تكتسي مسألة التمايز بين الدعوي والسياسي في تجربة الحركات الإسلامية أهمية بالغة؛ بالنظر إلى أنها شكلت دائمًا تحديًا داخليًا و«فزاعة» يرفعها خصومها كلما اكتسبت زخمًا في الشارع وشرعية من صناديق الاقتراع.

وتعيش الحركات الإسلامية في الآونة الأخيرة نقاشات داخلية عميقة تنصب في مجملها حول تجاوز طبيعة العمل الشمولية وإعادة النظر في العلاقة بين الدعوي والسياسي. وإذا كانت حركة النهضة في تونس أعلنت عن قرارها أخيرًا بالفصل بين «الدعوي والسياسي» فإن حركات إسلامية أخرى في كل من مصر والمغرب وليبيا والكويت والسنغال تعيش تحولات واهتزازات تتباين قوتها وحِدتها من قطر إلى آخر، إلا أنها تعبر في مجملها عن حالة يمكن وصفها بكون هذه الحركات نظرت في المرآة لتكتشف ماذا فعل الزمن وتطورات الأحداث بجسدها وفكرها ومنهجها وتجربتها في الحياة.

في ظل هذه التحولات، هل يمكن الحديث عن دخول الحركة الإسلامية في طور ثالث من تاريخها، بعد مرحلة التأسيس التي اتسمت بالشمولية ثم مرحلة تفويت التخصصات التي قادتها التجربة المغربية التي ظلت ملهمة من خلال تبني خيار التمايز بين الدعوي والسياسي؟

هل جاءت هذه المراجعات في إطار تطور طبيعي تَلاَقَح في خضمه التأصيل الفكري بالممارسة الميدانية للسياسة، وعلى أساس من مراجعات تصورية، أم أن الأمر لا يعدو أن يكون مجرد استجابة لضغوط مختلفة باختلاف القطر، منها الإكراه السياسي والضغوط الأمنية؟، وهل هذه المراجعات جوهرية وعميقة أم مجرد محاولة للتكيف مع الواقع بإجابات سطحية أملتها المرحلة لا غير؟

ومن جانب آخر، ألا تشكل هذه التحولات خطرًا على هوية هذه الحركات ومنظومتها الفكرية المبنية على المرجعية الدينية، وطبيعة وظيفة مشروعها الذي أسست عليه؟، ثم ألا تكون بذلك قد فتحت منفذًا نحو العلمنة التي كانت إحدى أكبر القضايا التي شكلت محور تدافعها الدعوي وصراعها السياسي؟


مخاض الإسلاميين

تعيش الحركات الإسلامية في عدد من الدول مخاضًا كبيرًا في سياق سياسي واجتماعي معقد أوجده ما يسمى بـ«الربيع العربي»، وتتواتر أنباء في أكثر من قطر عربي عن تحولات تجري على مستوى فكر وتصورات هذه الحركات التي تسعى إلى التكيف مع الوضع الجديد.

أولى تجليات المخاض هو التحول المفصلي الذي أعلنته حركة النهضة التونسية في مؤتمرها الوطني المنعقد في مايو/ أيار 2016، بإعلانها التخصص في العمل السياسي، وترك النشاط الدعوي للمنظمات المدنية، متجاوزة بذلك منطق الحركة الشمولية والتنظيم الموازي الذي بنته الحركة تحت اجتياح علماني واستبداد سياسي عرفته البلاد لعقود من الزمن.

تعيش الحركات الإسلامية مخاضًا كبيرًا، وتتواتر أنباء عن تحولات تجري على مستوى فكر وتصورات هذه الحركات التي تسعى إلى التكيف مع الوضع الجديد.

وفي مشهد آخر مغاير للتجربة التونسية، تتواتر أنباء عن تفكير على مستوى الحركة الإسلامية في ليبيا –بعد صيغة تأسيس حزب سياسي- في العمل على تحقيق تمايز عن السياسي بشكل كامل، حيث يجري النقاش بين إسلاميي ليبيا على إعادة صياغة تصور للجماعة يركز بالأساس على العمل الدعوي.

