لطالما حجزت الصين لنفسها مكانة محورية في السياسة الخارجية الإيرانية على مدى عقود، لا سيما بعد ثورة عام 1979، وما أدت إليه من تحولات في توجهات طهران التي كانت أبرز حلفاء واشنطن في المنطقة في عهد الشاه المخلوع، لكنها واجهت بعد ذلك درجات مختلفة من العزلة الدولية، وكانت هذه الحالة هي المفتاح لاستمرار تطور الصلات مع بكين.

إذ تزامنت الثورة الإيرانية وبداية حكم الملالي مع بداية عصر انفتاح بكين على العالم، وتخليها عن الاعتبارات الأيديولوجية في سياستها الخارجية بشكل كبير، وشهدت العلاقة بين الطرفين نموًا مطردًا بمرور الوقت، مع تزايد قوة الصين، وتراكم العقوبات الغربية على إيران.

فقد أدركت بكين أن تعاملها مع الدول المنبوذة، والتي لديها خيارات محدودة، يعطيها فرصًا استثنائية، ويعزز قدراتها على توسيع قاعدة نفوذها حول العالم، على حساب النفوذ الأمريكي، وأصبح الصينيون ينتهزون تلك الفرص، وحققوا مكاسب هائلة في أنحاء المعمورة، فالاستثمارات الاقتصادية والدعم السياسي والدبلوماسي يُقايَض بالمواد الخام والأسواق المفتوحة، والمؤازرة السياسية للمواقف الصينية في المحافل الدولية.

وفي حالة إيران، كانت بكين لا تفوت فرصة لجني المكاسب من هذه الدولة الغنية بالثروات التي ترزح تحت العقوبات، فحصل الصينيون على النفط الرخيص، وساهمت شركاتهم في الالتفاف على الحظر، وساعدت في تطوير البرنامج الصاروخي بشكل سري، مما أوقع بعض تلك الشركات ضحية للملاحقات الأمريكية.

اتفاقية سرية

بعد إبرام «خطة العمل الشاملة المشتركة» التي تُعرف بـ«الاتفاق النووي» بين إيران والمجموعة 5+1 (التي تضم الصين وروسيا والولايات المتحدة وفرنسا وبريطانيا وألمانيا) التي رفعت العقوبات الأممية عن طهران مقابل فرض قيود مشددة على برنامجها النووي، انفتح باب الاستثمارات الأجنبية في إيران على مصراعيه، وكان للصين نصيبٌ كبير من هذا الانفتاح.

في يناير/كانون الثاني 2016، بعد أيام قليلة من دخول الاتفاق النووي حيز التنفيذ، زار الرئيس الصيني شي جين بينج، طهران، والتقى المرشد الأعلى، علي خامنئي، وتم الاتفاق على العمل على وثيقة للتعاون الشامل بين البلدين، ضمن مبادرة الحزام والطريق الصينية.

ولكن جاء انتخاب الرئيس الأمريكي دونالد ترامب في نفس العام، وأدى قراره بالانسحاب من الاتفاق النووي في 2018 وإعادة فرض العقوبات على طهران إلى تعطيل فرص التعاون الاقتصادي بين إيران والعالم الخارجي، إلا أنه مع اشتداد وطأة الأزمة الاقتصادية في البلاد وافقت الحكومة الإيرانية في 21 يونيو/حزيران 2020، على مسودة مشروع برنامج التعاون الشامل مع الصين، وكلف الرئيس الإيراني حسن روحاني، وزيرَ خارجيته محمد جواد ظريف، بالتوقيع عليها بعد المفاوضات النهائية، وهو ما تم في 27 مارس 2021، وأعلن وزيرا خارجية البلدين الاتفاق على «وثيقة التعاون الشامل» لمدة 25 عامًا.

ولم تعلن الحكومة عن تفاصيل هذه الوثيقة الموقعة، مبررة ذلك بأنها ليست حلفًا ولا اتفاقية ولا معاهدة دولية، لذا لا تفتقر إلى المصادقة من مجلس الشورى إلا بعد أن تتخذ الطابع التنفيذي والقانوني.

