قررت كتابة سلسلة تعريفية بالأحزاب السياسية السودانية حتى أقوم بالتيسير على القارئ العربي غير المتخصص، أن يفهم أبعاد اللعبة السياسية في السودان، ولماذا هي مختلفة عن كل الدول العربية الأخرى.

في البداية أريد أن أوضح، أن الســودان إحدى البـــلدان الأفريقيــة ذات الفاعلية السياسية الهامة، ويعزى ذلك لنشأة أحزابها السياسية المتنوعة فكريًا وأيدلوجيًا مبكرًا، والتي أدت فاعليتها لتطوير بنيتها التنظيمية وممارساتها السياسية، وإلى تغيير حركة التاريخ السوداني الـحديث، التي أسهمت في بناء الدولة السودانية الوطنية الحديثة، وهو ما جعل السودان سبّاقًا لدخول «الدمقرطة» أفريقيًا وعربيًا في الممارسة السياسية، وذلك بعد أن قام شعبه بإسقاط نظامين عسكريين في خمسينيات وثمانينات القرن الماضي بانتفاضة شعبية في وقت لم تنل فيه بـعض الدول استقلالها بعد.


الحزب الشيوعي السوداني (التعصب للنظرية والسقوط من القمة) (1-2)

هو إحدى الأحزاب السياسية السودانية اليسارية التي أنشئت ما قبل الاستقلال كامتداد للحركة الشيوعية المصرية، وكان تأسيس لواجهته السياسية العلنية باسم «الحركة السودانية للتحرر الوطني» (حستو) في 16 أغسطس/آب 1946م من قطاعات عمال ومثقفين وطلبة وهي أكثر الشرائح في ذاك الوقت فاعلية، إذ اهتدى الحزب بالماركسية اللينينية كمنهج وفق ظروف وخصائص السودان، وفي عام 1947م دار صراع فكري حول إنشاء الكيان الخاص المعبر عن الحزب الشيوعي السوداني أو أن يكون داخل الأحزاب الاتحادية آنذاك الوقت، حسم بتكوين الحزب الشيوعي مستقلاً وانطلق منه تأسيس هيئات وروابط وتنظيمات طلابية واتحادات عامة، واجهة عامة وسياسية، وعمل إعلامي بتأسيس مجلة «الكادر» ومجلة «الوعي» وصحيفة «اللواء الأحمر» الجماهيرية وصحيفة «الميدان» التي تأسست عام 1954م والتي تعمل حتى اليوم كل هذه المجهودات وغيرها كانت تعبر عن الطرح الماركسي للحزب وتوجهاته.

الحزب وقضية الجنوب

ساهم سياسيًا في أوائل الخمسينيات القرن الماضي لدراسة مشكلة الجنوب والذي أفضى إلى شعار «الحكم الذاتي» والاعتراف بالفوارق الثقافية بين الشمال والجنوب وحق الجنوبيين في استخدام لغاتهم المحلية في التعليم، والذي جاء لاحقًا في مؤتمر أسمرا الشهير للتجمع الوطني الديمقراطي عام 1995م والذي وقّع عليه الحزب الذي دعا إلى حق تقرير المصير «تأكيد مبدأ حق تقرير المصير كحق أصيل وأساسي وديمقراطي للشعوب»[1].

و مؤتمر أسمرا للقضايا المصيرية هو أحد أسوأ مؤتمرات المعارضة السودانية، وكان هذا المؤتمر إيذانًا ببداية تفكك معارضة الإنقاذ الخارجية، فعادت أحزاب المعارضة إلى الخرطوم، كل حزب على حدة، بداية من الشريف الهندي زعيم الحزب الاتحادي ثم الصادق المهدي زعيم حزب الأمة وغيرهم.

الحزب والدين

اعتبر الحزب الدين، باعتباره جزءًا من مكونات المجتمع، أنه يجب احترام المعتقدات وعدم الإساءة إليها، ولذلك فإن الحزب الشيوعي السوداني طرح خيار العلمانية في مواجهة الأسلمة التي تطرحها جماعات الإسلام السياسي، وكما رفض الحزب استغلال الدين للسياسة وأن يكون كأداة لمصادرة الحقوق كما حدث في زعمه حل الحزب وطرد نوابه من البرلمان في 1965م بسبب قيام أحد كوادر الحزب الشيوعي بالإساءة إلى بيت النبوة في ندوة بدار المعلمين؛ مما سبب مظاهرات حاشدة تسببت في حل وحظر الحزب الشيوعي السوداني ودخوله تحت الأرض، ولذلك فقد دعا الحزب لطرح الدولة المدنية المدنية الديمقراطية بديلاً للدولة الدينية التي يطرحها الإسلاميون.

و قد جاء في مؤتمر الحزب الأخير عن قضية الدين والسياسة:

و لكن هذا الكلام لا ينكر حدوث انشقاقات كبيرة في الحزب؛ ما بين من يطرح رؤية الحزب الشيوعي الإسلامي كالقيادي الشفيع خضر، ومن يرى أن الزمن تجاوز الطرح الماركسي في مثل هذه القضية مثل الراحل الخاتم عدلان المسؤول السابق عن التثقيف داخل الحزب الشيوعي السوداني.