في مصر ورغم ضبابية المشهد بعد الانقلاب على الرئيس محمد مرسي، وتعرض الإسلاميين لحملة استئصالية غير مسبوقة، فإن جماعة الإخوان المسلمين تعيش مخاضًا فكريًا سواء كان مؤطرًا تحت تدبير هياكل الجماعة أو مجرد تحركات فردية لبعض القيادات الموجودة في الخارج، وما يؤكد وجود تحول هو بعض التصريحات الصادرة عن بعض قيادات الجماعة، مثل عمرو دراج مسؤول الملف السياسي بمكتب جماعة الإخوان المسلمين في الخارج الذي قال في حوار مع موقع (عربي 21) «إن الإخوان يتوجهون إلى فصل العمل الحزبي عن الدعوي … واللجنة الإدارية العليا تدرس هذا الأمر حاليًا بشكل عميق»[1].

وقبله كان جمال حشمت عضو مجلس شورى الجماعة قد أكد في مقابلة مع وكالة الأناضول التركية، عزم كل الأطراف داخل الجماعة على ضرورة «فصل الجانب الحزبي التنافسي عن الجانب الدعوي والتربوي»[2]، مشيرًا إلى أن هناك «سعيًا لمراجعات كبرى، لكنها تحتاج إلى وقت، وإرادة، وتقديم الشباب»[3].

في الكويت حيث حظيت المشاركة السياسية باهتماماتهم منذ مدة طويلة، أصبح الإسلاميون مقتنعين بشكل مبدئي بالتمييز بين العمل الدعوي والسياسي، خاصة أنهم قرروا عمليًا رفع كل التحفظات بشأن الفصل بين هذه الثنائية، ووصلوا بخطوات جريئة إلى أن الحزب (الحركة الدستورية الإسلامية) منفصل عن الجماعة (جمعية الإصلاح الاجتماعي)، وبذلك تجاوزت الحركة الإسلامية في الكويت حالة الوصاية على العمل السياسي، وكان من نتائج هذا التحول إصدار الحزب (حدس) موقفًا تاريخيًا بالعدول عن قرار مقاطعة الانتخابات الذي اتخذه قبل أربعة أعوام. وجاء في بيان للحزب الذي تأسس عام 1991 إنه توصل إلى «إعادة النظر في موقف المقاطعة باتجاه المشاركة من جديد في العملية الانتخابية»[4].

المخاض الذي تعيشه الحركات الإسلامية ليس محصورًا لدى تلك التي تنشط في العالم العربي، بل يتجاوزه إلى أفريقيا، حيث أسست جماعة عباد الرحمن في السنغال -حركة سنغالية تتبنى فكر جماعة الإخوان المسلمين، تأسست في أواخر سبعينيات القرن الماضي-، حزبًا سياسيًا تحت اسم تحالف الوطنيين من أجل العدالة والتضامن (A.P.J.S)[5]، برئاسة شيخ تيجان فال، وذلك بعد سنوات من رفضهم المشاركة السياسية المباشرة رغم النقاش الذي كان يثيره الشباب في أوساط الجماعة بهذا الشأن بين الفينة والأخرى.

ويستعد إسلاميو السنغال لمراجعة خياراتهم التي تخص ثنائية «الدعوي والسياسي» ويضعون تجربة إسلاميي المغرب تحت المجهر، كما تؤكده الزيارات المتبادلة بين قيادات الطرفين.

في المغرب حيث كانت حركة التوحيد والإصلاح سباقة إلى تقديم نموذج فريد في تدبير العلاقة بين الدعوي والسياسي منذ 20 عامًا، يعيش بيتها الداخلي في الآونة الأخيرة نقاشات عميقة بشأن علاقة الشراكة التي تجمعها مع حزب العدالة والتنمية التي اعتمدها مجلس شورى الحركة منذ 2004 لما كان الحزب في المعارضة، كما فتحت منذ أشهر ورش تعديل ميثاقها ورؤيتها السياسية.