لكن البنود المسربة للاتفاقية تتحدث عن اتفاق على بدء استثمارات صينية في إيران تبلغ قيمتها نحو 400 مليار دولار، في جميع القطاعات، سيتم استثمار حوالي 280 مليار دولار منها في قطاعات النفط والغاز والبتروكيماويات، فيما يحظى قطاع البنية التحتية بحوالي 120 مليار دولار، والاتفاق على توريد النفط إلى الصين بأسعار مخفضة، وقد جعلت ضخامةُ الأرقام تلك التسريبات عرضة للتشكك؛ فخلال 15 عامًا لم يصل المجموع الكلي للاستثمارات الصينية في إيران بأي حال من الأحوال إلى 27 مليار دولار، أي أقل بكثير من المبلغ الذي من المقرر أن يُستثمر في سنتين فقط وفقًا للأرقام المسربة.

في حين برَّر منصور حقيقت بور، مستشار رئيس البرلمان السابق، علي لاريجاني، المنسق لهذا الاتفاق، سبب عدم نشر التفاصيل قائلًا: «الصينيون بسبب حساسيتهم حيال الولايات المتحدة، طلبوا عدم الكشف عن التفاصيل، حيث تحتوي هذه الاتفاقية على جانب دفاعي، ولا تزال الصين ودول أخرى تتحدى الولايات المتحدة، ولا يمكننا التحدث عن ذلك بوضوح».

وقد تضمنت التسريبات تأجير بكين لجزيرة كيش وموانئ في الخليج العربي والمحيط الهندي واستضافة 5 آلاف عسكري صيني، مما يوحي بأن الأمر يتجاوز التعاون الاقتصادي المعتاد، ويصل إلى كونه تحالفًا عسكريًّا، وأن بكين ألقت بثقلها الاستراتيجي في صف طهران، وهو المنحى الذي يتعارض مع السلوك الصيني الذي يعتمد على التمدد الاقتصادي الهادئ وليس الانخراط في النزاعات والتوترات، مما يُلقي بظلال من الشك حول تلك التسريبات.

كما أن توقيع الوثيقة المثيرة للجدل جاء خلال زيارة وزير الخارجية الصيني وانغ يي، لإيران، ضمن جولة له في المنطقة زار خلالها 5 دول أخرى، هي: المملكة العربية السعودية، والإمارات، وتركيا، والبحرين، وعمان، وهو يعلم أن التحالف العسكري مع إيران يعني الوقوف في وجه هذه الدول، لذا فمن المرجح أن الوثيقة ليست تحالفًا استراتيجيًّا مع دولة منبوذة في منطقتها، بل تعاونًا مع دولة من ضمن عشرات الدول التي تشملها مبادرة مشروع الحزام والطريق الصينية، وليست إيران أهم طرف فيها بل هناك عدد من دول منطقة الشرق الأوسط أكثر أهمية في هذا المشروع العالمي، لكن إيران تكتسب أهميتها من موقعها الجغرافي مما يجعلها دولة مرور، كما أنها تعد موردًا للنفط إلى الصين، أكبر مستورد للنفط في العالم.

لكن أيًّا كانت بنود الاتفاق وأرقام المبالغ المزمع استثمارها، فإنه بصفة عامة هناك عقبات تعترض طريق تعزيز التعاون بين طهران وبكين، أبرزها:

1. العقوبات الأمريكية

تقف العقوبات الأمريكية حجر عثرة أمام التعاون الاقتصادي بين طهران والدول الأخرى، وعلى الرغم من خرق الصين لتلك القرارات، وتعرض شركاتها لعقوبات بسبب ذلك، فإن مجمل التجارة بين البلدين انخفضت بشدة، خاصة بعد انتهاء فترة الإعفاء التي منحتها واشنطن لبكين و7 دول أخرى حتى الثاني من مايو/آيار 2019.

2. المعارضة الداخلية

تواجه الاتفاقية معارضة شديدة من الداخل الإيراني، سواء على مستوى النخبة، كما في حالة الرئيس المتشدد السابق أحمدي نجاد، الذي اعتبرها «ضد مصالح البلاد والشعب»، أو على مستوى المواطنين العاديين الذين خرجوا في احتجاجات غاضبة في المدن المختلفة داخل البلاد يرفعون شعارات من قبيل «إيران ليست للبيع» و«تركمانجاي الصينية» (إشارة إلى معاهدة تركمانجاي التي تنازلت إيران بمقتضاها عن أراضٍ لصالح الإمبراطورية الروسية سنة 1828)، وكذلك فعلت جاليات إيرانية في الخارج.

