لا شك أن صدور روايةٍ جديدة للروائية التي أطلقوا عليها عن جدارةٍ واستحقاق لقب «شهرزاد أمريكا اللاتينية» يمثّل حدثًا أدبيًا فارقًا، يترقبه العديد من محبي كتابتها ومتابعيها ليس في لغتها الأصلية الإسبانية فحسب، بل ومالها من جمهورٍ عربيٍ كبير، من هنا لم يكن غريبًا ما لاقته رواية «إيزابيل الليندي» الجديدة «العاشق الياباني» الصادرة مؤخرًا عن دار الآداب من حفاوةٍ واهتمام، لاسيما أن نسختها الإنجليزية كانت قد صدرت منذ عامين فقط 2015.

عُرفت «إيزابيل الليندي» منذ فترة مبكرة بوصفها واحدة من أهم الروائيات في أمريكيا اللاتينية (تشيلي) تحديدًا، وذاع صيت ثلاثيتها الروائية «بيت الأرواح»، و«صورة عتيقة»، و«ابنة الحظ» بشكلٍ خاص، كما كانت سيرتها الذاتية التي كتبت تفاصيل منها وهي ترثي ابنتها «باولا» أثناء مرض وفاتها من أكثر السير الذاتية التي نالت إعجاب القرّاء والنقّاد على حدٍ سواء، كل ذلك جعل اسم «الليندي» مرشحًا لنيل جائزة نوبل أكثر من مرة.

في روايتها الجديدة تحكي «الليندي» بطريقتها الخاصة جدًا، وتفاصيلها الروائية الدقيقة عالمًا مختلفًا ممتدًا في الزمان والمكان، رغم أنه يبدأ وينتهي عند مصحةٍ «لارك هاوس» للمسنين، وبين عددٍ محددٍ من الأبطال، إلا أنها تدور مع قارئها في تاريخ شخصياتها الفريدة التي يحمل كل واحدٍ منهم حكاية ومأساة وتفاصيل ثريةّ خاصة به، وتجمع خيوط كل هؤلاء لتصب في النهاية وتعود بهم مرة أخرى إلى «لارك هاوس» بين يدي البطلة الشابة التي لا تزال تتعرف على العالم من خلال معايشتها للعواجيز وكبار السن ونستكشف عالمها الخاص الذي تحاول أن تخفيه من جهةٍ أخرى!.

ربما تبدو الرواية للقارئ من الوهلة الأولى ليست أكثر من قصة حبٍ فريدة، لاسيما أن حمل عنوانها اسم «العاشق الياباني»، ولكنه ما إن يدخل إلى عالم الرواية حتى يفاجأ بأنه وقع في شراك حكاية طويلة ومتشعبة لا تتوقف ولا تقتصر أبدًا عند ذلك العاشق، وإن بقيت قصته من أغرب وأجمل قصص الحب أيضًا.

ولكنَّ التفاصيل الكثيرة التي تأخذنا إليها «إيزابيل الليندي» بطريقتها المميزة في السرد تجعلنا متعاطفين ومتشوقين لكل أبطال العمل الذين تحكي حكاياتهم وكأنهم بالفعل «أبطال» لهذه الرواية، ولعلّ هذا ما يميز رواياتها بشكلٍ عام، إذ نجد لديها قدرة خاصة على الكتابة عن نفسيات وشعور أبطالها، وانتقاء المواقف والأحداث المؤثرة في حياتهم التي تجعل القارئ كأنه يشاهدها أمامه ويتعلّق بها.

تأتي رواية «العاشق الياباني» بدايةً من خلال البطلة الشابة «إيرينا باثلي» التي تتوجّه للعمل في «لارك هاوس» أحد المصحات الكبرى لإيواء كبار السن والعجزة، والتي سرعان ما تتأقلم مع وضعها الجديد معهم وتحب مشاركتهم تفاصيلهم اليومية، وتشعر بقيمةٍ كبيرة للدور الذي تؤديه هناك:

كانت تتعامل مع مشاكلهم بمزاجٍ في منتهى الروعة، ولا يزعجها أن تكرر ألف مرةٍ الجواب نفسه عن نفس السؤال، وكانت تحب دفع الكراسي المتحرّكة وإذكاء الحماسة، والمساعدة، والمواساة، تعلّمت كيف تتفادى نوبات العنف التي كانت تنتابهم أحيانًا كعواصف موسميّة. ولم تعد تخشى البخل أو العادات الغريبة التي كانت تلاحق البعض نتيجة الإحساس بالوحدة، كانت تحاول أن تفهم معنى تحمّل وطأة فصل الشتاء على عضلات ظهورهم، وأن تتفهم الخوف من كل خطوةٍ يخطونها، وأن تمحص الغموض حيال الكلمات التي لم يسمعوها جيدًا.. باتت تدرك كذلك معنى الفراغ والوهن والتعب، وتجاهل كل ما لا يعنيهم حتى أبناؤهم وأحفادهم الذين غابت صورهم عن الذاكرة لم يعد غيابهم مصدر قلقٍ كما كان الأمر من قبل.

