عندما يبدأون في جراحات استئصال العقل سأكون أول من يتطوع.

يبدو أن «العرّاب» كما يسميه جيلنا الشاب أصبح مؤمنًا أن عقله –وعقولنا بالتبعية– هو ما يجلب له الوبال، العقل الذي يجعل من يحمله يشقى في عالم غير منطقي وغير عادل وغير أخلاقي، كان الرجل متفائلاً حتى وقت قريب جدًا، دائمًا كان يجد القشة التي يعلق بها أمله، يُبروزُها ويكتبها ويحث قراءه على رؤيتها معه، ثم على ما يبدو أفاق فجأة على عتمة شديدة جعلت روايته الجديدة «في ممر الفئران» تشبه مرثاة أخيرة لكل ما يمكن أن نأمله يومًا.


أرض الظلام

كانت الأعداد الأخيرة من سلسلة «ما وراء الطبيعة» لكاتبها «د.أحمد خالد توفيق» تحمل صبغة ثقيلة نوعًا، الأعداد كانت مكتنزة ودسمة أشبه بالروايات القصيرة، وقد كانت «أسطورة أرض الظلام» ضمن الأعداد التي نالها هذا التطوير، رواية قاتمة تناقش فكرة كابوسية عندما يجد «سالم وسلمى» نفسيهما في أرض الظلام حيث قرر أحد المجانين أن يستغل سقوط نيزك على الأرض وأن يستخدم الظلام لصالحه ويستعبد البشر جميعًا ويساهم في جعل الظلام الذي يتخبطون فيه دائمًا.

كانت رواية ناضجة، تسحبك معها في عالم مظلم بالكامل، مقهور تمامًا، تنسحق الآدمية فيه كل يوم بلا توقف، ويتدنى البشر يوميًا في درجات السلم البيولوجي، وتنتهي الرواية نهاية مفتوحة عندما يفلح الأبطال في أن يدمروا غرفة التحكم الرئيسية التي تتحكم في الغيوم التي تغطي العالم وتجعل الظلام مستمرًا.

كان ديدن «سالم وسلمى» في السلسلة هو أن يزوروا في كل عدد يظهرون فيه أرضًا مختلفة، ولذلك تلقى القراء الرواية على أنها إحدى المغامرات الممتعة، واستمتعنا جميعًا برؤية النور والنار بعد الفروغ من قراءة العدد، ثم نسي الناس كل شيء عن تلك الحكاية إلى أن صدرت مؤخرًا رواية د. أحمد خالد توفيق الطويلة «في ممر الفئران».


ممر الفئران المظلم

رواية «في ممر الفئران» هي معالجة لقصة «أرض الظلام» بشكل ما، فقد صدّر الرجل روايته بأن قال أن الرواية معالجة أطول وأعقد لأرض الظلام، وأنه قرر أن يفعل ذلك لأنه يرى أن الفكرة الأساسية تلائم الواقع السياسي الذي تمر به المنطقة، وأنه ليس الوحيد الذي فعل ذلك، فقد فعلها «ستيفن كينج» و«فتحي غانم» وغيرهم كثيرون. ورغم أن الرواية بالفعل معالجة لقصة كتبها من قبل، ورغم أن هناك الكثير من الجمل منسوخة من النسخة الأقدم/الأقصر من الرواية، إلا أن الحبكة نفسها مختلفة، والتفاصيل أكثر والنهاية مختلفة جدًا.

الرواية كابوسية جدًا، تنقل تفاصيل الحياة اليومية في العالم بعد سقوط نيزك هائل أدى لحجب أشعة الشمس عن الأرض، ثم انسحاب كل مصادر الطاقة شيئًا فشيئًا حتى غرق العالم في الظلام الحالك، لا إضاءة طبيعية ولا إضاءة صناعية ولا طاقة أصلاً لتوليد أي نوع من أنواع الإضاءة. يتعفن العالم تحت وطأة الظلام، ثم تظهر سطوة ما يسمى بـ«القومندان» الذي يفرض الظلام كعقيدة مقدسة يجب أن يتبعها البشر، كل من يضبط متلبسًا بتوليد أي نوع من النور يقبض عليه ويعدم بأشنع الطرق دون محاكمة وفورًا.

