تعتبر منطقة الشرق الأوسط من أكثر المناطق الجاذبة لتجارة الأسلحة ومواد تصنيعها، سواء على مستوى الدول أو الجماعات المسلحة (من دون الدولة)، وهي كذاك تحوي كافة تداول الأسلحة؛ بدايةً من صفقات التسليح مع القوى الدولية، وصولاً إلى عمليات التهريب والتعامل في السوق السوداء.

زاد الحديث عن شبكات بيع الأسلحة وتداولها مع حالة الفوضى التي سادت في بعض بقاع المنطقة بعد انطلاق موجات الربيع العربي، ولكن خرجت الأمور عن السيطرة تماماً مع صعود تنظيم داعش، ومحاولة تأسيس دولته المزعومة في سوريا والعراق. حيث كان من اللافت قدرة التنظيم الإنتاجية الكيبرة للأسلحة المرتجلة والعبوات الناسفة مقارنة بأي جماعة مسلحة أخرى، وقد اتضح أنه لم يعتمد على شراء الأسلحة التي يستخدمها فقط، وإنما اعتمد على الشراء بالجملة للسلع والمواد الخام من خلال سلاسل توريد دولية.

لذلك اتجهت «مؤسسة أبحاث التسليح أثناء الصراعات» CAR، إلى تقصي شبكات تسليح داعش في تحقيق ودراسة استمرت لـ 18 شهراً، وكان نتائجها ذلك التقرير الذي صدر في ديسمبر/كانون الأول 2020، تحت عنوان: «شبكات الإمداد وراء برامج الأسلحة المحسنة للدولة الإسلامية».

حاول هذا التقرير كشف ملابسات تهريب المواد الخام والأدوات التي استخدمها تنظيم داعش في صناعة الأسلحة والقنابل والصواريخ، ويسلط الضوء على قدرة العائلات في المناطق الحدودية بين سوريا وتركيا على تسهيل شراء تلك الأدوات والمواد ونقلها عبر الحدود السورية إلى تنظيم الدولة.

منهجية البحث والهدف منه

تعتبر «مؤسسة أبحاث التسليح أثناء الصراعات» CAR، جهة مستقلة ومقرها في المملكة المتحدة، وتسعى بالبحث والاستقصاء أثناء النزاعات لمعرفة الأسلحة والذخيرة والمواد ذات الصلة غير المشروعة في المواقع المتأثرة بالنزاع وتتبع مصادر الإمداد الخاصة بها. وتقوم فرق التفتيش الخاصة بها بتوثيق ما تصل إليه من أنواع الأسلحة والمواد من خلال مواقف عدة مثل استعادة قوات أمن الدولة لها، أو بعد استسلام القوات المتمردة عند توقف النزاع، أو العثور عليها مخبأة، أو في حوزة قوات غير القوات المتمردة.

تقوم فرق التفتيش -بشكل رسمي- بتتبع مسارات الأسلحة لتصل إلى المصدر، وذلك من خلال تحليل الأدلة المادية التي تم جمعها من الأسلحة نفسها ومن العتاد ذي الصلة؛ الحصول على المستندات الحكومية والتجارية والنقل وغيرها من المستندات؛ وإجراء مقابلات مع الأفراد الذين لديهم معرفة أو خبرة في عمليات نقل المعدات الخاضعة للفحص.

استهدفت التحقيقات أمرين:

  • الأول: الكشف عن كيفية عمل شبكات شراء نظم المعلومات، وبالتالي المساعدة في تحديد ما يُسمى بـ «نقاط الاختناق» والتي تتمثل في شبكات التوريد التي قد تكون عُرضة للاضطراب في المستقبل.
  • الثاني: لتحديد الكيفية التي يتم بها شراء نظم المعلومات للموردين الذين لا يعلمون المقصد من شرائها، من أجل مساعدة المُصنِّعين والموزعين ومقدمي الخدمات على تحديد المؤشرات لتكون بمثابة «علامات حمراء» لتنذرهم بوجود مشتريات مشبوهة.

