تمثل أفريقيا سوقًا مثالية لكافة الدول المصنعة، فضلًا عن كونها خزان ثروات هائلة يسهُل إغراء مالكه، يقبع فيها أكثر من 10% من الاحتياطي النفطي العالمي، تشتهر بزراعة الكاكاو والقطن ونخيل الزيت والفول السوداني والتبغ، فيها 54 وحدة سياسية، وهي بذلك أكبر قارة تضم عددًا من الدول.دفعت هذه الثروات القوى المختلفة للتداعي عليها بغية اقتسام الكعكة – التي تبدو سهلة المنال – أو للبحث عن موطئ قدم للاستثمار واستعادة أمجاد الماضي. وبذلك مثلت أفريقيا فرصة واعدة لكل إمبراطورية طامحة في العودة أو قوة راغبة في الصعود أو أمة تبحث عن حلفاء.

أفريقيا بوابة الغرب لاستعادة الهيمنة

أمريكا، أفريقيا
ضباط أمريكيون في نيجيريا

لطالما نُظر إلى أفريقيا على أنها مملوكة حصرًا لأوروبا، وتحديدًا فرنسا، حيث اقتسمت إنجلترا وفرنسا في مؤتمر برلين 1884- 1885 المستعمرات الأفريقية في إطار موجة التكالب الثانية على أفريقيا، بعدما وجدا في استغلال الثروات بديلًا مناسبًا لاستخدام العبيد وتهجيرهم لتنمية القارة العجوز منذ بدايات القرن السابع عشر.فرنسا التي رفعت شعار«إذا أردت ألا تصاب بضربة شمس فعليك أن تبقى في الظل» هي القوة التقليدية التي تفننت في إخضاع أفريقيا سياسيًا واقتصاديًا وثقافيًا، فتآمرت وانقلبت واغتالت وتدخلت عسكريًا لتثبت وجودها.تاريخيًا أمدت شركة إلف المتمردين في بيافرا بالأسلحة لإذكاء الحرب الأهلية فيها (1967-1970)، ويبرز دورها في استمرار تدهور الأوضاع في مالي جراء انخراطها النشط في أزمة الأزواد.

اقرأ أيضًا: الأفارقة: شردتهم فرنسا وجلبوا لها كأس العالم

وعلى الرغم من أهمية الدور الذي لعبته فرنسا في أفريقيا فإنه أخذ في الخفوت، فلم تعد معطيات الحرب الباردة بين الشيوعية والرأسمالية قائمة، ولم يعُد للغرب حاجة لأن تكون فرنسا شرطية في أفريقيا.حاولت القوى الغربية وعلى رأسها الولايات المتحدة تثبيت أقدامها في أفريقيا من خلال كسب التحالفات وإنشاء القواعد العسكرية، لتنشئ مؤخرًا أفريكوم كآلية لمحاربة الإرهاب في أفريقيا 2007، ومعها اشتدت المنافسة الغربية على أفريقيا بين القوى التقليدية (فرنسا – إنجلترا – بلجيكا – البرتغال – إيطاليا) والولايات المتحدة الأمريكية التي لا ترغب فقط في تأمين تدفق النفط إليها والبحث عنه، بل استقرار أسعاره وتأمين طرق وصوله وحمايته من الأخطار ومنع وصول القوى المنافسة إليه، لتتفرد بذلك التصور عن القوى الأخرى المتنافسة حول النفط الأفريقي.اجتهدت الدول الغربية في الرجوع إلى أفريقيا بعدما نما الدور الآسيوي فيها، وإعادة الترويج لبضاعتها مرة أخرى باعتبارهم خبراء القارة، وأن من سواهم مستعمر جديد، في محاولة لتجديد الهيمنة على العالم والقارة الأفريقية معه، وصد التمدد الصيني في أفريقيا، غير أن الصورة السلبية لأوروبا المستعمرة صاحبة المشروطيات السياسية ظلت في الذاكرة الأفريقية الشعبية والرسمية، ووقفت عائقًا أمام هذه المهمة.


الفيلة الجدد

حينما تتصارع الفيلة تُتنهك الحشائش.

