في «الموت» سر عجيب، سعى وراءه منذ قديم الأزل العديد من الفلاسفة والحكماء، وحتى الأديان. وبالرغم من قدسيته سواء الدينية أو الإنسانية، ففي حالات الحروب، وأيًا كان شكل الحرب فإن «القتل» مباح، بل هو الأساس، فمن يقتل أسرع وأكثر هو المنتصر.

تخيل أن يكون هناك سلاح بشري، مخوّل له من أقوى أجهزة الاستخبارات في العالم بالقتل. رتبة العميل 007 هي تصريح واضح لـ حاملها أن اذهب في الأرض واقتل من تشاء في سبيل تحقيق أهدافنا. وإذا بالسحر ينقلب على الساحر ويجد العميل 007 نفسه يختار طواعية الموت في سبيل أكثر الأسباب إنسانية، لحظة! هل علينا الآن أن نقفَ مملوئين بالحماس والتأثر ونصفق بحرارة؟  

العميل 007 من قمة الذكورية لقمة التضحية

سواء مهتم بالقضايا النسوية أم لا، فستكون على ألفة بمصطلح «ذكوري» بسبب تكرار وجوده في كل مكان. وعلى مستوى الأعمال الفنية، وبسبب تجاهل تلك القضايا لفترات طويلة، ستجد في كل عمل تقريبًا إشارة للقضية النسوية، بالإضافة للمثلية الجنسية والعنصرية ضد أصحاب البشرة السمراء. وهو ما يطلق عليه الصوابية السياسية، التي لا يمكن بأي شكل إنكار أنها مقحمة بشكل مبالغ فيه. ولو بحث صناع الأعمال عن أكثر الأعمال التي تحتاج لتغيير الخطاب الذكوري بها فسلسلة أفلام جيمس بوند- james bond ستكون على رأس القائمة بكل تأكيد.

بدأت سلسلة جيمس بوند كأعمال أدبية في الخمسينيات بواسطة الكاتب إيان فلمنغ- Ian Fleming، ثم تحولت لأعمال سينمائية، تعاقب على أدائها سبعة ممثلين آخرهم دانيال كريج-Daniel Craig، ليكون فيلم لا وقت للموت- No Time To Die هو خاتمة خماسية من بطولته.

وعلى مدار خمسة وعشرين فيلمًا، تُقَدِم شخصية بوند العميل 007 ذا القدرات الخارقة والصلاحيات الكبيرة كنموذج حي على “الشخصية الذكورية” بكل سماتها؛ تتمحورَ الأحداث حوله، الكمال المزيف، الغرور، عدم الاكتراث للآخرين ومشاعرهم، وأخيرًا والأهم، استخدام واستغلال النساء في غاياته الجنسية والعملية وحتى على مستوى المشاعر.

فنجد في خمسة وعشرين فيلمًا بوند هو البطل الوسيم، القوي، بارد المشاعر، صاحب رخصة القتل الفوري وعلى هامش قصته هناك فتاة بوند، ذات المعايير الجمالية الخارقة، القوة البدنية والرشاقة وبالطبع الهيام في حب بوند والاستعداد التام للتضحية بحياتها في سبيل نجاته. أما عن الفيلم السادس والعشرين والأخير تتغير شخصية بوند تغيرًا جذريًا من قمة الأنانية لقمة الإيثار.

الحديث عن الآثار السلبية التي نتجت عن صورة المرأة في أعمال جيمس بوند وما يشابهها قد يستغرق مجلدات، يكفي فقط توضيح آثار تنميط صورة الجمال الأنثوي في شكل واحد وما ينتج عنه من رغبة في الكمال تطارد النساء دومًا حتى تصنف السلسلة في أعلى قائمة الأفلام المسيئة للمرأة. ولكن ليس هذا هو المنوط به الحديث الآن، هيا نأخذ جولة في الثوب الجديد الذي تحاول أعمال جيمس بوند ارتداءها، ثوب النسوية.