وتبقى الحركة مطالبة بأن تبلور اجتهادات متقدمة في ثنائية الدعوي والسياسي كي تحافظ على ريادتها، رغم أن عبد الرحيم شيخي رئيسها يعتبر أن «نموذج الحركة في تدبير العلاقة بين الدعوي والسياسي لم يستنفذ أغراضه بعد، وأن الصيغة التي أبدعتها الحركة والمتمثلة في فلسفة التخصصات والتمايز بين الدعوي والسياسي والانتقال من التنظيم الجامع إلى التنظيم الرسالي لها رسوخ في المغرب»[6].


جدل الدعوي والسياسي

يثير المخاض الذي تعيشه الحركات الإسلامية تساؤلات كثيرة عن أسبابه ومآلاته، خاصة أنه يهم ثنائية «الدعوي-السياسي» التي تشكل تحديًا لقياس حرارة الاجتهاد والتطور في هذه التنظيمات. وقد خضعت العلاقة بين الدعوي والسياسي لدى الإسلاميين لمراحل من التطور حتى استقرت على أربعة أشكال؛ وهي: خيار الوصل التام والدمج الكامل بين الدعوي والسياسي كما تبنته الحركة الإسلامية في الجزائر، وخيار وصاية الجماعة الدعوية على الحزب السياسي كما هو الشأن في تجربة الإسلاميين في الأردن ومصر، وخيار وصاية الحزب السياسي على الحركة الدعوية كما حصل في تجربة السودان، وأخيرًا التمايز بين المجالين الدعوي والسياسي الذي تتبناه حركة التوحيد والإصلاح.

لكن أن تصل حركة إسلامية إلى درجة من الاجتهاد في ثنائية «الدعوي- السياسي»، يجعلها تعلن أن من يريد ممارسة السياسة يتجه إلى تأسيس حزب سياسي، ومن يريد الدعوة يتجه إلى إنشاء مؤسسات دعوية، يؤكد أننا إزاء نقطة مفصلية في تاريخ العمل الإسلامي، وإن كان البعض يقلل من هذه الخطوة، مثل القيادي الإسلامي الليبي، ونيس مبروك، الذي جاء في مقال له نُشر في صفحته على «فيسبوك» قبل انعقاد مؤتمر حركة النهضة التونسية:

إن ما حدث داخل أروقة حزب النهضة محاولة متأخرة للتخفف من أثقال تاريخية، أمام عقبة سياسية كؤود، وخصم سياسي لدود، وانحياز لغرس فسيلة تركية في تربة تونسية.
كما ورد فيه أن :
الفصل، أو التمييزُ بين الدَعَوي والسياسي في نشاط الحركة الإسلامية المعاصرة، هي مقاربةٌ تفردت الحركة الإسلامية في المغرب…، هناك خصوصية مغربية، وأعراف قُطرية وفّرَت لإسلاميي المغرب الأرضية المناسبة، لإرساء ذاك النموذج، والفضاء الأمثل لنمو هذه المقاربة دون تكلف ولا تعسف، والتغافل عن معرفة تلك الخصوصيات والأعراف خللُ بنيوي في منهجية الاجتهاد الحركي، بخاصة بين بلدين يقفان على طرفي النقيض في بعض تلكم الخصوصيات[7].

هذا التحول الذي يعيشه الإسلاميون اليوم بغض النظر عن تفاصيله وردود الأفعال بشأنه، مرشح إلى أن ينفتح على آفاق كبرى، خاصة أن دخول الحركات الإسلامية إلى معترك السياسة والمجتمع والثقافة والحقوق بعد الربيع العربي، حتم عليها شيئًا أكبر من التنظير من أجل امتلاك مشروع عملي واقعي تدخل به إلى ساحة التدافع السياسي مع الأحزاب الأخرى لتقدم حلولاً لمشاكل الناس الاجتماعية والسياسية والاقتصادي، بعد أن ساهم الاستبداد السياسي الذي كانت تعرفه المنطقة العربية قبل اندلاع الربيع العربي في تأخر اجتهاداتها، حيث كان يمنعها من أن يكون لها وجود فضلاً عن اضطلاعها بدور مجتمعي وسياسي معًا.