3. مصالح الصين في الشرق الأوسط

تحتفظ الصين بعلاقات اقتصادية مهمة مع دول الشرق الأوسط، وعدد من هذه الدول ليست مع وفاق مع طهران، ومن غير المرجح أن تخاطر بكين بعلاقاتها مع دول الخليج العربي مثلًا وإسرائيل، في سبيل الانحياز إلى الجانب الإيراني، لذا سيشكل هذا العامل كابحًا يمنع من تجاوز العلاقة مع طهران أُطُرًا محددة.

الولايات المتحدة في الصورة

رغم الغموض المتعمد الذي يكتنف تلك الوثيقة فإنه من الواضح أن التوقيت ليس بريئًا على الإطلاق، فقد تم توقيعها في وقت تمارس فيه طهران أقصى ما يمكنها من الضغوط على واشنطن خلال المفاوضات بينهما حول سبل العودة إلى الاتفاق النووي، مما يمثل ضغطًا واضحًا على إدارة الرئيس الأمريكي، جو بايدن، الذي لم يخفِ مخاوفه وقلقه الشديد من هذا الاتفاق.

فهذه الخطوة تمنح الصين أيضًا ورقة مساومة تقوي موقفها التفاوضي في أي مباحثات لها مع واشنطن، وتبرز قدرتها على خلط الأوراق الأمريكية في الشرق الأوسط التي كانت منطقة نفوذ أمريكية على مدى عقود، للرد على محاولات واشنطن إرباك أوراق الصين في جنوب آسيا وشرقها، إذ تسعى بكين لتخفيف الضغط عليها في بحر الصين الجنوبي، والالتفاف على المحاولات الأمريكية لتطويقها بالتعاون مع اليابان والهند وأستراليا  في إطار الحوار الأمني الرباعي، المعروف باسم «كواد» (Quad)، والذي عُقدت قمة افتراضية بين زعمائه في الثاني عشر من مارس الماضي، أي أن الخطوة الصينية قد تسهم في تحويل منطقة الشرق الأوسط إلى ساحة من ساحات الصراع الدولي بين القوى الكبرى.

بالطبع لن يغير الاتفاق من الاستراتيجية الأمريكية تجاه طهران، وبالأخص فيما يتعلق بطموحاتها النووية، لكنه سيُعقد بعض الضغوط الأمريكية عليها، وربما يساعد على إضعاف تأثير بعض العقوبات، ويقوض الجهود الغربية لعزل طهران مما يجعلها تعتقد أنها غير مضطرة للتفاوض ولا التنازل لواشنطن من أجل التعجيل برفع العقوبات، كما أن الاتفاق يضعف من التأثير الأوروبي على إيران، والذي كان يتكئ بدرجة ما على مسألة الحوافز الاقتصادية لحثها على الوفاء بالتزاماتها.

وبغض النظر عن فحوى الوثيقة فإنها بدون شك تعزز مصالح بكين في الشرق الأوسط على حساب المصالح الأمريكية عبر المساهمة في توسيع نفوذها الاقتصادي في المنطقة، وما يستتبع ذلك من تأثيرات مهمة على كل الصُّعُد.

إلا أن مكمن الخطورة هنا ليس فقط الشق الاقتصادي – على أهميته الكبيرة – فقد أبرمت الصين من قبل اتفاقيات تعاون مع المملكة العربية السعودية والإمارات على سبيل المثال، لكن الأهم هنا البنود غير المعلنة من الوثيقة، والتي تسرب منها أنها تتضمن تأجير جزر في الخليج العربي لبكين والسماح بوجود قواتها على الأراضي الإيرانية، وإن صحت تلك الأخبار فهي تؤشر إلى تحول جيوبوليتيكي خطير، فمنطقة الخليج التي ما تزال تمثل أهمية كبيرة لواشنطن، ولن تفرط في نفوذها فيها بسهولة، لأن إضعاف نفوذها في تلك المنطقة التي لم تعد الأهمية الاقتصادية لها بالنسبة للأمريكان كسابق عهدها، سيؤدي لإضعافها في مناطق أخرى وزعزعة مكانتها الدولية. 