مثل أفريقي ربما لا يعلم قائله أن القارة ستعيشه ليل نهار، ها هم الفيلة الجدد بقيمهم الآسيوية وطموحاتهم الواسعة يغزون القارة، لكن هذه المرة بأدوات القوة الناعمة من خلال المعاهد، والمساعدات الإنسانية غير المشروطة سياسيًا، والتدريب ونقل الخبرات، مبشرِّين بقوة نموذجهم – الصيني أو الهندي أو الياباني – في التنمية، فاتحين بذلك ساحة جديدة للصراع الآسيوي في أفريقيا.

اقرأ أيضًا: غزو المآذن: العثانية الجديدة تتمدد بالمساجد

وعلى الرغم من اختلاف المدخل التي توددت به كل دولة منهم للقارة، فإن تدخلهم لم يزد الصراع على أفريقيا إلا اشتعالًا. فالصين اتخذت من الاقتصاد سلاحها الناعم لاختراق أفريقيا، ورأت الهند في تراثها الثقافي والحضاري والتاريخي فرصة ممتازة للولوج إلى القارة من بوابتها الرئيسية، في حين انطلقت اليابان من نموذجها المثالي في التحديث على النمط الغربي مع الحفاظ على القيم الوطنية وسيلة لإظهار نفسها كقوة فاعلة.أوجد نقل الصراع الآسيوي من سياقه الجغرافي إلى سياقه الاقتصادي السياسي في أفريقيا مزيدًا من الصراعات في القارة المكتظة أصلًا بمشاكلها، وفتح آفاقًا للصراع بين الفيلة الجدد (القوى الآسيوية) بعضهم البعض وفيلة العهد القديم.


القوى الطامحة في الزعامة وأفريقيا

الرئيس السوداني «عمر البشير» (يمين)، والرئيس التركي «رجب طيب أردوغان»

لم تفوِّت القوى المتوسطة في النظام الدولي الفرصة للتنافس على ثروات أفريقيا، واتخذت لأجل هذا المسعى مدخل الفيلة الآسيوية معتمدةً على القوى الناعمة، غير أنها هذه المرة أكثر تقنعًا بدوافع أيديولوجية أو دينية نبيلة. فهذه تركيا جاءت «لا من أجل الذهب لكن لتضمد الجراح» على حد قول الرئيس التركي رجب طيب أردوغان، محاربةً في الوقت نفسه جماعة فتح الله كولن التي نجحت في إقامة المدارس والجمعيات الخيرية على نطاق واسع في أفريقيا، ومقحمة صراعها التاريخي مع اليونان بشأن أزمة قبرص في علاقتها مع أفريقيا، حيث كانت ليبيا محطة رئيسية لدعم تركيا في ذلك. و تحت شعار «البرازيل دولة أفريقية»، بحثت البرازيل عن موضع قدم لنفسها من خيرات أفريقيا مستفيدة من ميراث مواطنيها المنحدرين أصلًا من أفريقيا، أما السعودية فوجدت في مناصرة السنة وتقديم المساعدات لهم مدخلًا مثاليًا للحد من التمدد الشيعي فيأفريقيا والبحث عن أنصار جدد لقضاياها الإقليمية والدولية فضلًا عن ترميم صورتها كقائد للعالم الإسلامي.


