بدأ المتظاهرون العراقيون في ليلة 25 أكتوبر/ تشرين الأول التجمع مرة ثانية في وسط العاصمة بغداد، لمواصلة احتجاجهم الذي بدأ في أوائل الشهر نفسه وانقطع لفترة قصيرة بسبب الحدث الديني، أربعين الحسين (مرور 40 يومًا على وفاة الإمام الحسين).

كانت قد انتهت الموجة الأولى من الاحتجاجات بقتل قوات الأمن العراقية بمساعدة من الفصائل المسلحة التابعة للحشد الشعبي والموالية لإيران، حوالي 150 محتجًا، وإصابة ستة آلاف آخرين.

عاد المتظاهرون مرةً أخرى إلى الشارع، بعد أن فشلت كافة جهود رئيس الوزراء عادل عبد المهدي في تلبية مطالبهم، وكان قد طرح خططًا إصلاحيةً غامضة، اعتبرها المحتجون محاولة من الحكومة لإجهاض الاحتجاجات.

اقرأ أيضًا: أكتوبر الدامي: ما الذي يحدث في العراق؟

محاولات فاشلة للتهدئة

بعد صلاة الجمعة 25 أكتوبر، احتشد الآلاف من المتظاهرين محاولين الوصول إلى المنطقة الخضراء، التي تضم العديد من المباني الحكومية والسياسيين، بعد عدة محاولات فاشلة منذ بداية الشهر، لكن كما جرت العادة في مظاهرات العراق منذ اندلاعها، قوبلت محاولاتهم بعنفٍ شديد.

أطلقت قوات الأمن العراقية التي كانت قد اعترفت في الموجة السابقة من الاحتجاجات باستخدام «القوة المفرطة» لتفريق المتظاهرين، قنابل الغاز المسيل للدموع بكثافة، ما أسفر عن مقتل متظاهر، وإصابة نحو 244 وفقًا لمفوضية حقوق الإنسان العراقية.

في المقابل، لم يثنِ عنف القوات الأمنية الشباب العراقي المحتج عن الرجوع، بل قرروا الاعتصام في ساحة التحرير بوسط العاصمة العراقية بغداد.

لم يكن أمام رئيس الوزراء عادل عبد المهدي إلا الخروج لإعلان حزمة جديدة من الإصلاحات، في محاولة بائسة منه لتهدئة الشارع المحتج. أقر عبد المهدي لأول مرة بمعاناة العملية السياسية في العراق من العديد من المشاكل، واعدًا المحتجين بإجراء إصلاحات شاملة، إلى جانب تشكيل حكومة جديدة غير طائفية.

اعترف عبد المهدي أيضًا بأن هناك عددًا من الفصائل المسلحة التابعة للحشد الشعبي ترفض الاندماج في القوات الحكومية، ووعد بأنه سيعمل على تنظيم فصائل الحشد وإلزامها بالاندماج تحت لواء القوات المسلحة، وهو ما فشل في تحقيقه منذ شهر يوليو/ تموز الماضي.

اعتقد عبد المهدي والنخب السياسية، أن تلك الإصلاحات والاعترافات سترضي المحتجين، لكن الأمور لم تسِر كما كانوا يخططون لها. على العكس تمامًا، فمحاولاتهم لكبح التظاهرات انتهت بزيادة أعداد المتظاهرين أكثر وأكثر، كما فعل استخدام العنف المفرط في الموجة الأولى من الاحتجاجات.

ليلة دامية في كربلاء!

في اليوم الخامس من الاحتجاجات المتواصلة، بدأ العراقيون يتداولون مقاطع مصورة لعمليات من الكر والفر بين المتظاهرين وقوات الأمن في مدينة كربلاء، تلك المدينة التي تتمتع بقدسية كبيرة لضمّها ضريح الإمام الحسين، وعددٍ من أصحابه.

في ساحة التعليم في مدينة كربلاء، وعلى مقربة من ضريح الإمام الحسين، كان المتظاهرون قد نصبوا الخيام لبدء الاعتصام، وبحسب العديد من شهود العيان والتقارير الإخبارية، بدأت قوات ملثمة مجهولة، ترتدي الزي الأسود، بالهجوم على المعتصمين. تُظهر لقطات الفيديو المنتشرة، عددًا من المتظاهرين وهم يحاولون الهرب من تلك القوات، وعمليات حرق خيام المعتصمين.

كربلاء ليست فقط مدينة مهمة بالنسبة إلى الشيعة في العراق، لكنها أيضًا تحظى باهتمام كبير من الجمهورية الإسلامية الإيرانية، فمنذ الإطاحة بصدام حسين عام 2003، حاولت طهران بشتى الطرق السيطرة على تلك المدينة من خلال المساعدات المالية الكبيرة ومشاريع إعادة إعمار الأضرحة الشيعية بعد طرد تنظيم الدولة الإسلامية من العراق.

