كيف نحكي المأساة؟! كلما وقع بين أيدينا كتاب/رواية جديدة تحكي طرفًا من مأساة عربية (وما أكثرها!) كلما قفز إلى أذهاننا بدايةً تساؤل مُلح: وهو «كيف سيحكي الكاتب تلك المأساة؟ كيف سيتناولها؟ وكيف سيقدمها لقرائه بطريقةٍ مختلفة؟» والكاتب المحترف -ولا شك- هو الذي يضعك في قلب روايته قبل أن تفكِّر في إجاباتِ محتملة لهذه التساؤلات، وهذا ما يفعله «سنان أنطون» في روايته الجديدة «فهرس» الصادرة مؤخرًا عن دار «الجمل»، والتي يكمّل بها، من منفاه الاختياري في أمريكا، حكاية أطرافٍ من مأساة العراق التي لا تنتهي! وهو الذي سبق وطرح جزءًا منها في رواياته السابقة «إعجام» و«وحدها شجرة الرمان»، و«يا مريم».

يختار «سنان أنطون» هذه المرة بطلاً قريبًا من عالمه بل يكاد يتطابق مع شخصيته هو الدكتور «نمير» فكلاهما دكتور جامعي يدرِّس الأدب العربي في جامعات أمريكا، وخاضا تجربة تسجيل وإخراج الأفلام الوثائقية عن العراق، بل إن كليهما قد مر على جامعتي «هارفرد» و«نيويورك»، ولعل الطريف أن بطل الرواية يذكر في مذكراته أنه يفكِّر في كتابة رواية عن «مغسّل أموات» وهو ما فعله سنان أنطون ببراعة في روايته الجميلة «وحدها شجرة الرمان».

تحكي الرواية عن ذلك الأستاذ الجامعي «نمير» الذي يلتقي مصادفةً، أثناء تصويره لفيلم تسجيلي عن العراق، ببائع الكتب «ودود» الذي يود أن يكتب رواية عن العراق، ويمنحه جزءًا منها ويسميها «فهرس» ويحاول أن يدون فيها تاريخ (الدقيقة الأولى للحرب على العراق) متناولاً في ذلك ليس التاريخ الرسمي الذي يتحدث عن الأشخاص فحسب، بل يعمد إلى اختيار (فضاء ثلاثي الأبعاد)، على حد تعبيره، يجمع فيه بين الأشياء والأحياء محاولاً استنطاق الجمادات والتعبير عن مشاعرها ما أمكنه ذلك.

أي الأشياء تحادثني؟ قد تسأل، كلها؛ ورقة يتيمة مقطوعة من كتاب تطير في الشارع، حصاةُ تؤلمها دعسات المارّة، غيمةٌ خائفةُ تهرب من مصيرها، رأس خسٍ يرتجف أمام سكين، طابوقة يذبحها بناءٌ بفأس، تمثالٌ حزين يختنق ببول المارّة، غصن شجرة قضم ظهره، كلمةٌ في قاموسٍ لم يعد يستخدمها أحد .. والحيوانات أيضًا تحادثني .. والموتى من البشر ..

بين منطق الأحياء ومنطق الأشياء

وهكذا لا تبدو الحكاية هنا حكاية الناس فحسب، بل حكاية الطير، والسجاد (الكاشان)، والمدن، والرقوق، وشريط التسجيل، والأشجار، والخيول، بل حتى الجنين الذي لم يولد بعد قد يكون له منطقه وعالمه الخاص، كل هؤلاء جنبًا إلى جنب مع حكايات «جامع الطوابع» و«عازفة البيانو» الذين تغدو قصصهم وحكاياتهم جزءًا أصيلاً من تاريخ العراق، وشاهدًا باقيًا على ما حصل من تحوّل للبلاد والعباد بعد تلك الحرب التي لم تبق ولم تذر.