إسرائيل وإيران في أفريقيا

تعلمت إسرائيل جيدًا من درس باندوج حينما لم تلق دعوة لحضور المؤتمر التي يُمثل فيه معظم دول العالم الثالث 1955؛ إذ كانت في حاجة ماسة لمثل ذلك الدعم من عدد لا يُستهان به من الدول، فالدول الأفريقية ليست غنية ولكن أصواتها في المحافل الدولية تعادل في القيمة تلك الخاصة بأمم أكثر قوة حسبما يرى رئيس الوزراء الإسرائيلي السابق ديفيد بن جوريون. ومذ أيقنت إسرائيل ذلك، عملت على دعم أواصر الصلة مع الدول الأفريقية بالاستناد إلى أدواتها الناعمة المختلفة، وتشابه نموذجها مع دول أفريقية ناشئة؛ فأخذت تسارع في الاعتراف بها وافتتاح السفارات في الدول الأفريقية، وتعزز اتصالها الاقتصادي والعسكري مع دول القارة لتصبح أقرب ما يكون لدول حوض النيل والبحر الأحمر، فأصابع إسرائيل تلعب بقوة في أزمة سد النهضة. وليس أدل على علاقة إسرائيل بأفريقيا أن أغلب الدول الإفريقية امتنعت عن التصويت أو صوتت بالرفض على الطلب المقدم للجمعية العامة للأمم المتحدة بشأن سحب قرار ترامب بنقل عاصمة إسرائيل إلى القدس.آتت سياسة إسرائيل لشد أطراف النظام الإقليمي الشرق أوسطي أُكُلَها بمحاصرة القوى العربية الرئيسية المناهضة لها، وكسرت عزلتها الدولية وكسبت مزيدًا من الاعتراف، والسبب الرئيسي في ذلك تغلغل واختراق إسرائيل لأفريقيا.أما عن إيران فقد لمحت في أفريقيا ساحة جديدة لنشر التشيع وحصد مزيد من النقاط ضد غرمائها الإقليميين، وتعزيز تحالفها مع التنظيمات الإسلامية الشيعية، كما أنها وجدت فرصة سانحة للبحث عن مزيد من اليورانيوم، والخروج من ضيق نطاق العزلة الذي فرضه الغرب عليها.

أفريقيا بين الاستعمار الجديد والقديم

عمر البشير، رجب طيب أردوغان، تركيا، السودان، العلاقات التركية السودانية
سؤال يفرض نفسه هاهنا، ألا وهو أين أفريقيا طالما كل هؤلاء يتنافسون عليها؟ أو بمعنى أكثر دقة أين قوى أفريقيا التقليدية ودولها؟
والإجابة على هذا السؤال تفترض – بداهةً – الحديث عن قوى تقليدية كمصر وليبيا والجزائر، وعمالقة أخرى كجنوب أفريقيا ونيجيريا.هذه الدول إما انكبت على نفسها بفعل عوامل داخلية تتمثل فيما شهدته من تحولات، أو حاجتها لإحداث تقدم وتنمية سريعة، فانعكفت على الداخل لإصلاحه (كمصر ونيجيريا)، وإما حالت العوامل الخارجية بينها وبين تعميق وجودها الأفريقي، من منطلق رفض القارة نفسها لظهور قوى أفريقية انتهازية جديدة، أو رفض الخارج أن تكون هناك قوة أفريقية تقف عائقًا أمام مخططاته، أو تؤدي دور شرطي إقليمي يحرس حدود القارة ويسهر عليها كجنوب أفريقيا مثلًا والأمر ذاته ينسحب وإنْ بصورة أقل عن القوى السابقة، وغني عن البيان تلك التي خرجت من لعبة القوى كليبيا إثر موت زعيمها معمر القذافي.ويأتي سؤال آخر يدعم السابق وهو هل أفريقيا ما زالت محتلة؟ وهل هذا الاحتلال يتخذ الشكل القديم الذي كان عليه؟ أم نحن أمام استعمار من نوع جديد أطرافه هذه المرة ليست القوى الأوروبية فحسب؟الإجابة يسيرة إذا بينّا المقصود بالاستعمار، فالاستعمار هو احتلال أراضي الغير بقصد استحلاب ثرواته وضمان تبعيته السياسية والاقتصادية والعسكرية للدولة المستعمِرة، ولما كانت الأمور بمقاصدها، فنحن الآن بصدد استعمار جدد من نفسه وأدواته وقواه العاملة عليه. فالفيلة الجدد تشاركوا مع القدامى مقاصدهم وأهدافهم ودوافعهم فكان الحكم واحدًا «استعمار»، ولما كانت الأدوات والأشكال مختلفة أضحى هذا الاستعمار «جديدًا»، ولا فرق بين استعمار جديد وقديم طالما أنه «ليس هناك مستعمر طيب وآخر شرير» حسبما يقول سارتر.