لا تضغط على القضية بشكل مبالغ فيه، قد لا تُحمد عواقب ذلك

بعد تقاعد بوند، ومحاولاته في بدء حياة هادئة مع حبيبته مادلين- Madeleine، يذهب لقب العميل 007 للعميلة نومي- Nomi التي تقوم بدورها الممثلة لاشانا لينش- Lashana Lynch صاحبة أسوأ أداء حركي في الفيلم بلا شك. وعن شخصية نومي فتتسم بنفس سمات بوند «الذكورية» من غرور وتكبر وما إلى ذلك، بالإضافة لكره غير مبرر لبوند ومحاولات مستميتة لمنافسته والتغلب عليه وإذلاله. ومع أول مواجهة حركية بينهما تغلب عليها بوند، بالرغم من أنها من المفترض أن تكون أصغر سنًا منه وأكثر لياقة بدنية، كما أنه معتزل للعمل لمدة خمس سنوات، ومع ذلك يفوز الذكر بوند بكل تأكيد. ولكن يمكن تبرير ذلك على أنه الحدث الدرامي المناسب للحبكة، ولكن أشد ما يثير الضحك هو تنازلها في النهاية عن لقب 007 لصالح بوند في مشهد من المفترض أن يكون مؤثرًا! تنازل عن اللقب بلا أي سبب واضح، يشبه أسباب اختيار العميلة نومي بالأخص لتكون العميل 007 الجديد المبهم.

على جانب آخر، قدم الفيلم شخصية نسائية ممتازة، عملية للغاية، تجيد عملها بمهارة، متفوقة وتسعى لإثبات نفسها وهي العميلة بالوما- Paloma تؤديها آنا دي أرماس- Ana de Armas التي تميزت بأداء حركي يساوي أداء بوند نفسه في الخفة والدقة وما إلى ذلك من مكونات مشاهد الحركة. ففي فصل لا يتعدى مدته ربع الساعة قدمت لنا بالوما أداءً رائعًا، كما لقنت بواقي شخصية بوند الذكورية درسًا مهمًا؛ وهو أن هناك علاقات كثيرة يمكن أن تكون بين الرجل والمرأة غير العلاقات الجنسية، ومنها علاقات العمل المهنية فقط، وهو أمر افتقدته أفلام بوند السابقة.

الشخصية النسائية الثالثة في الفيلم هي حبيبة بوند الدكتورة مادلين، الوحيدة التي نجحت في التواصل معه في الجزء السابق طيف- Spectre. وكعادة بوند يتخلى عنها مع تسلل أول شعاع من أشعة الشك في نفسه في خيانتها له، دون الاكتراث لكل الدموع والتوسل من جانبها، لتكون تلك نقطة محورية مهمة في تطور شخصية بوند وتضحيته الكبيرة في النهاية، وكأنه يحاول التكفير عن هذا الذنب وأشباهه من الماضي.

الضغط المبالغ به على العمل الفني ليناسب قضية معينة يفسده، «لي ذراع» العمل بكل الطرق حتى يناقش قضية بكل الطرق الممكنة يجعل منه مسخة، بل يتحول لسلاح ضد القضية نفسها ويخرج الجميع من تلك اللعبة خاسرًا. الخط الدرامي الخاص بالعميلة 007 الجديدة مبالغ به، ولم يُفد لا القضية ولا العمل بأي شكل. في نفس الوقت الخط الدرامي الخاص بتطور شخصية بوند الذكورية لشخص ناضج يختار الآخرين على حساب نفسه كفيل بمناقشة ومعالجة القضية بشكل جيد وكافٍ.

تركتها تحترق
أنت لم تعد اهتمامي
وجوه من ماضيّ تعود
درس آخر لأتعلمه
أنني وقعت في كذبة
جزء من أغنية «لا وقت للموت» لبيلي إيليش.