ركزت التحقيقات على مجموعة سلع رئيسية، وهي:

  • الأسمدة القائمة على النترات، وتُستخدم لإنتاج المتفجرات محلية الصنع HME.
  • عجينة الألومنيوم، وتُستخدم أيضاً لإنتاج HME.
  • السوربيتول، الذي يُستخدم لإنتاج وقود الصواريخ.
  • الطائرات بدون طيار التجارية، التي استخدمتها عناصر داعش بأعداد كبيرة للمراقبة والتوجيه الناري غير المباشر ولتوصيل العبوات الناسفة الصغيرة.
  • مجموعة من العناصر التي تم شراؤها لتطوير أو تصنيع الطائرات بدون طيار المتخصصة ومنصات الأسلحة ذات الصلة، بما في ذلك المحركات وتصميمات المكونات والأنظمة البصرية والبرامج المخصصة.

نقاط الاختناق

تشير التحقيقات والملاحقات القضائية السابقة إلى أن عناصر داعش استخدمت أفراداً وشركات مقرها في إسبانيا وسوريا وتركيا والمملكة المتحدة لأداء هذه المهام. وتتطلب عمليات الشراء عبر الحدود، بالحجم والكفاءة الملحوظة في إنتاج أسلحة قوات داعش، أفراداً يعملون في شبكات تعاونية، قادرين على:

  1. إجراء عمليات شراء متكررة أو بالجملة.
  2. تشغيل شركات مسجلة أو كيانات قانونية أخرى لمواجهة عمليات الشراء والمدفوعات الكبيرة.
  3. ترتيب الخدمات اللوجستية لتسليم البضائع إلى الأراضي التي يسيطر عليها تنظيم داعش.
  4. نقل الأموال من خلال التحويلات المصرفية أو أنظمة الدفع عبر الإنترنت.

في بداية عمليات البحث والتقصي اتخذت خيوط توريد تلك المواد شكل السلاسل ذات الاتجاه الواحد، حيث تظهر الأفراد والشركات الموَزعة والمستوردة غير متصلة، وما إن انتهى البحث حتى يتبين أن تلك السلاسل متشابكة إلى حد كبير، تبدأ من مدينة «أكشاكالي» الحدودية التركية ومدينة «شانلي أورفا»، وتنتهي عند مدينة «تل أبيض» الحدودية السورية.

سلاسل توريد مواد تصنيع الأسلحة لـ داعش
سلاسل توريد مواد تصنيع الأسلحة لـ داعش.

كشف التقصي عن أن الموزعين ومنْ يشترون تلك المواد لحساب تنظيم داعش لم يكونوا بالضرورة على علم بالجهة التي تنتهي إليها تلك المواد الخام، حيث تتم عملية الشراء من الموزعين وتذهب إلى أفراد بالقرب من الحدود الرئيسية للمعابر، وهناك يتم تجميع تلك المواد على الأراضي التركية وإرسالها عبر الحدود السورية. وأظهرت التحقيقات تورط عائلة واحدة في مدينة «شانلي أورفا» لكونها إحدى نقاط الالتقاء، سواء من خلال شراء المواد الخام (كعجينة الألومنيوم ومكونات الطائرات بدون طيار ومعدات المراقبة) أو المرسل إليه.

أولاً: معجون الألومنيوم ومكونات الطائرات بدون طيار

كشفت فرق التحقيق الميداني التابعة لجمعية مكافحة الإرهاب أكثر من 100 برميل من عجينة الألومنيوم الورقية المصنوعة في الصين، وذلك منذ 2015 وحتى 2017، وقد عثروا عليها في 6 مواقع منفصلة لإنتاج المتفجرات أنشأتها قوات داعش في العراق. والجدير بالذكر أن تلك المادة تُستخدم بالأساس في الدهانات والطلاءات الواقية.

حملت جميع البراميل ملصقات تشير إلى قيام موزع كيميائي واحد في إسطنبول ببيعها. وكان المشتري شركة تسمى Tevhid Bilişim مُسجلة بأن نشاطها التجاري يقتصر على استيراد وتصدير الهواتف المحمولة ومقرها في مدينة «شانلي أورفاء».