تدور الرواية بين حكاية «نمير» الأستاذ الجامعي، وبين أطرافٍ من حكاية «ودود» وكتابته ومخطوطه ذاك، ولا يبدو اهتمام الكاتب كبيرًا بالحكاية قدر اهتمامه بالتفاصيل الإنسانية التي تجمع بين الاثنين على بعد المسافة بينهما وتباين العالم الذي يعبران عنه، بين التفاصيل اليومية «الأمريكية» التي يعيشها الدكتور، وتفاصيل رصد الخراب والدمار الذي أحاطت بـ«ودود» داخل بلاده، وهكذا يظلان مسكونان بالغربة داخل البلاد وخارجها!

يكشف «نمير» عن أطرافٍ من سيرته الذاتية، تاريخه وطفولته، عن علاقته القديمة بالكتابة والرغبة في التدوين، ورغبته في أن يقرأ الجميع ما يكتبه، تلك الرغبة التي اختفت وضمرت بمجرد التحاقه بالمدرسة الثانوية حتى توارت مع التحاقه بالكلية ثم عمله الأكاديمي، في المقابل نجد «ودود» يحاول قدر جهد أن يسجل كل ما مر به ويعتمد على ذاكرته التي يعتبرها معطوبة في تدوين كل ما مر به ويجتهد في تذكر سيرته وآلامه، حد أن كتابته تصل إلى حد الهلوسة التي قد لا يفهم منها شيئًا لكنه يواصل الكتابة .. حتى النهاية!


تقنيات سردية متعمّدة

وهكذا يؤسس «سنان أنطون» لـقراءة جديدة للمأساة تقوم على استعادة العلاقة بين الماضي والحاضر من جهة، وعلى رصد العلاقة الملتبسة بين الكاتب وكتابته من جهة أخرى و سعيه الدؤوب لرصد اللحظة الحرجة وتأريخها لإبقائها حيّة، حتى لو فارقته الحياة!

إذ ربما تبدو الحكاية تقليدية والكلام عن مآسي الحروب وما تتركه في نفوس البشر والآثار السلبية عليهم التي طالما استفاض الكتّاب والروائيون في حكايتها ووصفها، إلا أن «سنان» قد لجأ في هذه الرواية إلى تجريب طرائق مختلفة في السرد جعل للرواية جاذبيتها ومذاقها الخاص، بدءًا بتقنية «المخطوط» الذي تركه «ودود» بين يدي الدكتور «نمير»، والمقاطع التي تأتي منه في الروايةـ، والتي نلحظ أثناء عرضها أن لغة الدكتور قد تأثرت بها بل وتبدو قد تماهت معها، إلى حد أنه نفسه يتساءل في أحد مقاطع الرواية هل يكون هو نفسه «ودود» في ظروفٍ أخرى؟!

رأيت أننا كنّا شخصًا واحدًا، تجمعنا أنا واحدة، أراه حين أنظر في المرآة وأراني، ذاكرتنا واحدة، وجسدنا واحد وصوتنا واحد، لم يكن اسمنا «ودود» أو «نمير»، لا أعرف الاسم، خرجت أو أخرجت أنا من تلك الأنا، انسلختُ وهجرت بغداد وسافرت بعيدًا، وعندما عدت لم أعرف ودود لأنه هو «الآخر» كان قد انسلخ عن «أنا» أيضًا وأصبح شخصًا آخر .. لذلك لم يعرفني، «أنا» جمعت بين ودود وبيني لأنها/لأنني نريد أن نعرف ما حدث لودود لأنه كان سيحدث لي!

من جهة أخرى جاءت لغة الرواية متماسكة تنحو إلى الشاعرية في كثيرٍ من مقاطعها لا سيما تلك التي تحدثت عن الأشياء، والتي جاء أكثرها على لسان ودود، كما يُحسب لـ«سنان» أن تقسيم الرواية إلى مقاطع صغيرة يحمل كل مقطع حكاية مرة أو أطرافًا من سيرة الراوي في أحيانٍ أخرى جانبًا من جوانب تميزها وجعلها متماسكة وشيقة في آنٍ معًا، كما كان انتقاله بين الزمان والمكان وبين شخصيات الرواية موفقًا إلى حدٍ كبير.

