كتب «أوليفيه روا» في كتابه «تجربة الإسلام السياسي» منذ أكثر من عقدين ونصف أن كل انتصار للإسلام السياسي سيكون سرابًا خادعًا؛ لأنه لن يغير إلا القانون بينما سيبقى جوهر السياسات الأوسطية كما هو. فهل يعتبر انتصار العداليين في المغرب سرابًا خادعًا؟.

قد يتفق كثيرون مع قاله روا في كتابه عن تجربة الحركات الإسلامية في كونها لم تُحدث تغييرًا في عمق السياسة الأوسطية ما عدا التجربة الإيرانية، وهو ينتهي إلى أن الإسلام السياسي أخفق إخفاقًا تاريخيًا.

اليوم، استطاع حزب العدالة والتنمية المغربي الإسلامي أن يتجاوز كافة التوقعات التي روجت لتراجعه في الانتخابات البرلمانية التي أجريت في السابع من أكتوبر؛ ليحصد الحزب 129 مقعدًا ويحصل على المركز الأول. تأتي تلك النتيجة فيما يعاني تيار الإسلام السياسي من حالة من التراجع السياسي والتنظيمي البنيوي، فأين موقع هذا الانتصار من أطروحة الفشل التي ذهب إليها روا؟


ملامح تطور متباطئة

شهدت حركات الإسلام السياسي العديد من التغيرات والتطورات التي أدت إلى تغيير دراماتيكي في هيكل وبنية تلك الحركات، صاحبه توسيع للمفهوم، ليتواكب مع الظرفية والحتمية التاريخية.

شارك الإسلاميون في الحياة السياسية بأشكال متعددة منها مقاومة الاستعمار، ثم أصبحوا طرفًا في المعادلة السياسية فيما بعد دولة الاستقلال

فمنذ تأسيس الحركة الإسلامية بالمفهوم الحركي الشمولي في ثلاثينات القرن الماضي على يد حسن البنا في مصر وأبو الأعلى المودودي في باكستان، وهي تتبنى المفهوم التربوي والدعوي ثم السياسي، وقد سعى الإسلاميون منذ البداية إلى تكوين رأسمال اجتماعي، وهو ما يسهل تكوينه بالدعوة الأخلاقية ومقاومة الاستعمار، فكانت الإسلاموية آنذاك جزءًا أصيلًا من الحركة الوطنية.

الإسلام السياسي ليس دينًا ولا مذهبًا دينيًا أو عرقيًا، ولكنه أيديولوجيا تتخذ من المرجعية الدينية أساسًا لها، ومن ثم فإن ضرورة فهم الإسلام السياسي تستوجب الفصل بينه وبين مفهوم الإسلام كدين، ومن ثم فإن قضايا المشاركة السياسية والديمقراطية لا تتعارض مع قيم الدين الإسلامي، ولكن قد تختلف آلياتها مع قيم ومبادئ الإسلام السياسي.

شارك الإسلاميون في الحياة السياسية بأشكال متعددة منها مقاومة الاستعمار، ثم أصبحوا طرفًا في المعادلة السياسية فيما بعد دولة الاستقلال، وهو ما واكبه تغيير بنيوي وهيكلي لحركات التيار الإسلامي.

ومع الانفتاح التدريجي الذي شهده العالم العربي بعد الاستقلال، وكتابة الدساتير العربية، والدعوة إلى التعددية بعد انتهاء عصر الحزب الواحد، سعى عدد من الحركات الإسلامية في بلاد المغرب والأردن والعراق لتأسيس أحزاب سياسية على أسس إسلامية، وهو ما قوبل بالرفض في بعض العواصم مثل تونس والمغرب.

لكن خاتمة التسعينات في المغرب شهدت تحولًا بقبول تلك الأحزاب؛ ليسطر الإسلاميون المغاربة حقبة جديدة للإسلام السياسي، فاتجهت تلك الجماعات من العمل السري الذي فرضته سياسات الأنظمة القمعية إلى العمل العلني.

أدت أحداث 11 سبتمبر/أيلول إلى حصار الإسلام السياسي بين فوبيا الغرب وقمع الأنظمة، حتى أعلن عام 2011 عن انفراجة كبرى بإزاحة الأنظمة الديكتاتورية. وبالرغم من أن مفهوم الثورة دخل حديثًا عباءة الإسلام السياسي، حيث تم نقله عن الماركسيين، إلا أنهم كانوا المستفيد الأول من الثورة. ولكن سرعان ما انقلب الحال بإزاحة الإخوان من حكم مصر؛ ما أثّر في تونس، ولكن استطاع العدالة والتنمية المغربي أن يحافظ على موقعه.