لم تقتصر الشركة التركية على شراء معجون الألومنيوم، وإنما كانت تستقبل واردات من الإلكترونيات وأجهزة تكنولوجية كأحد مكونات الطائرات وبدون طيار ومعدات مراقبة مضادة من موزع ألماني دون أن تدفع ثمنها، حيث كان الدفع من خلال الإنترنت باستخدام حسابات مصرفية شقيق شخص يُدعى «سيف الحق سوجان»، وكان لديه شركة بريطانية Ibacstel Electronics مقرها في المملكة المتحدة ولها فرع في إسبانيا، وثَبُت بعد ذلك انتماء «سيف الحق» لداعش حيث سافر إلى «الرقة» في 2014 وأعلن سلاح الجو الأمريكي مقتله في ديسمبر 2015.

الجدير بالذكر أن مالك الشركة التركية واثنين من إخوته هم منْ يديرون الشركة، وقد تم عرضهم للمحاكمة وحل الشركة في أكتوبر/تشرين الأول 2019.

ثانياً: الأسمدة والسوربيتول

رغم عدم وجود دليل لدى «مؤسسة أبحاث التسليح أثناء الصراعات»، لكن من خلال بحثها كشفت وجود عائلة ثانية ساهمت في وصول أسمدة نترات الأمونيوم والسوريبيتول التي تم استخدامها في إنتاج المتفجرات ووقود الدفع الصاروخي، حيث التقطت بعض الصور لسكان محليين يحملون مئات أكياس Vitagro33% وهي سماد نترات الأمونيوم من الجانب التركي إلى بلدة تل أبيض والتي كانت خاضعة لسيطرة داعش. وهو ما يُرجِّح انتماءهم لإحدى العائلات.

ما يدعم تورط عائلة أخرى بمدينة «شانلي أورفا» هو سجلات مبيعات الموزع، والتي تكشف أنماط بيع مثيرة للشكوك، فقد تم تسجيل أكثر من 2800 معاملة على سماد Vitagro33% من تلك المدينة، وقد كانت ذروتها في إبريل/نيسان 2015.

ويعتبر هذا النوع من الأسمدة جديدًا على السوق التركية، حيث تأسست الشركة صاحبة السماد في تركيا عام 2014 وبدأت المبيعات في فبراير/شباط 2015، وتعتبر الشركة جزءًا من مجموعة تجارية كبيرة مملوكة لأوكرانيا. ولم يدم استمرار الشركة في السوق التركي طويلاً فقد صفّت الشركة أعمالها في ديسمبر/كانون الأول 2018.

تركزت الجهات التي تشتري السماد في ثلاث شركات، الأولى شركة مُنتِجة ومُوزِعة للأسمدة ومقرها مدينة «شانلي أورفا»، ويمتلك الشركة شقيقان لعائلة تعيش في مقاطعة «سيفريك»، التي تبعد 50 كيلومترًا من «شانلي أورفا». وبعد وفاة أحد الإخوة انقسمت الشركة ليمتلك أولاد المتوفى شركة ثانية، كانت هي الأخرى تشتري سماد Vitagro33%. أما الشركة الثالثة فهي تابعة لتاجر تجزئة في «سيفريك»، ويمتلك الشقيقان أصحاب الشركة الثانية نسبة كبيرة فيها، وقد تم رصد علاقة على مواقع التواصل الاجتماعي بين المالك الأساسي للشركة الثالثة وشخص يقيم في «أقجة القلعة» -وهي معبر حدودي بين تركيا وسوريا- كان قد قام بتحويل مبلغ عبر حسابه المصرفي مقابل شراء مادة السوربيتول من فرنسا.

ثالثاً: تكنولوجيا أنظمة الأسلحة الجديدة

استخدمت داعش الطائرات بدون طيار في العراق وسوريا منذ عام 2016 بشكل كبير، واعتمدت تحديداً على الطائرات الصغيرة ذات الأجنحة الدوارة والتي تعمل بالكهرباء، وهي أداة متاحة حول العالم، وقد كان للطائرات الصينية أكبر نصيب من مجموعة الطائرات التي استخدمتها داعش.

