منذ عامين عرض في رمضان مسلسل حقق نسبة مشاهدات مرتفعة ولفت له الأنظار. وكان المسلسل نقطة فارقة في مشوار معظم الممثلين المشاركين في العمل. هذا المسلسل هو «لا تطفيء الشمس»٬ والمأخوذ عن رواية مر على ولادة كاتبها مائة عام.

تحل هذه الأيام مئوية الكاتب إحسان عبد القدوس٬ الذي استطاعت أعماله أن تصمد كل هذا الزمن وأن تعرض اليوم فتشعر أنه يتحدث عنك أو عن أشخاص تعرفهم أو من الممكن أن تقابلهم. إحسان عبد القدوس أشهر من كتب عن الحب٬ وأشهر من حرر الحب من الأفلاطونية غير الحقيقية ليخرج به إلى الواقع.

في هذا التقرير وبمناسبة مئويته٬ نتعرف أكثر على الكاتب والمؤلف إحسان عبد القدوس.


إحسان المتمرد

إحسان محمد عبد القدوس٬ ابن الممثل محمد عبد القدوس والسيدة فاطمة اليوسف صاحبة ومؤسسة مجلة روزاليوسف. كان والده من أسرة محافظة ومتدينة٬ فجده كان أزهرياً يعمل بالمحكمة الشرعية٬ تمرد والده على العائلة وتقاليدها عندما أصر على الزواج من فاطمة اليوسف٬ التي كانت تعمل وقتها بالفن٬ بل ترك عمله كمهندس وسار وراء شغفه بالفن وأدى عدة أدوار صغيرة في السينما. أما والدته فاطمة اليوسف تمردت على الصورة النمطية للمرأة التي تشتغل بالفن٬ وأسست مجلة «روزاليوسف» وكانت تقيم الندوات الثقافية والفنية وأصبحت من أهم سيدات المجتمع الثقافي المصري.

نشأ إحسان عبد القدوس ابناً لأسرة متمردة بطبعها٬ التحق بكلية الحقوق وعمل لفترة صغيرة محامياً٬ ثم انخرط في الوسط الثقافي فكان رئيساً لتحرير روزاليوسف وهو في منتصف العشرينات٬ ثم استقال من روزاليوسف والتحق بأخبار اليوم. تمرد إحسان عبد القدوس مرة أخرى على النموذج الأسري الذي نشأ فيه٬ رغم أنه في ذاته نموذج مختلف ومتمرد إلا أننا نجده يتمرد على نموذج المرأة القوية العاملة التي تغير المجتمع بيديها ليتزوج السيدة بولا التي كان يشيد بها كونها نقيض والدته٬ فهي تعطي الأولوية لبيتها وزوجها وكان يسميها رئيسة مجلس إدارة حياته.

كانت الخطوط العريضة لحياة إحسان عبد القدوس تظهر شخصاً مختلفاً ومعترضاً ومتمرداً أكثر مما تظهر شخصاً حالماً ورومانسياً٬ رغم أنه اشتهر بالكتابة عن الحب والرومانسية٬ ولكن حتى كتابته هذه كانت تمرداً على المجتمع المتحفظ الذي كان يداري عيوبه بدلاً من الحديث عنها.


إحسان والسياسة

رغم أن الانطباع الأول الذي يترسخ في ذهنك عن كتابات إحسان عبد القدوس هو أنه رائد الكتابة الرومانسية٬ ورغم أنه اكتسب شهرته الأساسية التي ما زالت تصاحب اسمه حتى الآن من رواياته التي تدور في هذا الإطار٬ فإنه كان كاتباً سياسياً جريئاً ومشاغباً٬ فبغض النظر عن أنه كان يكتب رواياته من قلب المجتمع ومشاكله وعقده الاجتماعية والسياسية وصراعاته التي ينغمس فيها الأبطال، إلا أن إسهاماته في الكتابة السياسية لا يجب أن يتم تجاهلها لصالح الرومانسية.