الحزب وقضايا المرأة

اهتم الحزب الشيوعي بقضية المرأة ودعا إلى تحريرها من القيود الاقتصادية والثقافية والاجتماعية، إذ يذكر التاريخ أن أول طبيبة سودانية الدكتورة خالدة زاهر هي أول امرأة تنضم للحزب، وكان داعمًا أكبر لتكوين النسوية من اتحادات وروابط حتى وصل إلى دخول مرشحة الحزب فاطمة أحمد إبراهيم في انتحابات إبان ثورة أكتوبر المجيدة كأول نائبة برلمانية في تاريخ العالم العربي تفوز بأصوات الناخبين.

غير أن تحركات الحزب الشيوعي في قضايا المرأة بدأ يظهر له فيها منافسون؛ هم الحزب الجمهوري السوداني الذي كان يقوده محمود محمد طه والذي كان له مواقف مؤيدة لقضايا المرأة، والجبهة الإسلامية القومية التي كان يقودها د. حسن الترابي وقد كان له أيضًا مواقف مؤيدة لقضايا المرأة، وحتى مؤخرًا مراكز دراسات الجندر التي أنشئت بتمويل أمريكي والتي تدعم التوجهات النسوية وكل هذه الاتجاهات لم تجعل الشيوعيين يعملون لوحدهم في هذه القضايا مثلما كانوا في الخمسينات من القرن الماضي.

الحزب والتكتيكات والإستراتيجيات

اعتمد الحزب دائمًا على مستويين أو خيارين بشكل أدق في تكتيكاته السياسية؛ يشكل التحالفات السياسية المؤقتة -المرحلية- مع القوى الأخرى لإنجاز القضايا الوطنية كالتجمع الوطني الديمقراطي، وتحالف قوى الإجماع الوطني، ونداء السودان، ..إلخ من تلك تحالفات، مع إبقاء كل حزب في كيانه السياسي والتنظيمي.

أما الخيار الآخر هو تشكيل تحالفات إستراتيجية فيما أسماها إنجاز مرحلة الثورة الوطنية الديمقراطية، وذلك عبر الكيانات التي أسسها أو دعمها على الأقل بشكل إستراتيجي؛ مثلاً: الجبهة الديمقراطية وسط الطلاب، اتحاد الشباب السوداني والاتحاد النسائي، الروابط الاشتراكية وسط المهنين، …إلخ. وهدف هذه التحالفات الإستراتيجية هو قيام ثورة البروليتاريا المزعومة التي بشّر بها كارل ماركس قبل قرنين.

غير أن هناك توجهات جديدة داخل الحزب تطالب بأن يتخلى الحزب عن أوهام ثورة البروليتاريا ليعلن إيمانه بالديمقراطية والليبرالية السياسية، إلا أن هذه الأصوات ما زالت معزولة فالتيار الغالب داخل الشيوعيين السودانيين هو التيار السلفي ماركسيًا و لينينيًا، وأما التروتسكيين والاشتراكيين الديمقراطيين فإن مصيرهم هو الطرد من الحزب أو تجميد العضوية.

الحزب والمناطق المهمشة

نزع قناع الزيف عن البرنامج السياسي المعادي، باسم الدين، لطموحات الملايين من أبناء وبنات شعبنا، والرامي لوأد تطلعاتهم الوطنية والاجتماعية، وهو البرنامج الذي طالما ذاقت جماهير شعبنا ويلاته تحت دكتاتورية الجبهة الإسلامية، متحالفة مع الطاغية جعفر نميري، أو منفردة بالسلطة منذ انقلابها عام 1989، ابتداءً من قوانين سبتمبر البغيضة، إلى قوانين النظام العام والأمن والقوانين الجنائية المختلفة، حتى الجهاد باسم الإسلام ضد الشعب تقتيلاً وتعذيبًا وتفرقةً وقهرًا[2].

عمل الحزب الشيوعي من بواكير عمله على أن يكون حزبًا للمدن، وسعى العمل في المناطق المهمشة والعمال في الأرياف وسط أبناء القبائل من أبناء الأقليات القومية المهمشة، وعمل أعضاؤه في ذلك فعلاً بالعمل في اتحادات المزارعين، كما أسهم في تأسيس مؤتمر البجا «قومية سودانية في شرق السودان» في أكتوبر/تشرين الأول 1958م التي عانت التهميش.

و لذلك فإن التهمة التي تلصق بالحزب دائمًا هي دعمه للمجموعات الانفصالية ضد الدولة السودانية، فقد كان لصحيفة الميدان الشيوعية السودانية دور كبير في الثمانينات في دعم جون قرنق ضد الجيش السوداني وكذلك استخدم الشيوعيون علاقاتهم الدولية في التسعينات مع الأحزاب اليسارية حول العالم في دعم حركة جون قرنق التي لم يكن ينظر إليها الشيوعيون السودانيون سوى أنها حركة ماركسية. وفي دارفور كان للحزب الشيوعي دور كبير في فضح ممارسات نظام البشير، إلا أن ما فعله ويفعله الشيوعيون كان دومًا سلاحًا ذا حدين، فقد تسبب دعم الشيوعيين لجون قرنق في تقسيم السودان، وقد يتسبب نفس السلوك في دارفور في دعم انفصالها، وكذلك الحال في الشرق، وبالتالي فإنه يجب على الشيوعيين حساب خطواتهم التكتيكية في مواجهة النظام وليرحموا البلد من نتائج تحركاتهم السياسية حتى لا يتكرر سناريو الجنوب مع أي منطقة مهمشة أخرى.


[1] مشروع برنامج الحزب الشيوعي السوداني المقدم للمؤتمر الخامس، الحوار المتمدن 01/09/2008م.[2] البيان الختامي لمقررات اسمرا، الجزيرة نت 03/10/2004م.