إنه لكابوس مفزع حقًا أن تحيط بالمرء كل تلك الأحداث المؤلمة والظروف القاسية؛ التي تبدأ حتى قبل أن يولد؛ فلم يكن فقده لأبويه بعد صراع مع المرض والفقر أكبر مآسيه؛ فما بين التبني وقسوة المعاملة، ثم الفصل من الجامعة، ثم من الجيش، وما بين مرض الزوجة والعجز عن علاجها، وحتى عن دفنها.

وفي عصر تحاول فيه الولايات المتحدة الأمريكية أن تجمع شتاتها بين ولايات الشمال والجنوب بحرب أهلية، في مجتمع أدبي يجمع مزيجًا غريبًا من الأفكار، محاولاً تكوين شخصية أدبية مستقلة عن أوروبا، عاش الأديب الأمريكي، ورائد قصة الرعب والقصة البوليسية «إدجار آلان بو»، حياته القصيرة ما بين عامي 1809م و1849م محاولاً أن يصنع لنفسه عالمًا خاصًا من الخيالات والرؤى الرمزية المعقدة. عالمًا ملأه السحر والمغامرة والخيالات المحلقة، التي لا تعرف ثقافة محددة، ولا حدودًا لتحليقها في عالمها الجديد، بل ثقافتها الجديدة.

لقد مثـَّل «بو» الشخصية الأمريكية من حيث تنوع المكون الثقافي لا من حيث حلم الثراء آنذاك؛ وبينما كان المجتمع من حوله منهمكًا في صراعاته وحربه الأهلية، معليًا من قيمة المادة، ولا يعترف إلا بالعمل والمال؛ انعزل «إدجار آلان بو» مع بؤسه في أكثر فترات حياته مكوِّنًا عالمه الخاص من الثقافات كافة، يجمع كل غريب تميل إليه نفسه وتتطلع إليه روحه.

لقد سعى «بو» إلى أن يكون أدبه أدبًا عالميًا. ولعل هذا ما يفسر شهرته الواسعة خارج وطنه أكثر من داخله؛ وهذا ما يفسر أيضًا بداية شهرة «بو» في أوروبا بعد ترجمة الأديب الفرنسي «شارل بودلير» لأشعاره، التي جعلت «بودلير» رائدًا للمذهب الرمزي دون رائده الحقيقي، وكما يجهل كثيرون ريادته للمذهب الرمزي في الشعر؛ يجهل كثيرون أن «بو» رائد القصة البوليسية، وليس «أجاثا كريستي» كما هو شائع، وأنه أحد رواد قصة الرعب الأكثر تأثيرًا بها وبكتّابها من بعده.

لقد كان تراثنا القديم أحد مكونات ثقافة «بو» الأساسية، فيلفت انتباه القارئ لأدبه تلك الرموز العربية أحيانًا والإسلامية أحيانًا أخرى، التي تتكرر في قصائد وقصص تثير من كثرتها تساؤلاً مهما عن وصول الثقافة العربية والإسلامية لـ«بو»، لنجد أن ثقافتنا قد وصلته من ثلاثة طرق رئيسة، أولهاترجمة القرآن الكريم. فأولى الترجمات التي نرجح اطلاعه عليها صدرت في لندن عام 1734 م؛ لأن هذه الترجمة تحديدًا قد اشتملت على تفسير يختلط في أغلب الأحيان بالترجمة الحرفية للآيات.

وهو ما جعله يظن خطأ أنه من القرآن الكريم، عندما أشار في هامش قصيدته «إسرافيل» إلى أن إسرافيل أحسن الملائكة صوتًا، وأن مصدره في ذلك القرآن الكريم، وبالرجوع للترجمة نجد أن تلك المعلومة قد وردت في تفسير الآية الثامنة من سورة الروم (فَأَمَّا الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ فَهُمْ فِي رَوْضَةٍ يُحْبَرُونَ) [1]بأن من نعيم أهل الجنة الاستماع لتسبيح داود وإسرافيل – عليهما السلام- وأن إسرافيل أحسن الملائكة صوتًا.

وكذلك نجد أن رموز قصيدته الأشهر «الغراب» هي مزيج من رمز إسلاميأساسي في القصيدة، ورموز إغريقية، ورموز أخرى: أما الرمز الإسلامي، فلقد استوحى «بو» الغراب المذكور في القرآن الكريم الذي علم ابن آدم كيف يواري سوءة أخيه، كما استوحى تطيّر العرب بهذا الطائر، في حين لا يتطير منه الغربيون عادة، مزج هذا الرمز برمز إغريقي آخر هو أثينا إلهة الحرب والحكمة عند الإغريق، كما مزج كل هذا برمز آخر هو ملاك البخور، الذي اختلف في وصفه قليلاً عن وصفه بالكتاب المقدس، ولكن «بو» لا يهتم لهذا كله، وإنما يهتم بما يمثله كل رمز في نفسه، التي كونتها تلك الثقافات المتنوعة.

أما الطريق الثاني للثقافة العربية والإسلامية فكان اطلاع بو على ترجمات «ألف ليلة وليلة»، إذ بدا أثر اطلاعه عليها واضحًا في أعمال كثيرة، أولها قصته «الليلة الثانية بعد الألف لشهرزاد» والتي حاول فيها خلق عالم غرائبي يشبه عالم «ألف ليلة وليلة»، وهو ما أجاده أكثر في قصة «ليجيا»، إذ مزج فيها بين عدة رموز متنوعة الدلالات الثقافية والفلسفية، ومن ثمَّ النفسية؛ إذ نجده قد أكثر فيها من ذكر الشرق وملامحه حين يقول مثلاً:

لكن، وا أسفاه كان في تلك المظاهر ما يكشف بداية جنون أكيد في الستائر الفخمة المتموجة، في النقوش المصرية الهادئة والأفاريز الغريبة.
وقوله كذلك:
من قمة هذه القبة الكئيبة تتدلى سلسلة ذهبية تنتهي بمبخرة ذهبية ضخمة من طراز إسلامي.