كان إحسان عبد القدوس جريئاً في آرائه فقد كتب مجموعة من المقالات عن قضية الأسلحة الفاسدة قبل الثورة٬ وكان يهاجم القصر والملك على صفحات روزاليوسف٬ وقد تعرض للسجن بسبب هذا٬ ثم قامت الثورة وحاول أن ينتقد حكام مصر وقتها وكتب مجموعة من المقالات التي سجن مرة أخرى بسببها٬ رغم أنه كان يقدر عبد الناصر ويحبه فإنه كان موضوعياً يرى العيوب ويتحدث عنها بلا خوف.

كان لإحسان أيضاً آراء في معاهدة كامب ديفيد كتبها ونشرها في كتاب تحت عنوان «خواطر سياسية»٬ وقد عرف أنه معارض للمعاهدة٬ وله مجموعة أخرى من المقالات السياسية التي نشرها بين عامي 1976، و1978 نقل فيها الواقع من الشارع المصري والآراء السياسية الحقيقية للشعب المصري٬ تجدها في كتاب «على مقهى في الشارع السياسي».

وهناك جانب كبير من روايات إحسان عبد القدوس ومجموعاته القصصية تناقش الأوضاع السياسية بشكل مباشر حتى لو كانت تناقش في قالب رومانسي٬ يمكنك أن ترى ذلك في «يا عزيزي كلنا لصوص»، و«في بيتنا رجل»، و«الرصاصة لا تزال في جيبي» وغيرها من الأعمال.


المفتون بالحكي

يبقى الطابع الأساسي لإحسان عبد القدوس، رغم صولاته وجولاته في عالم الصحافة والسياسة والكتابة، هو الفتنة بالحكاية. هو يعرف كيف يرى الناس، وكيف يحكيهم، وكيف يعبر عما يراه وراء وجوههم وابتساماتهم وأحزانهم. كان شغفه الحقيقي في الحياة هو الكلام٬ يتكلم ليعرف العالم أكثر عن نفسه وعن ساكنيه٬ يتكلم ليعلم الناس وليصارحهم وليصفعهم بعيوبهم وليساعدهم على الاعتراف بها وربما حلها وتخطيها.

عاش يحكي المسكوت عنه٬ تحدث عن الأشياء الحقيقية٬ العلاقات ذات اللحم والدم٬ والحب الحقيقي الذي لا يحب أحد الحديث عنه٬ عرى الحب وخلع عنه القدسية الوهمية وألبسه ثوب الواقعية٬ تحدث عن العقد التي يعاني منها المجتمع ويتحرج من التصريح عنها.

«بئر الحرمان»٬ «لا أنام»٬ «لا تسألني من أنا»٬ «وسقطت في بحر العسل»٬ «ثقوب في الثوب الأسود»٬ «أين عمري»٬ «زوجة أحمد»٬ كلها عناوين في ظاهرها تناقش قصص الحب والرومانسية٬ بينما هو في الحقيقة يمس أعمق نقاط البشر ويخرجها للنور ويناقشها بجرأة.

«لا تسألني من أنا»٬ «النظارة السوداء»٬ «صياد اللؤلؤ»٬ «الراقصة والسياسي»٬ «حتى لا يطير الدخان»٬ «لا تتركوني هنا وحدي»٬ «أنا حرة»٬ عناوين تظن أنها للوهلة الأولى تناقش مشكلات المجتمع في حين أن هذا المجتمع في الحقيقة هو مجموعة من البشر يحكي إحسان عنهم ليشرح المجتمع.

لم يقاوم إحسان عبد القدوس أبداً فتنة الحكي٬ تبعها وكأنها نداهة نادته فسمع نداءها وتبعه٬ والنتيجة أنه حتى بعد وفاته بثلاثين عاماً تقريباً ما زال حاضراً في الأذهان بقوة٬ وما زال المهتمون بالأدب يحتفلون بمئويته.