لكن تجدر الإشارة إلى ضرورة عدم الإفراط في المبالغة عند الحديث عن التأثيرات المحتملة للاتفاق على السياسة الخارجية لإيران لأن المصالح الصينية في النهاية تتوافق إلى حدٍّ كبير مع المصالح الأمريكية فيما يتعلق بأهمية الاستقرار في مضيق هرمز، فبكين هي أول المتضررين في حال تم غلق المضيق، كما أن الاستقرار في دول المنطقة يصب في صالح تجارة الصين واستثماراتها، كما أنها لا تخفي رغبتها ومصلحتها في إعادة إيران إلى الاتفاق النووي.

إيران: باقية وتتمدد!

بداهةً فإن هذا الاتفاق يتناقض مع المبدأ الذي اعتمدته إيران الثورة في السياسة الخارجية منذ البداية، «لا شرقية ولا غربية»، وهو الشعار الذي ما زال محفورًا على مدخل مبنى وزارة الخارجية في طهران، ويأتي هذا التحول اتساقًا مع تبني المرشد الأعلى، علي خامنئي، سياسة الاتجاه شرقًا عام 2018، بعد فرض العقوبات الأمريكية على بلاده وهروب الاستثمارات الغربية منها، فتوثقت العلاقات أكثر فأكثر بين طهران والقوى الشرقية كالصين وروسيا.

فالصينيون لا يشكلون تهديداً للنظام الإيراني، لأنَّهم لا يتدخلون في شكل أنظمة الحكم، فلا يشترطون رفع سقف الحريات السياسية، ولا يكثرون الكلام حول حقوق الإنسان، لكن بدلاً من ذلك سيوفرون للملالي الأموال اللازمة لتخفيف الضغط عن اقتصادهم المتداعي، مما يتيح الفرصة لهم لمتابعة دعم المشروع الإقليمي وإعادة ضخ الأموال للميليشيات التي تقاتل بالوكالة عنهم في سوريا والعراق واليمن ولبنان.

لكن تجدر الإشارة إلى أنه وفقًا للسيناريو الذي يفترض إقامة تحالف استراتيجي بين الدولتين فإن الدعم الصيني السخي من الوارد أن يكون له ثمن من النفوذ الإقليمي أيضًا، فهو يمنح بكين سلطانًا وكلمة مسموعة فيما يتعلق بالملفات الإقليمية التي تنخرط طهران فيها، فهذا النفوذ الإقليمي في بعض المناطق قد يتم تقاسم مغانمه مع الصينيين، الذين سيتحملون أيضًا جانبًا من المسؤولية عن تصرفات النظام الإيراني، وبالتالي قد يمارسون قيودًا عليه لمنع زعزعة استقرار الشرق الأوسط.

وفيما يتعلق بالتعاون الثقافي فإن نصوصًا مسربة تتحدث عن تعاون بين البلدين فيما يخص أزمة قومية الإيجور المسلمة في إقليم شينجيانج غرب الصين، والتي يتهمها الحزب الشيوعي بأن لديها ميولًا انفصالية، إذ تتولى طهران تأسيس مراكز ثقافية في مناطق السكان الإيجور، وتمنح جامعة المصطفى الإيرانية 1500 منحة تعليمية سنويًّا لشبابهم بهدف نشر التشيع بينهم لمواجهة المد السلفي.

وبالفعل تنشط جامعة المصطفى في مدينة قُم جنوب طهران في نشر التشيع بين الإيجور الصينيين، منذ سنوات، وهو الأمر الذي أثاره أبرز أئمة أهل السنة في إيران، مولوي عبد الحميد حين شكا من أن الجامعة تجبر الطلبة من المسلمين الصينيين على الدراسة بها وتمنعهم من المغادرة.

كما خرجت إلى العلن بعد توقيع الاتفاق تصريحات رسمية تدفع في هذا الاتجاه، فسفير إيران لدى الصين رضا كشاورز زاده، هاجم التقارير المتعلقة بـ«الإبادة الجماعية» لمسلمي الإيجور، قائلًا إن إجراءات الحكومة الصينية أدت إلى أن يتمتع المسلمون في هذه المنطقة بـ«حياة أفضل»، وزار شينجيانج بنفسه وأعلن عن خطة لتطوير العلاقات مع هذا الإقليم.