إذًا، هل يمكن القول إن الحركة الإسلامية تدخل في طور ثالث بعد مرحلة التأسيس التي تميزت بالشمولية ومرحلة الانفتاح وتفويت التخصصات التي قادتها التجربة المغربية -خيار التمايز بين الدعوي والسياسي- قبل 20 عامًا؟.

هذا التحول لا يتم استنادًا إلى نظرية وأطروحة متماسكة، كما أن أسئلته المركزية لا تزال على الهامش؛ مما يزكي فرضية ارتباطه بضغوطات الواقع.

واقع الحال يكشف أن الحركة الإسلامية تدخل تدريجيًا وشيئًا فشيئًا تجربة جديدة في عملها الإصلاحي، ولعل أوضح تعبير عن هذا الدخول هو الإحساس المتزايد بالحاجة الماسة إلى فصل الدعوي عن السياسي واستقلال كل منهما عن الآخر، حتى يضطلعا بالمهام المنوطة بهما ويجيبا عن مختلف التحديات المطروحة.

لكن ما يلاحظ من خلال الأوراق التصورية المعلنة لبعض الحركات أن هذا التحول لا يتم استنادًا إلى نظرية وأطروحة متماسكة، كما أن أسئلته المركزية لا تزال على الهامش؛ مما يزكي فرضية ارتباطه بضغوطات الواقع. وإذا أخذنا حركة النهضة التونسية كنموذج نجد أنها لم تستطع أن تعلن عن تفاصيل تنزيل قرارها بالفصل بين الدعوي والسياسي، وأعضاؤها منقسمون بين مؤيدين متحمسين، ومعارضين متوجسين.

وإذا تجاوزنا ما يقال عن تحديات الوضع الجديد للحركات الإسلامية، يمكن التأكيد على أن ما تقدم عليه من اجتهادات في «ثنائية الدعوي والسياسي» بغض النظر عن حدودها سيكون مفيدًا لها في تدبير مرحلة ما بعد الربيع العربي التي تعرف صراعًا بين إرادتي النكوص والتغيير، وتفرض الدخول لمعترك السياسة بأدوات السياسة، وتتطلب البحث عن المشترك والإيمان بقيم التعاون والاختلاف والتنازل لمصلحة الوطن.

ومن تأثيرات الفصل أو التمايز أن يمكن العمل الدعوي من أن يسير دون أن يخضع بشكل مباشر لتقلبات العمل السياسي أو إملاءاته أو إكراهاته، وأن يمضي العمل السياسي دون أن يُنافس بالعمل الدعوي.

وهنا تبرز تجربة الإسلاميين المغاربة الذين تبنوا مسألة التمايز بين الدعوي والسياسي منذ عقدين من الزمن، فحزب العدالة والتنمية الذي يقود الحكومة للمرة الثانية على التوالي يمارس السياسة بالسياسة ويقود تحالفات مع اليساريين والعلمانيين دون أن يكون في موقف ضعف، كما أن حركة التوحيد والإصلاح تقدم نفسها كجمعية مدنية وتهتم فقط بالدعوة والتربية والتكوين، وفي أحيان كثيرة أصدرت بيانات كغيرها من جمعيات المجتمع المدني تعبر فيها عن مواقفها من بعض القرارات الحكومية دون أن تخضع لضغوط، كما حصل –مثلاً- عند مصادقة حكومة العدالة والتنمية على البروتوكول الاختياري لاتفاقية القضاء على جميع أشكال التمييز ضد المرأة؛ سيداو.

وتأتي نقاط قوة التجربة المغربية في أن حركة التوحيد والإصلاح التي تأسست في 31 غشت 1996 تبنت وحدة المشروع عوض وحدة التنظيم، بتحولها من التنظيم الهرمي المحوري إلى التنظيم الرسالي عبر سياسة تفويت التخصصات المبنية على التفويض، الشراكة، التعاقد، المناولة، الشبكة والنسيج.