لكنّ الرواية لا تدور حول كبار السن والعجزة بشكلٍ عام فحسب، ولا تستعرض قصصهم وحكاياتهم بشكل سطحيّ أو عابر، بل تتوقف «الليندي» عند نموذجٍ بعينه؛ هو السيدة «ألما بيلاسكو» التي تطلب من «إيرينا» العمل عندها كسكرتيرة خاصة وتبدأ معها مرحلة جديدة في حياتها، وتكشف لها عن قصة حبها الفريدة لذلك العشيق الياباني «إيشيمي فوكودا» والذي ارتبطت به منذ صغرها، وحالت بينهما الأحداث الحرب والأحداث المفجعة التي مروا بها، إلا أنهما لا يزالان على العهد!.

تعود «الليندي» في روايتها بالقارئ إلى تاريخ أبطالها وإلى أيامٍ عصيبة عاشوها في الحرب العالمية الثانية بدءًا من نزوح الفتاة الصغيرة «إلما» وتركها لعائلتها «البولندية» خوفًا من اعتقالها أو إيذائها والذهاب إلى خالتها في «سان فرانسيسكو»، وصولاً إلى ما ذاقه اليابانيون المقيمون في أمريكا من ويلات أثناء الحرب، حيث جرى إيداعهم في معتقلات قاسية أنشأها الأمريكيون لليابانيين هناك، وعاشوا أيامًا بين الألم والجوع والإهانة.

بين كل تلك المآسي والأحداث الجسام تستخلص تأتي قصة الحب الاستثنائية التي قامت على المراسلات، واستطاعت أن تصمد مع مرور الزمن، وهي بين هذا وذاك تعرض الرواية طرفًا من التاريخ الإنساني أيام الحرب، ذلك التاريخ الذي ينبغي ألا يُنسى.

اعترت مراسلات «إيشيمي» «وإلما» منذ البداية صعوباتٌ جمّة، كانت الرسائل تتأخر لأسابيع طوال، لا بسبب البريد، بل بسبب مماطلة موظفي “طوباز” العاجزين عن قراءة مئات الرسائل التي ترد يوميًا إلى مكاتبهم، لم ينهل مقص الرقابة على رسائل “إلما” التي لم تهدد مضامينها أمن الولايات المتحدة الأمريكية وسلامتها، خلافًا لمراسلات “إيشيمي” التي خضعت لعمليات بترٍ كبيرة، وبات على “إلما” أن تتكهّن معنى الجمل المشطوبة بالحبر الأسود، كانت عبارات وصف الوحدات السكنية، والأكل والمراحيض ومعاملة الحرس، بل الطقس أيضًا محط شك المخفرين، أراد “إيشيمي” أن يتّبع نصيحة المتمرسين في الغش والخداع، فراح يطعّم رسائله بعبارات المدح للأمريكان وجمل الحماسة الوطني، ولكنه أصيب بالغثيان فتخلّى عن هذه الطريقة في الكتابة وجنح إلى الرسم.

ربما يستوقف القارئ العربي -على وجه الخصوص- كون بطلة الرواية «إلما بيلاسكو» هذه المرة «يهودية»، رغم أن الإشارة إلى يهوديتها تأتي عابرة في سياق الحكاية عمّا فعله «هتلر» باليهود أيام الحرب العالمية الثانية، تلك الحكاية الملتبسة أصلاً، لكن «الليندي» لا تتوقف كثيرًا عندها وعند تفاصيلها إلا من حيث انتقال أسرة البطلة من بلادها إلى «أمريكا».

وتشير الليندي في حوارٍ لها إلى أنها استوحت الرواية في الأصل من صديقة والدتها وكانت امرأة يهودية في الثمانين من عمرها ربطتها علاقة قويّة بابن أحد المهاجرين اليابانيين في أمريكا، ولهذا قررت أن تكتب عنهم، وتفترض أن تلك العلاقة هي علاقة حبٍ من نوع خاص تنسج عليها حكاياتها.

لاشك أيضًا أن القارئ سيتعثر بلغة هذه الرواية بشكل خاص، لا سيما إذا كان قد اعتاد على ترجمات المترجم المحترف «صالح علماني» الذي ينقل النص بلغته وتفاصيله وروحه إلى عربيةٍ سهلة وقريبة، إذ يبدو الفرق واضحًا في هذه الترجمة، التي ترجمتها المغربية «سناء الشعيري» إذ سيجد عباراتٍ غريبة من قبيل «هذا النوع من الرسميات الأولى، التي سيلفها الحنان لاحقًا بدثارٍ من الفكاهة، سيطبع دائمًا علاقتهما الطويلة»، أو «الفارق بينهما أنها لم تفتح المجال لمغبّة التبحلق في المرآة بغية البحث عن العيوب»، أو أن تصف القصف الجوي فتقول «طائرات تسقي الأرض بقنابل تهوي بأناقة مقرفة»، وغيرها من العبارات والجمل التي ربما تكون كحجرة عثرة سيقابل القارئ الكثير منها، ولكنه سيواصل بلا شك لكي يستمتع بالرواية وعالمها الثري.

تجدر الإشارة في النهاية إلى أن «إيزابيل الليندي» التي تبلغ الخامسة والسبعين من عمرها وتكتب روايتها بكل ما تنضح به من مشاعر وتفاصيل دقيقة وشيّقة، تصرّح دائمًا أنها ليست بعيدةً عن التراث العربي، بل لطالما ألهمتها الحكايات التي قرأتها في مراهقتها من كتاب «ألف ليلة وليلة» وكانت محفزها الأساسي في الكتابة الروائية فيما بعد.