روسيا وجنوب آسيا على الخط

جددت الاتفاقية مع بكين الحديث في إيران عن محور بكين-طهران-موسكو، ففي إحدى نسخ التسريبات جاء ذكر فتح المطارات الإيرانية أمام الطائرات الروسية والصينية، كما أعلن رئيس لجنة الأمن القومي في البرلمان، مجتبى ذو النور، أن بلاده تنوي إبرام اتفاقية مشابهة مع روسيا، لكن الحقيقة أن البلدين تربطهما بالفعل اتفاقية تعاون منذ 20 عامًا، تُجدد تلقائيًّا كل خمس سنوات، كان آخرها في 12 مارس الماضي، وبدأ العمل بالفعل على إضافة تعديلات على المعاهدة في إطار «برنامج شامل للتعاون» بين البلدين، وكانت الرئاسة الإيرانية أكدت العام الماضي أن لديها محادثات مع روسيا تشبه محادثاتها مع الصين، دون الإعلان عن مضمونها.

وبالنسبة للجانب الروسي، تعد إيران حليفًا مهمًّا جمعته بها ضرورات المصالح والتحديات المشتركة، ورغم أن قدرات موسكو الاقتصادية لا تمكنها من استثمار مئات المليارات في الاقتصاد الإيراني كما فعلت بكين، فإنها تقدم المساندة السياسية والاستراتيجية وتدعم طهران في مواجهة الضغوط الأمريكية والغربية.

وفي المقابل، يوفر الإيرانيون لروسيا المساعدة في التغلب على نقطة ضعفها الجغرافية المتمثلة في البعد عن البحار الدافئة، إذ يتعاون الطرفان في مشروع ممر الشمال-جنوب، الذي روج له سفير إيران لدى موسكو كاظم جلالي، ليكون بديلًا عن قناة السويس، والذي وفقًا للمعلومات المنشورة عن الاتفاق فإنه من المقرر أن تتولى شركات صينية مسؤولية تحديث سكك الحديد على هذا الممر من ميناء تشابهار في الجنوب إلى ميناء بندر إنزلي على السواحل الجنوبية لبحر قزوين شمال إيران، في إطار محاصرتها للنفوذ الهندي في إيران، إذ تولت نيودلهي مهمة تطوير ميناء تشابهار الذي يُنظر إليه على أنه بوابة الهند إلى آسيا الوسطى وأفغانستان، بهدف إيجاد ممر اقتصادي في المنطقة منافس لمبادرة الحزام والطريق، مما حفز المساعي الصينية للانقضاض على المشروع بعد الأداء السيئ للشركات الهندية وعجزها عن إتمامه، بالرغم من إعفاء الولايات المتحدة لهذا المشروع تحديدًا من العقوبات، بهدف دعم الهنود وعدم ترك الميناء فريسة للصين.

وتخشى نيودلهي من أن الصين قد تستخدم نفوذها للمساعدة في تسوية الخلافات الثنائية بين إيران وباكستان، في محاولة لإبعاد الهند عن طهران وعزلها عن الشرق الأوسط، وضم الأخيرة إلى مشروع الممر الاقتصادي الذي يمتد من شينجيانج إلى ميناء جوادر في جنوب غرب باكستان لا سيما وأنه قريب نوعًا ما من ميناء تشابهار.

وعلى غرار وثيقة التعاون الشاملة الصينية، لم يتم الكشف عن بنود مسودة الوثيقة الروسية، بشكل علني، بل لم تُعطَ حيزًا إعلاميًّا كبيرًا تفاديًا لإثارة المعارضة على غرار ما شهدته البلاد بعد السماح لموسكو باستخدام قاعدة نوجة العسكرية في همدان غرب إيران منذ عام 2016.

وتم تسريب مسودة للوثيقة الروسية، تشمل التعاون في الصناعات العسكرية والمجال الاستخباري وملاحقة المطلوبين والسماح بدراسة الطلاب الإيرانيين في الجامعات الروسية في التخصصات الممنوعة عليهم في الدول الغربية، واحتوت أيضًا بنودًا تتعلق بإنشاء قواعد عسكرية بعضها على شواطئ الخليج العربي، لكن بسبب منع الدستور الإيراني إعطاء قواعد عسكرية للقوات الأجنبية تم الاتفاق على أن تكون القواعد «مشتركة» إيرانية-روسية.