وعرفت الهيكلة التنظيمية للحركة طيلة مسارها تحولات كبرى تجلت في الاتجاه نحو اللامركزية.

وتجلى ذلك في الانتقال من «التنظيم الجماعة» إلى «التنظيم الرسالي»، حيث إن الحركة عرفت تحولات تنظيمية جوهرية تعكس خبرة تاريخية لمكوناتها، كان أهمها التحول إلى تنظيم رسالي منفتح على المجتمع، يسعى إلى توسيع دائرة التدين فيه والتأثير في مؤسساته المختلفة والتفاعل الإيجابي مع مكوناته بمنهج إصلاحي متدرج، من خلال إبداع أطروحة التخصصات.

وبذلك تحولت مجالات العمل في الحركة إلى شبه تنظيمات متخصصة قائمة الذات، ومستقلة عن بعضها تنظيمًا وقانونًا وقرارًا، في إطار وحدة المشروع بدل وحدة التنظيم، ومن تم أصبح كل مجال يؤطر عمله ضمن الأطر التنظيمية والقانونية المناسبة ويركز انشغاله على مجال محدد، لا يخرج عنه إلى غيره، وتربط هذه التنظيمات المتخصصة علاقة التعاون والتكامل فيما بينها، وكذا مع الحركة الأم. وتتفاوت درجة الارتباط والتنسيق أو التعاون حسب كل حالة وحسب كل مرحلة من مراحل بناء التخصص وتقدمه في بنائه الذاتي.

وتتنوع علاقة الحركة بالهيئات العاملة في المجالات المتخصصة بين علاقة التنسيق مع التخصصات، وعلاقة الشراكة الإستراتيجية مع الشركاء؛ كالعلاقة مع حزب العدالة والتنمية.

ويلخص المفكر الإسلامي سعد الدين العثماني والقيادي بحزب العدالة والتنمية المغربي علاقة التمايز، حسب مقال نشره على موقع «الجزيرة نت»، بالقول إن:

حركة التوحيد والإصلاح تمضي في طريقها وتنفيذ برامجها، ولا تتأثر سلبًا -على العموم
بالنشاط السياسي رغم حيويته وكثرة المعارك التي يخوضها حزب العدالة والتنمية باستمرار. وبذلك أضحى الجزء الأكبر من عمل حركة التوحيد والإصلاح مركزًا جهوده على العمل الدعوي والتربوي والتكويني[8].

الإسلاميون والعلمنة

رغم تحول بعض الحركات الإسلامية من التنظيم الشمولي إلى التنظيم الرسالي وسقوط وهم «البديل» خلال تجارب سياسية في بعض البلدان، والمراجعات التي حدثت في منهجها نحو التغيير المتدرج والمنفتح، فإنها ظلت في مجملها وفية لمبادئ تعتبر من أكبر مبررات وجودها، ويعود سبب ذلك إلى وجود ثلاث نقط التقاء بين الدعوي والسياسي:

– أولها: المرجعية الإسلامية ومصادرها من كتاب وسنة وفقه.

– ثانيها: الهدف، فقد ظل مطلب إقامة الدين على مستوى الفرد والمجتمع والدولة هدفًا ثابتًا وطموحًا، طبع خيارها وهويتها، وصاحب ذلك مسار تحولاتها الفكرية والمنهجية والتنظيمية، حتى في مراحل متقدمة من أدائها.

– وثالثها: التنظيم الذي يعتبر آلية تدبير الدعوي والسياسي وتنظيم أفراد المشروع والناشطين لتنفيذه؛ مما يجعل سؤال فصل الدعوي عن السياسي حساسًا ودقيقًا والإجابات العملية عنه قد تكون في غاية التعقيد.

