة التوراتية.

فنموذج (الإله) التوراتي (يهوه) الذي يطرد آدم وحواء من (عدن)، هو نفس النموذج في تفاصيله العريضة لشخصية عبد الملك، السطوة، الغضب- التقلب المزاجي والأهم القبائلية فيهوه هو إله قبائلي، إله لشعب واحد وهم بنو إسرائيل، زرزور (إله) الزرازير أيضًا، ما خدم هذا التصور الإلهي في الشخصية أكثر هو قطع لجزء غير صغير لمشاهد (محمود عبد العزيز) وهي غالبًا مشاهد متعلقة بتاريخ الشخصية.

مما أفاد –حتى لو كان دون قصد- التصور الإلهي عن هذه الشخصية، لأن بشكل أساسي وقديم ومتعارف عليه منذ الأزل، الآلهة لا تملك تاريخًا. (الإله) حتي يكون مقنعًا لا بد أن يأتي من العدم كطلقة عدمية غير مفهومة في التاريخ البشري.

عشري (السنتمنتالي)

في عالم عنيف بهذا الشكل تنبض الحسية من كل الشخصيات، مسام الجلد تتفتح برحيق الجنس يبقى (عشري) لغزًا كبيرًا. إبراهيم لديه هدف ورغبة واضحة وهي حورية، حورية تريد إبراهيم، عبدالملك يريد حورية، ولكن ما هو بالضبط الشيء الذي يريده (عشري)؟

(عشري) هو الشخصية الوحيدة التي لا تريد هدفًا ماديًا، عشري يبغي مثلًا أعلي، أن يضرب «السقف» في الحب من خلال صداقته لإبراهيم الأبيض، تلك الصداقة هي هويته، عشري خلق كصديق، مستحيل أن يتمثل في شيء آخر، في شخصية عشري تجاوز الفيلم ذاته، وللمفارقة هي أكثر شخصيات الفيلم مصرية.

غضبة إبراهيم

عندما نرى إبراهيم وهو يغضب نلمح شيئًا لا تخطئه العين وهو الكبت، إبراهيم يتحول لشخص آخر عندما يغضب، بالرجوع لتاريخه نجد كوارث عديدة حدثت أمامه وهو طفل ولم يفهم لماذا تحدث معه تلك الأشياء، والده يموت أمامه بعدة ضربات بالشبشب، الرجل الذي كان مسئولًا عن قتل والده، يجعله يعمل لديه، ولكنه في يوم ينهال عليه بالسوط لأنه لمس ابنته وعندما يدافع عن نفسه يقتله بالخطأ. حتى عندما تأتي له الفرصة مرة أخرى مع حورية عندما يكبر، تفسد أمها كل شيء.

لذلك نحن أمام شخص لم يختر أي شيء ودائمًا يتم نفي الحب من عالمه من دون إرادة منه، لذلك عندما يغضب إبراهيم هو لا يهتم بالأسباب، ببساطة هو يريد تفريغ تلك الطاقة، هو يريد رفع سقف العنف وبلوغ حدود الموت والإمساك بلحظة إرهابية ينهار عندها كل شيء في العالم. إبراهيم عندما يغضب، يريد نفي العالم بأكمله، لأنه لا يريد عالم لا يتحقق فيه حبه.

هذا هو أفضل أداء لأحمد السقا، والحقيقة أن مشاهد العنف داخل الفيلم تحوي طاقة تمثييلية وطاقة روائية تضيف لأحداث الفيلم وهذا من الأفلام النادرة التي تتعامل مع مشاهد الأكشن كمشاهد تمثيلية مثلها مثل بقية المشاهد وليست فقط أداء حركيًا.

فزورة قادمة من فارس

مثلما حللنا شخصية عبد الملك، نجد هنا شخصية بها شبه منه، هي المضاد له في الفيلم وهو الحاج (فارس)، الشخصية التي أداها الممثل العظيم (محمد أبو الوفا)، رحمة الله، هي شخصية ذو جذور عربية توراتية أيضًا مثل (زرزور الكبير) ولكننا هنا نجد عناصر غنوصية أكثر، تواصل المعلم( فارس) ليس إرهابيًا مثل (عبد الملك)، ولكنه تواصل باطني، لذلك دائمًا لسانه يقطر شعرًا ويسقط من عباءته ألغازًا.

في مشهد الفزورة الشهير، نجد (إبراهيم) يجد الحل بسرعة، ثم نجد أن المخرج قرر تصوير تنفيذ (إبراهيم) للمهمة بقطع لسان زوج ابنة المعلم (فارس)، عن طريق دمج لقطات سريعة لحياة (إبراهيم) داخل السجن، ومع حورية، ومشاهد فانتازية لأمه، في اقتطاع مونتاجي علي توشيح صوفي بصوت المنشد (زين محمود)، بشكل يجعلنا نتساءل، ما الهدف من كل هذا؟ وبشيء يجعل هذا المشهد خليقًا بالوصف أنه المشهد اللغز، ولكننا بشيء من التجاوز نستطيع أن نفهم الاستعارة.

إبراهيم عرف حل اللغز بسرعة لأنه حل (الفزورة) قبل ذلك في نفسه، إبراهيم قطع لسان الجانب المحب في شخصيته، الجانب الذي يتغذي بالحب من أمه وحورية، هو لم يستطع أن يقتله ولكنه استطاع إخراسه وقطع لسانه لأنه لا مكان لهذا الجانب في هذا العالم، وهي -في النهاية- استعارة شديدة العنف.

ما الذي يحدث عندما يستخدم الشعر استعارات عنيفة؟

عندما يتم نفي الحب من العالم، ويتحول إلى مكان عنيف لفترة طويلة من الزمن، لا يجد الشخص حلًا سوى استعذاب العنف وعندما يستعذب الشخص العنف يصدح شعرًا باستعارات عنيفة، لأن علاقته مع هذا العالم أصبحت من خلال العنف في الأساس، وهو ما حدث مع (إبراهيم) هنا، ما يزيده المخرج في المشاهد التي تصدح بانفجار عنفي، هو تراك صوت صوفي مليء بالإنشاد يأتي في الخلفية كأنه شيء تذكري أو استيعادي من بعيد ومن زمن سحيق، كأنه يقول حقيقة قديمة قدم الإنسان في العالم، هذه الحقيقة لها علاقة بالموت.

لأن في عالم مثل هذا قتل كل شيء جميل، لا تستطيع الشعور مرة أخرى إلا بالاقتراب من الموت، بل مهاجمة الموت في عقر داره، لذلك كما قلنا في البداية، (الشخصيات كان لا بد من أن تذهب إلى حتفها).