يستولي القومندان على ثروات البلاد وتتبعه الحكومات التي تفرض النظام بأقسى الطرق الممكنة مستخدمة نظارات الرؤية الليلية للسيطرة على قطيع العميان هذا، ويعيش هذا القومندان فوق قمة «الهمالايا» في النور، حيث كل مرافق الحياة متوفرة ببذخ، يستمتع، هو وحاشية منتقاة، بكل ما حرمت منه الأرض، ويساهم في الظلام بدوره عن طريق أجهزة لتوليد السحب الداكنة الثقيلة التي تغطي الأرض حتى لا ينفشع الظلام أبدًا.

كل هذه التفاصيل ينقلها الراوي الذي يحكي لنا حكاية «الشرقاوي» الذي يجد نفسه فجأة في هذا العالم الغريب بعد أن نام في بيته في عالم عادي جوار زوجته التي نراها في مشاهد موازية تنقل جسد الشرقاوي للمستشفى وهو غارق في غيبوبة تامة.

كان العالم المظلم الذي انتقل له الشرقاوي قاسيًا بحق، كل هذا القهر والعفن، تعفن نفسيات الناس الذين ينتشون عندما يشهدون إعدام أحدهم ممن حاولوا إشعال نار، الذين يبلغون عن جارهم الذي انضم لجماعة الضوئيين التي تؤمن بحق الجميع في الضوء والنور والنار (ألا يذكرك هذا بأي شيء؟)، الذين يغشون بعضهم البعض في الظلام دون انقطاع، الذين يعيشون في القذارة التامة، وسط عفن الشوارع الذي لم تعد نفسياتهم المتعفنة تأباه كثيرًا، كل هذا كان قاسيًا جدًا على القارئ؟، ولكن الأقسى أن كل أبطال الرواية كانوا يتعاملون مع الشرقاوي الذي أتى من رحم اللامكان على أنه هو المخلّص، هو النبوءة التي انتظروها طويلاً، هو البطل الذي سيساعدهم في التخلص مما يعانونه، ثم أتت نهاية الرواية «العبقرية» التي جعلت الشر ينتصر في النهاية، بل كان شرًا لم يعلن عن نفسه أنه شر منذ البداية، وكان هذا أقسى بما لا يقاس.


هل جف النبع حقًا؟

رغم أن «د.أحمد» أعلن في مقدمة الرواية أنها معالجة لأرض الظلام، واستشهد بآخرين سبقوه لذلك، ورغم أن الرجل عندما يصدر رواية جديدة فإنها تكون بمثابة «خدمة» لقرائه الذين يرتشفون كل ما يكتبه ارتشافًا، ورغم أن تواجده على الساحة لا يحتاج «حقًا» أن يستسهل ليصدر رواية قد أصدرها من قبل مضيفًا عليها تعديلات، إلا أن هناك من هاجموه «كالعادة» رافعين شعارات «لقد جفّ النبع»، «كفّ عن الكتابة»، «لم يعد هناك ما تضيفه»، «اعتزل قبل أن تفقد جمهورك»، تلك الشعارات التي يرددونها منذ العدد الثاني تقريبًا من سلسلة «ما وراء الطبيعة» والتي لم يكفوا لحظة عن ترديدها.

في الحقيقة فإن صدور «في ممر الفئران» الآن تحديدًا ليس استسهالاً كما يرى البعض، فالرواية فعلاً لا تقل سوداوية عما نعيشه الآن، ومعالجتها بالنهاية الجديدة انتهاء صارخ لعهد رومانسية «د.أحمد» الذي كان يعتمدها في قصصه ورواياته ومقالاته، تلك الرومانسية كانت تستحق ذبحًا صارخًا كما حدث في الرواية، فليس أكثر حدة من أن يكتب الرجل رواية قديمة له من جديد وأن يغير نهايتها بما يليق بالهاوية التي نسقط فيها الآن بلا توقف.

في الحقيقة فإن الرواية بغض النظر عن كونها محكمة، وسوداوية، وشيّقة –لمن لم يقرأ أرض الظلام–، ومفاجئة لمن قرؤوها، إلا أنها أيضًا مؤشر للفزع الذي يجب أن نشعر به نحو «العراب»، فبعد تلك الرواية يجب أن نعترف أن النبع جف حقًا، ليس نبع الإبداع، بل نبع أهم وأكثر تأثيرًا فينا، جف من قلبه نبع التفاؤل.

ألا ترى شيئًا؟ ألا ترى شيئًا ألا تذكر شيئًا؟ بلى أذكر هاتان لؤلؤتان كانتا من قبل عينيه أحيّ أنت أم لست حيًا؟ أليس في جمجمتك شيء؟.
من قصيدة «الأرض الخراب» لـ«ت.س.إليوت»