قيام المظاهرات في مدينة كربلاء، وحرق المتظاهرين لصور المرشد الأعلى الإيراني آية الله علي خامنئي أربك المسؤولين الإيرانيين، وكان لابد لهم من السيطرة بأي شكل من الأشكال على تلك المظاهرات، حتى وإن كلف الأمر إراقة دماء المتظاهرين.

تحدثت بعض التقارير الإعلامية الغربية عن وصول عدد قتلى مظاهرات كربلاء إلى 18 شخصًا، قضوا في ليلة واحدة، ما يجعلها أكثر الأحداث دموية منذ قيام الاحتجاجات مطلع أكتوبر. لكن بعض وسائل الإعلام العراقية نفت هذا الرقم، موضحةً أن عدد القتلى من المتظاهرين في كربلاء غير معلوم بشكل دقيق، نصيف الخطابي محافظ كربلاء نفى تمامًا مقتل أي من المتظاهرين في تلك الليلة، واصفًا مقاطع الفيديو التي انتشرت بالملفقة.

وبغض النظر عن العدد الفعلي أو نفي أو تأكيد أي من الجهات، إلا أن اشتعال الأمور في مدينة كربلاء ومحاصرة القنصلية الإيرانية هناك أمر له الكثير من الدلالات التي أربكت الجانب الإيراني وجعلت الجنرال قاسم سليماني، قائد فيلق القدس التابعة للحرس الثوري، يطير إلى بغداد على وجه السرعة في محاولة لإنقاذ الموقف.

مقتدى الصدر ومحاولات التضحية بـ عبد المهدي

منذ بداية التظاهرات، حاول مقتدى الصدر رجل الدين الشيعي والسياسي البارز ورئيس أكبر كتلة برلمانية «سائرون»، إبراز دعمه للمحتجين بشتى الطرق، فدعا أكثر من مرة إلى حل الحكومة الحالية، وانتهى الأمر به إلى دعوته رئيس الوزراء عادل عبد المهدي لتقديم استقالته.

في 29 أكتوبر/ تشرين الأول، نزل إلى المظاهرات في مدينة النجف، في رسالة إلى عبد المهدي بأنه سيعمل بكامل طاقته للإطاحة به. في نفس الوقت رفض المتظاهرون وجود الصدر بينهم، رافضين أي وجه من وجوه النخبة السياسية الحالية.

دعا مقتدى الصدر منافسه هادي العامري، رئيس ثاني أكبر كتلة برلمانية «فتح»، إلى العمل سويًا من أجل سحب ثقة البرلمان من عبد المهدي، وتشكيل حكومة جديدة. في أول الأمر وافق العامري على التعاون مع الصدر، وحينها وجه الصدر رسالة شديدة اللهجة لعبد المهدي، مفادها أنه طالبه بالاستقالة من أجل حفظ كرامته.

إيران تتدخل لمنع استقالة عبد المهدي

أمر استقالة عبد المهدي تم طرحه كثيرُا منذ بداية المظاهرات. في الأسبوع الأول للاحتجاجات، توقع العراقيون أن يخرج عبد المهدي ليعلن استقالته، خاصةً بعد انتشار العديد من الشائعات التي تفيد بأنه يرغب في الاستقالة.

لكن حدث شيء غامض جعله يترك استقالته حبيسة الأدراج مرة أخرى، عندما صمم مقتدى الصدر على استقالة عبد المهدي، ووافق العامري على هذا الأمر، قام قاسم سليماني بزيارة بغداد بشكل مباغت، مجتمعًا بعدد من النخب السياسية من بينهم هادي العامري المعروف بولائه لإيران. خرج العامري بعد لقاء سليماني ليعلن أنه لن يتعاون مع الصدر في الإطاحة بعبد المهدي، بل سيعمل على إعطائه فرصة ثانية لإصلاح الأمور.

قبل عام واحد، كان الصدر والعامري هما من ساعدا عادل عبد المهدي في الوصول إلى رئاسة الوزراء كمرشح توافقي، وعلى الرغم مما يحدث خلف الكواليس والتدخل الإيراني لتثبيت أقدام عبد المهدي، فمصير الرجل ما زال غامضًا بعض الشيء.

عصيان مدني: تهديد بالعقاب

يبدو أن تلك الأمور التي تحدث خلف الأبواب المغلقة في المنطقة الخضراء، تزيد من تطور الأمور في الشارع العراقي، فاكتسبت المظاهرات زخمًا جديدًا، بانضمام كافة فئات المجتمع إليها.