ويجب ألا ننسى حضور اللغة العامية في الحوارات بين أبطال الرواية، ولعلها أصبحت مما يميّز روايات سنان أنطون بشكل عام هو استخدامه للغة العامية العراقية (التي يسمونها المحكية) في الحوارات بين أبطاله، تلك اللغة والحوارات التي تجعلك تعيش بين أبطال النص، وتنقل جزءًا كبيرًا من عالمهم، وتفاجئ في كل مرة أنك تفهمها رغم غرابة بعض المفردات.

كذلك يأتي حضور الاقتباسات الأدبية في كثير من مقاطع الرواية سواء من الشعر العربي القديم أو من كلمات «أبو حيان التوحيدي» أحد أهم السمات الجمالية في الرواية، لاسيما تلك المقاطع التي تتماهى مع حكايات الأبطال وكلماتهم، مثل رسالة «الغريب» للتوحيدي التي تبدو مناسبة تمامًا لحالة الدكتور الجامعي العراقي الذي يعيش مغتربًا في أمريكا وتجمعه في الوقت نفسه بحالة ودود ذلك الغريب الذي لم يترك موطنه!


اكتب أيها القارئ النهاية التي ترضيك!

هذا غريبٌ لم يتزحزح عن مسْقط رأسه، ولم يتزعزع عن مَهَبِّ أنفاسه. وأغربُ الغرباء من صار غريباً في وطنه، وأبعد البُعَداءِ من كان بعيداً في محل قربه. .. الغريب من إذا قال لم يسمعوا قوله، وإذا رأوه لم يدوروا حوله. الغريب من إذا تنفس أحرقهُ الأسى والأَسَفْ، وإن كَتَمَ أكْمَدهُ الحُزْنُ واللَّهَفْ. الغريب من إذا أقبلَ لم يُوَسَّع له، وإذا أعرضَ لم يُسْئَلْ عنه.

لعل أطرف ما فعله سنان أنطون في هذه الرواية هو تلك الـ«نهايات». لم تنتهِ الرواية نهاية واحدة كما هو معتاد، بل اختار أن يضع أمام القارئ، وعلى لسان بطل الرواية «نمير» الذي يحكي قصّة «ودود» عددًا من النهايات، جاءت الأولى فيهم الأكثر رومانسيةً وحلمًا، ولكنها بدت للكاتب غير واقعية، فاستبدلها على الفور بنهاياتٍ أخرى، وكأن الكاتب يوضِّح بعد تلك الجولة بين الزمان والمكان، وبعد أن تعرفنا على الشخصيات وما يجوس في دواخلهم من أزمات وما تحيط بحياتهم من مشكلات، أن النهاية لن تكون هي في الواقع «نهاية» كما ينبغي أن تكون، فالعرض لازال مستمرًا، بل وبإمكان القارئ ـ في هذه الحالة ـ أن يضع النهاية التي يتخيلها، أو النهاية التي ترضيه، ولكن ليبقى في يقينه أن المأساة مستمرة، وأن ودود حتى وإن كان قد مات في إحدى تلك النهايات إلا أن قصته ومأساته ومأساة آلاف بل ملايين العراقيين، بل والعرب، لم تنتهِ ويبدو أنها لن تنتهي أبدًا!!

لذا يحضر صوت «زهير بن أبي سلمى» منذ بداية الرواية، ويبدو حاضرًا حتى نهايتها:

وما الحرب إلا ما علمتم وذقتم .. وما هو عنها بالحديث المرجّم!

في النهاية تبقى رواية «فهرس» لـ«سنان أنطون» إحدى الروايات العربية إلهامة التي تؤثر في مسار الأدب عمومًا وفي الأدب العربي بشكلٍ خاص، والتي نتوقع لها أن تلحق بركب «البوكر 2017» أسوة بسابقتها «يا مريم» التي وصلت إلى القائمة القصيرة في 2012.

مقالات الرأي والتدوينات لا تعبر بالضرورة عن وجهة نظر هيئة التحرير.