اعتمدت إستراتيجية شراء تكنولوجيا الطائرات بدون طيار على مشتري التجزئة بعكس المواد الخام سابقة الذكر، وذلك بهدف تشتيت الانتباه عن عمليات الشراء، وعدم تتبعها. ولكن من خلال البحث والتقصي تم الكشف عن قيام شركة لبنانية بتوزيع شحنة من الطائرات بدون طيار ومعدات إلكترونية لشركة عراقية مقرها بغداد. وتعبتر الشركة اللبنانية وصاحبها ضمن المرصودين من قبل وزارة الخزانة الأمريكية وذلك كونها وكيل مشتريات لحزب الله. وكذلك أظهر التقصي استيراد شركة صغيرة مقرها دبي ويملكها شخص إماراتي باستيراد طائرات بدون طيار من موزع بدولة سنغافورة، وقد تم رصد تلك الطائرات في مدينة الموصل.

بخلاف تكنولوجيا الطائرات بدون طيار سعى فنيو داعش إلى بناء وتطوير نظام تتبع جوي بصري ليكون نظامًا آليًا مضادًا للطائرات. وللحصول على تلك الأنظمة قامت شركة مقرها المملكة المتحدة باستيراد عقود لبرامج وأجهزة رؤية مجهزة بكاميرات عالية المواصفات ووحدات تحكم وحركة من أمريكا الشمالية وآسيا، زاعمة أن الهدف منها اكتشاف الأجسام الطائرة وتسجيل المواقع في كندا، واستبعدت الشركة فكرة التحويل المصرفي لدفع الأموال لعدم تتبعها، حيث لجأت إلى تحويل دفعة منها إلى الشركات الموردة من حساب مصرفي تركي لشركة غير مرتبطة بالشركة المستوردة ويقع مقرها بالقرب من معبر «كركاميش» الحدودي بين سوريا وتركيا، والتي قد أنشئت قبل 5 شهور من إتمام عملية الشراء.

النقاط الحمراء

تشير سلاسل التوريد العابرة للحدود إلى مناطق من سوريا، بما في ذلك التي سمحت بدخول المواد الإلكترونية، إلى وجود نقاط شديدة الوضوح تتلاقى فيها حلقات تلك السلاسل، والتي أظهرتها طلبات المنتجات من مواد كيميائية وإلكترونية، فضلاً عن الطرق المستخدمة للدفع مقابل الحصول على تلك المنتجات، من حسابات مصرفية غير مرتبطة بالشركات المستوردة، ووصولاً إلى انتحال شخصيات واستخدام بريد إلكتروني وهمي لضمان عدم تتبع خط سير المواد التكنولوجية إلى تركيا، ومن ثَمَّ تهريبها إلى داعش.

تُوضِّح حركة المواد المهربة وجود مجموعات صغيرة من الأفراد والشركات المرتبطة بروابط أسرية، وتحديداً في تركيا والمملكة المتحدة، حيث تعتبر حلقات الوصل في سلاسل توريد المواد التي تصل إلى داعش، وبقدر ما تعتبر نقاط تسهيل تَوَصُّل تلك المواد إلا أنها تعتبر نقاط ضعف بسبب تشابكها وارتباطها وهو ما يكشفها بسهولة في حالة رصد السلطات لها. ويكشف التقصي والبحث عن استمرار أنشطة بعض من هذه المجموعات والشركات، وذلك مع زيادة نشاط الخلايا المتبقية من داعش في العراق وسوريا.

ختاماً، يكشف التقرير عن مدى قدرة تنظيم داعش وهو في ذروة قوته على تجنيد كافة المصادر المتاحة خارج حدوده ومساهمتها في تطوير منظومته التسليحية وتحسينها، واستغلال المدن الحدودية في تسهيل وصول كافة المواد المطلوبة لتحسين تلك المنظومة. الأمر الذي يدفع بضرورة استغلال التقرير في إرشاد القطاع الخاص من الموزعين والموردين للمواد والتكنولوجيا التي قد تُستخَدم في تسليح التنظيمات المسلحة، حول آليات التأكد من استخدام تلك المواد في الأمور المُخصصة لها.