وفي قصة «بيرنيس» يدهش «بو» القارئ حين يفتتح قصته بشطر بيت للشاعر محمد بن عبد الملك الزياتيقول فيه: «يقول لي الخلان لو زرت قبرها». والمدهش أكثر أنه لا يتم البيت بتكملته الرائعة «فقلت وهل غير الفؤاد له قبر». بل الأعجب حقًّا أنه يورد البيت باللغة اللاتينية، التي قد تكون اللغة التي طالع بها ديوان ابن الزيات، أو أي مصدر آخر ورد به بيت ابن الزيات أو شطره، وربما كان هذا المصدر هو إحدى نسخ ألف ليلة وليلة.

أما الطريق الثالث لوصول ثقافة الشرق وآدابه كان «واشنطن إيرفينج»، تلك الشخصية الأمريكية المرموقة وثيقة الصلة بالأدب العربي الإسلامي، «إيرفنج» الذي زار قصر الحمراء وعاش فيه حينما كان سفيرًا في إسبانيا، وقد سجل تلك التجربة الفريدة في كتاب «قصر الحمراء في الأدب والتاريخ»، وهو من أهم الكتب التي تزود القارئ الغربي بأهم المعلومات عن الأندلس، وعن غرناطة التي تعد آخر حصون المسلمين هناك، وعن عادات العرب المسلمين التي توارثها الإسبان، وعن أشياء أخرى أدق مثل القصص والأساطير المتوارثة، كما وثق معرفته بكل ما توصل إليه عن الثقافة الإسلامية وعن المسلمين في الأندلس، وعن الإسلام بصفة عامة في كتابي «أخبار سقوط غرناطة»،و«محمد وخلفاؤه».

لقد أدى واشنطن إيرفنجدور الجسر الذي عبر فوقه بوإلى ثقافتنا، وإننا لنندهش حينما نلحظ مدى التوافق بين بعض ما ينقله الكتاب عن الأندلس أو غرناطة أو قصر الحمراء على وجه الخصوص، وبين بعض أهم أعمال بو مثل: «قصيدة القصر المسكون»، و«قصة سقوط منزل آشر»، و«قصة مخطوطة في قنينة».

لقد أخذ بوأهم ما يميز قصر الحمراء متمثلاً في ثلاثة أشياء هي: التفاصيل الشكلية، وقيمة القصر وما يمثله من حضارة، وتبدل الحال بين الماضي والحاضر. فبداية من اسم القصيدة «القصر المسكون»، وما يوحي به ذلك الاسم من إيحاءات توضح القصة التي ذكرت بها القصيدة، كما توضح الرابط الأكثر وضوحًا بين القصر في تلك القصيدة وبين قصر الحمراء، الذي تحيط به الكثير من الخرافات والأساطير، فنجد وصف «إيرفنج» يغذي خيال «بو» إذ يقول: «كم من مرة أعطت هذه الأبراج إنذارًا بواسطة النار ليلاً والدخان نهارًا بزحف جيوش العدو الغازية؟» ليقول بو:

أعلام المجد وألويته ترفل على الأسطح صفراء ذهبية هذا
هذا كله، كان فيما مضى منذ أمد طويل وكل نسمة هواء عذبة كانت تهب في ذلك اليوم السعيد.

ولم يهمل بوذكر ما جاء من خرافات وأساطير عن قصر الحمراء كما قلنا، ولقد توسع في ذلك أكثر في قصة «سقوط منزل آشر»، إذ يذكر إيرفنجبعض الخرافات المتعلقة ببناء القصر إذ يقول:

يتخذ المدخل شكل قوس عربي ضخم يشبه حدوة الفرس… وعلى إقليد العقد من القوس تشاهد يدًا ضخمة منقوشة، وكذلك نقش في الردهة مفتاح ضخم، والذين يدعون العلم بالرموز الإسلامية يقولون إن اليد هي رمز للعقيدة الإسلامية: فالأصابع الخمسة ترمز إلى قواعد الدين الإسلامي… وأما المفتاح فيقولون إنه يرمز إلى الإيمان، والقوة. إنه مفتاح داود (للحكمة) الذي انتقل إلى نبي الإسلام.

وهذا ليس ببعيد عن وصف «بو» على لسان بطل قصته في وصف منزل آشرإذ يقول: «كنت أحس بأن قلبي يتجمد، ويغور، ويخفق، وأن خواطر مرعبة تتملكني ولا تتيح لي سبيلاً للخلاص منها، فما الذي حل بي؟ وما هذا الذي وتر أعصابي لدى تفكيري في منزل أوشر؟ إنه لغز طلسمي غير قابل للحل، ولم أستطع التغلب على الخواطر الخفية التي احتشدت في رأسي وأنا أُعمل الفكر فيها».

إن تلك النماذج – وإن كثرت- فإنها لا تمثل سوى نسبة قليلة من نماذج أخرى في أعمال أخرى مثل: قصة «قناع الموت الأحمر»، و«لعنة الصمت»، و«جنية الجزيرة»، إذ تبدو فيها صورة المشرق أكثر وضوحًا وحضورًا، وما ذكرته هنا سوى دعوة لقراءة أدب بووالدخول إلى عالمه.

المراجع
  1. سورة الروم، الآية 30