هناك دائمًا وقت مناسب للموت، المهم هو غايتك من ذلك.

في أواخر القرن التاسع عشر، وعندما صرح نيتشه بجملته الشهيرة «مات الإله، ونحن من قتلناه»، لم يكن الغرض منها الإعلان عن أفكاره الدينية الملحدة تجاه الخالق نفسه، ولكنها كناية عن انهيار المركزية الدينية والسياسية والاجتماعية للكنيسة الحاكمة في أوروبا في ذلك الوقت. فكان موت السلطة الدينية، هو بدء عصر جديد يحكمه التفكير العلمي وقوانين العلم التجريبية التي أدت بشكل أو بآخر لتقدم المجتمع الأوروبي.

وعلى نفس المنوال موت جيمس بوند/ العميل 007 الذكوري في سبيل إنقاذ حياة ماتيلد- Mathilde، حاملة جيناته في حمضها النووي- DNA، من خطر قربه منها المؤدي لموتها، قد يكون سببًا في ميلاد بوند/ 007 جديد يحمل أفكارًا تناسب عصره، عصر تجني به الحركة النسوية ثمار مجهودات أكثر من قرن من الزمن.

فبعد تاريخ طويل -يمتد لخمسة وعشرين فيلمًا- من الأنانية التي يتسم بها بوند وسماحه للأخريات بالموت في سبيل إنقاذه، يكون موته في سبيل إنقاذ فتاته هو تحقيق للعدل بشكل أو بآخر، يعد ذلك نهاية منطقية مثالية لرحلة بطل قُدم على مدار خمسة أفلام وفي النهاية أُجبر على التطور بهذا الشكل. وأخيرًا، ماذا ينتظر الجمهور من السلسلة؟ هل يريد المشاهد رؤية «بوند» جديد أم «007» جديد؟

يجب أن تلعب النساء أدوارًا تكتب من أجلهن، وليس تمثيلهن أدوار الذكور، يجب أن يكون هناك ببساطة أدوار أفضل للنساء.
دانيال كريج في تصريح له مع مجلة «راديو تايمز»

هذا التصريح هو نموذج جيد للغاية على الأفكار الذكورية في مجال العمل بالنسبة للسيدات، يشبه كثيرًا جملاً من نوعية «لماذا تريدين أن تعملي في مجال الميكانيكا؟ مهنة المعلمة جيدة بالنسبة لكِ». يمكن لأي شخص العمل في أي مجال يريده طالما هو مؤهل له، كما يمكن لأي عمل فني أيًا كان أن يقدم بأي معالجة ممكنة، طالما هناك إعداد درامي مناسب ومبرر لهذا الإعداد من خلال فكرة معينة يريد العمل مناقشتها.

مثلاً قدم من قبل باليه «بحيرة البجع» نسخة تتكون فيها مجموعة البجع بأكملها من راقصين ذكور فقط، تدور حول أمير مثلي الجنسية يقع في حب الذكر زعيم مجموعة البجع. عودة لكريج الذي أضاف ساخرًا مستكملاً حديثه:

«أنا عارٍ طوال الوقت وطوال فترة تصوير الفيلم، ولا ينبغي أن تقوم بتلك الأدوار ممثلة».

لا تقلق عزيزي كريج، يمكن عمل إعداد درامي لـ «بوند» بنسخة أنثوية ذات سمات بدنية وعقلية مبهرة لا تجبرنا على استخدام جسدها كسلعة ترويجية لها، كما أنها بالتأكيد ستكون مناسبة لأفكار العقد الثاني من القرن الحادي والعشرين التي تحاول احترام المرأة وعدم تسليعها. وسواء كانت مخططات الشركة المنتجة في تقديم «بوند» جديد أو «007» جديد، في شكل امرأة أو ذكر، فبالتأكيد يمكن تقديم ذلك بشكل مبدع من خلال سيناريوهات متقنة.