بعد مقتل 40 شخصًا في الموجة الثانية من الاحتجاجات وإصابة المئات، لجأ المحتجون إلى السلاح الأخير وهو العصيان المدني، مطالبين موظفي المؤسسات الحكومية بعدم الذهاب إلى وظائفهم. استجاب طلاب الجامعات والمدارس في شكل سريع لدعوات العصيان.

ووفقًا للعديد من وسائل الإعلام العراقية، أعلن طلاب وأساتذة المدارس والجامعات العصيان المدني تضامنًا مع المحتجين في كافة أرجاء العراق. من جانبها حاولت الحكومة تخويف كل من يحاول أن ينضم إلى هذا العصيان، مهددةً بقطع الرواتب عن الموظفين، ومعاقبة الأساتذة والطلاب. وفقًا للمادة 38 من الدستور العراقي، فإن العصيان المدني حق دستوري، ولا يحق لأي جهة حكومية معاقبة الموظفين أو الطلاب المضربين عن العمل.

«إيران برا برا، بغداد حرة حرة»

أصبحت الاحتجاجات في العراق المجاور مصدر قلق للمسؤولين في الجمهورية الإسلامية، وبعد أن صرح عدد من كبار المسئولين الإيرانيين في بداية المظاهرات، معترفين بوجود مظالم للشعب العراقي، بدأو في ترديد نغمة التدخل الأجنبي في الاحتجاجات ونظرية المؤامرة.

تناولت أغلب المواقع الإخبارية الإيرانية فكرة وجود عناصر أجنبية تستغل المظاهرات في العراق لزعزعة استقرار البلاد من جهة، وضرب إيران من جهة أخرى. ووصل الأمر إلى حد اتهام بعض العناصر المنتمية لحزب البعث السابق وبقايا تنظيم الدولة الإسلامية باستغلال المظاهرات، بجانب اتهام الشيطان الأكبر الولايات المتحدة، والمملكة العربية السعودية حاضرة بالطبع في مشهد الاتهام.

لقد عبر الشباب العراقيون المرابطون في الشوارع عن اكتفائهم من التدخل الإيراني في بلادهم، رافعين شعارات مناهضة لهذا التدخل، منتقدين موقف إيران المتمثل في محاولاتها المستميتة في الإبقاء على عبد المهدي في منصبه.

المعركة ضد النفوذ الإيراني في العراق معركة طويلة، فمنذ الإطاحة بصدام حسين عام 2003، حاولت إيران بشتى الطرق السيطرة على مقاليد الأمور في العراق، الذي تعتبره شريانًا اقتصاديًا وإستراتيجيًا لا يمكن التخلي عنه بسهولة. حذر المرشد الأعلى للجمهورية الإسلامية من العناصر الأجنبية الرجعية، التي تحاول استغلال المظالم الشرعية للشعب العراقي، داعيًا العراقيين لتوخي الحذر.

كان للمرجعية الدينية الشيعية العليا في العراق، والمتمثلة في آية الله العظمى علي السيستاني المعروف بخلافه القديم مع آية الله علي خامنئي، رأي آخر. في خطبة الجمعة أول نوفمبر/ تشرين الثاني، قال ممثل السيستاني في كربلاء إن المرجعية ترفض أي تدخل أجنبي في البلاد، ولن تسمح لأي دولة بفرض رأيها على إرادة الشعب العراقي.

محاولات برهم صالح لإنقاذ الوضع

بنهاية أكتوبر، أعلن الرئيس العراقي برهم صالح دعمه الكامل لمطالب المحتجين، متعهدًا بإجراء انتخابات مبكرة، وإقالة اللجنة الانتخابية التي اتهمها المحتجون بالفساد، كما أعلن استعداد عادل عبد المهدي للاستقالة في حالة توفير البرلمان البديل.

لكن كل تلك المحاولات التي تبدو إيجابية من جانب الرئيس صالح، لم ترضِ طموح المتظاهرين في الشارع، الذين وصل عدد القتلى بينهم إلى 250 قتيلاً منذ بداية الاحتجاجات، خاصةً وأن صالح لم يتعرض لإقالة الحكومة الحالية كما طالب المتظاهرون.

ترجم المتظاهرون رفضهم لكافة الحلول المطروحة بما فيها محاولات برهم صالح يوم الجمعة الماضي، أول نوفمبر، بتنظيم أكبر مظاهرات شهدتها البلاد منذ عام 2003، لكنهم في الوقت نفسه قابلوا عنفًا شديدًا من جانب القوات الأمنية، التي أمطرتهم بقنابل الغاز المسيل للدموع بكثرة، ما أدى إلى وقوع حالات وفاة، وإصابات عديدة.

إلى الآن، فشلت النخبة السياسية في العراق في إيجاد حلول للخروج من هذا المأزق، ويرفض المتظاهرون ترك الميادين والعودة إلى منازلهم بدون الإطاحة بالنظام السياسي بشكل كامل.