إذًا فإن التعاون الإيراني مع الصين يأتي مكملًا للتعاون مع روسيا، وقد بدأت الأطراف الثلاثة تدشين مناورات عسكرية مشتركة في عام 2019، وتكررت في فبراير/شباط الماضي في مؤشر على المدى الذي وصل إليه التعاون العسكري بين أطراف المحور الأوراسي الثلاثة، والذي تسعى طهران لتتويجه بالانضمام إلى منظمة شنغهاي للتعاون، التي تهيمن عليها الصين وروسيا، وتضم في عضويتها: كازاخستان، وقيرغيزستان، وطاجيكستان، وأوزبكستان، والهند، وباكستان.

وخلاصة القول أن وثيقة التعاون بين الصين وإيران هي مذكرة إعلان نوايا استراتيجية دفعت بها الظروف الدولية الراهنة، إذ تسعى بكين لتخفيف الضغط عليها في بحر الصين الجنوبي، والالتفاف على المحاولات الأمريكية لتطويقها، فالوثيقة تتعلق بتنمية مصالح موجودة منذ فترة بين طهران وبكين، وجاءت كتتويج للتعاون الاقتصادي بين البلدين، وقد سبقها إبرام عشرات الاتفاقات الثنائية، فهي لا تمثل نقلة استراتيجية في العلاقة بين الطرفين، كما أن هناك عقبات أمام تطوير تلك العلاقات أبرزها العقوبات الأمريكية والمعارضة الداخلية في إيران، ومصالح الصين مع الدول الخليجية وإسرائيل.

وبغض النظر عن أرقام وحجم الاستثمارات والتعاون بين البلدين فإن تلك الخطوة تسهم في زيادة هامش المناورة لدى طهران وتقوية موقفها التفاوضي في مواجهة الولايات المتحدة في المباحثات المتعلقة بالملف النووي، والتي تهدف طهران لحصرها في مربع العودة لخطة العمل الشاملة المشتركة المبرمة في 2015، دون إضافة قيود جديدة على برنامجها الصاروخي ومشروعها الإقليمي، كما تقوي موقفها أمام الأطراف الأوروبية في الاتفاق (فرنسا وبريطانيا وألمانيا) التي لم تقدم دعمًا اقتصاديًّا لها لتحفيزها على الالتزام بالاتفاق النووي بعد انسحاب واشنطن منه وإعادة فرض العقوبات.

وبالنسبة للمشروع الإيراني الإقليمي فإن أي خطوة تسهم في إنقاذ الاقتصاد الإيراني الذي يمر بأسوأ أحواله من شأنها أن تكون لها انعكاسات إقليمية واضحة، فالأموال التي سيتم ضخها في الاستثمارات داخل إيران سيذهب جزء كبير منها بلا شك إلى الأذرع التابعة لها في سوريا والعراق واليمن ولبنان، مع ما يصاحب ذلك من تأثيرات كبيرة في تلك الدول، لا سيما وأن تلك الأذرع تعاني من شح حاد في التمويل بسبب الأزمة الاقتصادية التي تمر بها إيران.

كما تستغل طهران العلاقة مع الصين، والتي عززتها تلك الوثيقة، لمد نفوذها الثقافي إلى إقليم شينجيانج غرب الصين المتاخم لأفغانستان، والذي تقارب مساحته مساحة إيران نفسها، ويشكل ذلك مصلحة لبكين التي تخشى من الميول الانفصالية لسكان الإقليم.

وتعد تلك الاتفاقية علامة على مضي طهران في سياسة الاتجاه شرقًا التي تعني توثيق علاقاتها مع القوى الآسيوية، ضمن خطة تهدف لتوسيع تعاونها معهم في جميع المجالات الاقتصادية والسياسية والاستراتيجية كبديل للقوى الغربية، ولذلك فإنها تعزز علاقاتها مع موسكو وإن كان بشكل مختلف عن الصين التي تركز على الاقتصاد بشكل أكبر، بينما يركز التعاون مع الروس على الجوانب السياسية والاستراتيجية بالأساس، وتعمل الأطراف الثلاثة على تنسيق الجهود في الملفات الإقليمية والدولية.