مع التقدم العسكري الكبير الذي حققته حركة طالبان في أفغانستان وسيطرتها على معظم البلاد، على حساب الحكومة التي تقلص نفوذها بشدة بعد بدء عملية انسحاب القوات الأجنبية، تسعى طهران إلى استغلال فترة سيولة الأوضاع هذه للعب دور مؤثر لدى جارتها الشرقية.

ورغم اعتبار طهران أن رحيل القوات الأمريكية- من المقرر أن يكتمل بنهاية الشهر الجاري- أخبار طيبة لها في حد ذاتها، لكن هذه المستجدات تفرض تحديات جديدة عليها في ظل حدود مشتركة بطول 920 كيلومتراً، كما تحمل فرصاً جديدة قد لا تكون متاحة لوقت طويل، فعلى مدار الفترة الماضية التي شهدت توسع النفوذ الإيراني إقليمياً، لم تنجح طهران في تحقيق نفس مستوى النفوذ السياسي الذي تمارسه في البلدان الواقعة إلى الغرب منها كالعراق أو حتى دول لا تشاركها الحدود مثل لبنان وسوريا واليمن، مع أن لديها أدوات داخل الساحة الأفغانية لم تستغلها بشكل كامل وهو أمر تحرص على تصحيحه في الفترة الراهنة.

استراتيجية متعددة الأوجه

وقد لعبت طهران مع كل الأطراف داخل الساحة الأفغانية بدءاً من تحالف الشمال المعارض إبان حكم طالبان الذي امتد حتى عام 2001، وفي العام ذاته دعمت التعاون بين التحالف والقوات الأمريكية الغازية لكنها ما لبثت بعد ذلك أن دعمت حركة طالبان في قتالها ضد الاحتلال الأمريكي لتتحول أفغانستان إلى ساحة مواجهة غير مباشرة بين طهران وواشنطن، ومع انسحاب القوات الغازية غيرت طهران الخطة لتناسب الواقع المستجد.

وجاءت الخطة الجديدة عبارة عن استراتيجية متعددة الأوجه تعتمد على التواصل مع حركة طالبان ومحاولة الاستفادة من العلاقة التي جمعت بين الطرفين خلال الفترة الماضية، وفي نفس الوقت التواصل مع حكومة كابول التي تضم هي الأخرى أصدقاء لطهران، إذ تمكن عدد من رموز الشيعة الأفغان المدعومين إيرانياً خلال فترة الاحتلال الأمريكي من الوصول إلى مناصب رفيعة في الحكومة، ونيل عضوية البرلمان ولهم عدة تنظيمات سياسية وأحزاب كحزب الاقتدار الوطني والوحدة، وقد استضافت طهران، مؤخراً، مفاوضات علنية مباشرة بين الحكومة والحركة.

وبالتوازي مع تلك الدبلوماسية المزدوجة كانت طهران تعمل على مشروعها الخاص المعتمد على عرقية الهزارة إحدى أصغر الأقليات في البلاد بنسبة تقارب العُشر ضمن 39 مليون نسمة تقريباً هم إجمالي السكان، وهم يعتنقون المذهب الشيعي ويتحدثون اللغة الفارسية ويتميزون بملامحهم الآسيوية المميزة، وتصدر إيران نفسها كحامي لهم وحارس لحقوقهم.

الحشد الشيعي

مع انهيار القوات الحكومية أمام تقدم طالبان في معظم المناطق سارعت الحكومة والأطياف المتحالفة معها إلى تشكيل ميليشيات شعبية، ولم يكن الهزارة استثناء من ذلك

وكشفت صحيفة «جمهوري إسلامي» الإيرانية الحكومية في أوائل يوليو/ تموز الماضي، عن تأسيس فصيل مسلح في كابول تحت مسمى «الحشد الشيعي» مهمته «التصدي لاحتلال بلادهم على يد العناصر الإرهابية لتنظيم طالبان»، وأنها ستسخر خبرات عناصرها في «الدفاع عن المقدسات الشيعية».

ولطالما حذر مسؤولون في الحكومة الأفغانية من دخول ظاهرة الميليشيات الشيعية إلى الساحة السياسية الأفغانية على خلفية تجنيد إيران شباباً أفغانياً في ميليشيا «فاطميون» التي تقاتل في سوريا.