هذا التعقيد يجد مبرره لأن اجتهاد الحركات الإسلامية لم يُطبخ على نار هادئة ويفتقد للتأصيل النظري ولا يستند لأطروحة متماسكة؛ مما يزكي فرضية أن ما تمر منه هذه الحركات ليس إلا محاولة للتكيف مع الواقع بحكم أن التجارب الإنسانية أثبتت أن الصدمات الفكرية أو السياسية لا تنتج مراجعات حقيقية يمكن التعويل عليها.

فغالبًا ما تكون تحولات بعض الحركات التغييرية في اتجاه التطرف في نقد الأفكار والتصورات القائمة، وأخرى قد تنسلخ من هويتها، بدعوى أنه التغيير المطلوب، وما هو في الحقيقة سوى هروب من الإجابة عن سؤال التغيير الحقيقي المبني على اجتهادات في المنظومة الفكرية وعلاقتها بالأصول.

وفي الوقت الذي يشكك فيه خصوم الإسلاميين في مدى صدقية التحولات التي شهدتها حركة النهضة التونسية –مثلاً- بفصل السياسي عن الدعوي، واعتبارهم هذا الفصل مجرد تقية وتكتيك سياسي، وإحداث واجهات وأذرع متكاملة لمشروع شمولي واحد، فإن أطرافًا أخرى من الداخل ترى في الفصل علمنة ونكوصًا عن فكرة «شمولية الإسلام» والتي تعني أن الإسلام منهج حياة ودين ودولة وعقيدة وعبادة.

إن العلمانية هي الفصل بين الدين والسياسة وليس الدعوة والسياسة، والفصل هنا تخصص يندرج كله ضمن الدعوة بمفهومها العام إذا ما مورس وفق ما حدد في المرجعية الإسلامية، وإذا رجعنا إلى السيرة النبوية نجد أنه عند انتشار الإسلام في أواخر العهد النبوي كان الرسول -صلى الله عليه وسلم- رئيسًا للدولة وقائدًا للجيش وقاضيًا ثم شيئًا فشيئًا بدأ يظهر التخصص.

كما لا يمكن تجاهل ما يمكن أن نسميه «سؤال الممكن»، فالدولة ليست شيئًا نُلبسه على أي وضع، يعني لو كنت في تركيا ستنتج إجابة تولد الاستقرار والتنمية نسميها النموذج التركي، ولو كنت في الهند ستقبل بإطار يوفر لك البقاء والاستقرار والتنمية اسمها التجربة العلمانية الهندية. لذلك فإن الذي يُنتج يسميه البعض علمانية والآخر يسميه «الممكن» ويسميه ذلك «التعاقد».


خلاصات

العلمانية هي الفصل بين الدين والسياسة وليس الدعوة والسياسة، والفصل هنا تخصص يندرج كله ضمن الدعوة بمفهومها العام إذا ما مورس وفق ما حدد في المرجعية الإسلامية.

– إن التوقف عند تفاصيل ما يختمر في تصور الإسلاميين في الآونة الأخيرة، يكشف عن طور المراجعات والتغيرات الذي تعيش على إيقاعه الحركات الإسلامية في اتجاه جديد هو «التخصص» في مجال السياسة والدعوة، بعد أن كانت هذه الحركات تتصف بالشمولية وتمارس السياسة والدعوة في آن واحد.

– يتضح من خلال بعض الاجتهادات المعلنة للحركات الإسلامية أنها واعية بالتحديات المطروحة، وتسعى إلى التمييز بين الدعوي والسياسي لكنها تحتاج إلى أن تفرق بين هذه الثنائية على المستوى العملي، وهذا ما ستظهره الممارسة في المستقبل.

– الذي تنتجه الحركات الإسلامية اليوم من تجديد في تدبير العلاقة بين الدعوي والسياسي قد يسميه البعض علمانية والآخر قد يسميه «الممكن» أو «التعاقد»، لكن المطلوب ليس توصيف المشهد أو عَنونَتَه، إنما صياغة نظرية ناظمة للممارسة في الواقع، كما أن الموضوع ليس مرتبطًا بفكرة العلمنة بمفهومها الإيديولوجي.

المراجع