الاستثناء المغربي
ذكاء النظام الحاكم في المغرب وقدرته على إحداث توازن بين الإسلاميين والعلمانيين، هو أحد متغيرات البيئة الخارجية التي ساعدت الحزب على الفوز

تعد دول المغرب من أهم النماذج التي عبّرت بعبقرية عن إمكانية إتاحة الفرصة للإسلاميين للمشاركة في الحياة السياسية وإدماجهم فيها. بدأ ذلك مبكرًا في أعقاب ما شهدته الجزائر من تقاتل مع الجماعة الإسلامية المقاتلة؛ مما دفع المغرب وتونس إلى محاولة الاحتواء المبكر والحذر من تلك الجماعات.

كذلك استفاد العداليون من حالة الانفتاح التي أبداها القصر آنذاك برعاية إدريس البصري، وزير الداخلية المغربي الأسبق، فسارعوا إلى إحداث مراجعة فكرية تتخلى عن العنف لصالح مفهوم التغيير الحضاري والإصلاح السياسي بدلًا من التغيير الانقلابي، بالإضافة إلى الاعتراف بشرعية النظام السياسي والاعتراف بالملكية الدستورية.

ومن ثم عمل العداليون على تأسيس قواعد جماهيرية لهم لأكثر من عقد، كان حضورهم السياسي فيها باهتًا متأثرًا بحالة العزلة والحصار التي فرضتها الحكومة والمجتمع على قوى الإسلام السياسي فيما بعد تفجيرات الدار البيضاء وتفجيرات عام 2007، ومن ثم مثلت تلك القواعد رأس المال الاجتماعي للحزب حينما خاض انتخابات 2012 وانتخابات 2016، كما أن تقربهم للملك مثّل رأس المال السياسي للحزب.

بالإضافة إلى العوامل السابقة يذكر أن ذكاء النظام الحاكم في المغرب وقدرته على إحداث توازن بين الإسلاميين والعلمانيين، وإتاحة الفرصة لأن تكون المغرب نموذجًا للديمقراطية هو أحد متغيرات البيئة الخارجية التي ساعدت الحزب على الفوز.


هل حقًا سراب خادع؟

حكمت تجربة الإسلام السياسي من حيث موقفها من المشاركة السياسية ثلاثة خيارات أساسية؛ هي: الممانعة، والمقاطعة، والمشاركة المحدودة. وقد ارتبطت تلك الخيارات بالسياق السياسي والاجتماعي، فقد أملت تلك الحركات إلى المشاركة السياسية ولم يكن لديها يوما رفض أيديولوجي للديمقراطية كآلية للحكم.

الحكم بأن الإسلام السياسي أخفق إخفاقًا تاريخيًا هو مبني على نزاعات أيديولوجية وفكرية، فإذا نظرنا إلى تجارب الإسلاميين طالبان في أفغانستان وجبهة الإنقاذ في الجزائر نرى أنه تم إزاحتهم عن الحكم، كما حدث مع إخوان مصر إبان حكم مرسي، وبالتالي فبعض التجارب الإسلامية الحاكمة غير مكتملة حتى يمكن الحكم عليها أو البناء المنهجي عليها.

وإذا ما اتخذنا الأرقام كمنهجية للتحليل، فإن القواعد الانتخابية للقوى الإسلامية تشير إلى استقرار وثبات الجماهير الداعمة لتلك التيارات، وهو ما جعل العداليين يحتفظون بمكانتهم في الحكومة المغربية في دورتين متتاليتين بالرغم من التحديات التي عظمت من تحليلات تراجع العداليين في الانتخابات، ومن ثم فإن تحويل السراب إلى موضع اختبار حقيقي قد ينفي أطروحة روا.

مقالات الرأي والتدوينات لا تعبر بالضرورة عن وجهة نظر هيئة التحرير.

المراجع
  1. من الإسلام السياسي إلى الديمقراطية الإسلامية
  2. «وول ستريت جورنال»: أزمة الإسلام السياسي.. لماذا تفشل الديمقراطية في الشرق الأوسط وتنجح خارجه؟
  3. الانتخابات المغربية تُعيد السلفيين إلى الواجهة السياسية
  4. أوليفيه روا، فشل تجربة الإسلام السياسي، دار الساقي، بيروت، 1992