 ونشر القيادي بالميليشيا زهير مجاهد، مقال «جمهوري إسلامي»، على صفحته في موقع «إنستجرام»، لكنه علق على تعبير «الحشد الشيعي»، واصفاً إياه بأنه «مصطلح مفبرك يقود البلاد باتجاه الحرب الطائفية».

وقد شكل الحرس الثوري الإيراني ميليشيا فاطميون عام 2013 من اللاجئين الهزارة داخل إيران مما أتاح له التخلص من عدد كبير من اللاجئين وفي نفس الوقت ضخ عشرات الآلاف من المقاتلين في الساحة السورية خدمةً للمصالح الإيرانية هناك.

وقاد الميليشيا في البداية علي رضا توسلي وهو لاجئ أفغاني شارك في الحرب ضد العراق كجندي في «لواء أبو ذر» الذي ضم آنذاك اللاجئين الأفغان في إيران، وتم حله بعد انتهاء الحرب عام 1988، وقد قتل توسلي في معارك ضد الفصائل السورية في درعا عام 2015.

ووفقاً لمنظمة هيومان رايتس ووتش الحقوقية الدولية، فقد تم تجنيد أطفال اللاجئين الأفغان في إيران للقتال مع «فاطميون»، وبعد انتهاء مهمة بعض عناصر الميليشا في سوريا سافروا إلى أفغانستان، وتلقى العائدون تهديدات بـ«حرقهم» ، مما أثار المخاوف من أن يسهم ذلك في إشعال الصراع المذهبي.

وقد حذر ذبيح الله مجاهد، الناطق الرسمي باسم طالبان، من «تكرار تجربة العراق في أفغانستان»، وتعهد في وقت سابق بألا تنزلق الحركة إلى «فتنة تشعل فتيل الخلافات العصبية والمذهبية والقومية».

وعلى الرغم من إرث العداء المتبادل لا تفضل طالبان فتح مواجهة مع الهزارة، الذين يبدو أنهم أيضاً يخشون الدخول في صدام غير متكافئ مع الحركة لكنهم يريدون حجز مساحة مؤثرة في الساحة السياسية والحفاظ على المكاسب التي حققوها في الحقبة التي توشك على الانتهاء.

وقد اتبعت طالبان نهجاً تصالحياً مع الطائفة الشيعية أثناء تلك الحقبة بهدف اختراقها حتى أن جانباً منهم عمل مع الحركة في مواجهة تنظيم داعش عام 2016 في ولاية باميان.

 وقد عرض وزير الخارجية الإيراني محمد جواد ظريف، في مقابلة مع صحيفة «طلوع نيوز»، في مارس/ آذار الماضي، على الحكومة الأفغانية ضم «فاطميون» إلى قواتها، زاعماً أن عددهم لا يتجاوز خمسة آلاف، لكن صمد رضائي، أحد قادة الميليشيا، صرح لوكالة أنباء «إيكنا» التابعة لتنظيم الجهاد الجامعي، في سبتمبر/ أيلول 2018، بأن 80 ألف أفغاني انضموا إلى جماعته.

وقد تحول حي «دشت برشي» في مدينة كابول، الذي يسكنه الهزارة، إلى ما يشبه المعسكر، وكذلك ولاية باميان غرب العاصمة شهدت استعدادات عسكرية مشابهة.

وتنفي فاطميون رسمياً أي أنباء عن وجود مقاتليها في أفغانستان، لكنها اصدرت بياناً الشهر الماضي احتفت فيه بـ «هزيمة» الولايات المتحدة في أفغانستان، ودعت إلى الحوار بين الأفغان وتجنب الحرب الطائفية ، مما يشير إلى أن الجماعة وداعميها الإيرانيين يرغبون في استكشاف فرص التوصل إلى تفاهم سياسي ملائم.

فقد دفعت المكاسب التي حققتها طالبان في ميدان المعركة إلى اكتسابها قبولاً ضمنياً لدى القوى الإقليمية ومن ضمنها إيران، ولكن إذا سعت الجماعة إلى إحكام قبضتها على البلاد بشكل كامل وإعادة عقارب الساعة إلى ما قبل إزاحتها عن السلطة عام 2001، فقد تنقلب معادلة التوازن الهش بسبب الخلاف على ترسيم حدود النفوذ والقوة.