المشهد الأول: فاعلٌ ديني مغاربي، يدعو إلى عدم متابعة الدوري الإسباني في كرة القدم، على اعتبار أنه يُمثل «دورياً صليبياً».

المشهد الثاني: داعيةٌ إسلامي حركي في المجال التداولي الإسلامي، يُصدر كتاباً عن «فقه الأقليات الإسلامية في الغرب» دون أن يكون مقيماً في هذا الغرب.

هذا غيضٌ من فيض، يُحيلنا على بعض التحديات التي تواجه مُسلمي أوروبا، في زمن اختلطت فيه أوراق السياسة والدين والاستراتيجية. و«اختطاف الإسلام» هنا قضيةٌ تُحيل إلى لائحة عريضة من المشاريع الإسلامية الحركية، سنية وشيعية، دعوية وسياسية وجهادية.

ولن تكون الاعتداءات التي طالت بعض الدول الأوروبية خلال العام الماضي، سوى علامات دالة على هذا التخبط الذي يُميز من جهة أداء صانعي القرار في أوروبا مع قضايا الإسلام والمسلمين، ويُميز أيضاً التخبط الذي يُميز أداء صانعي القرار في المجال التداولي الإسلامي العربي على الخصوص، في التعامل مع الأقلية الإسلامية هناك، والتي تتجه رويداً رويداً لكي تصبح ساكنةً أوروبية مسلمة باقتدار، تحمل الجنسيات الأوروبية، بكل المقتضيات القانونية والوجودية لهذا التحول، الذي لا زال أمراً لا مفكراً فيه في الجهاز المفاهيمي لدى أغلب الدعاة والفقهاء في المجالين معاً.

وطالما لم نحسم بعدُ مع هذه الجدلية التي يُمكن وصفُها أيضاً بجدلية «النص الديني المقدس» و«الدين الثقافي النسبي»، سيظل المجال التداولي الإسلامي الأوروبي عرضةً هو الآخر لتصدير الصراعات الدينية والسياسية السائدة في المجال التداولي الإسلامي برمته. بما يتطلب الخوض في معالم الخريطة الدينية الإسلامية الأوروبية، أو «الإسلام الأوروبي»، حتى نساهم جميعاً في فض الاشتباك بين الدين «Religion» والتديّن «Religiosité»، والمساهمة النظرية على الأقل، في سحب البساط عن بعض أسباب هذه الفتن الدينية ـ السياسية التي تتم باسم الإسلام في الساحة الأوروبية. – بَدَهي أن جدلية الدين والتديّن التي نتوقف عندها في هذه المقالة تهم الإسلام، وليس باقي الأديان التوحيدية، بله المعتقدات الوضعية-.


«إسلام أوروبي» متعدد التجليات

واضحٌ أن الحديث عن «الإسلام الأوروبي»، يُحيلنا على لائحة عريضة من هؤلاء الفاعلين، بدءً بالمؤسسات والمراكز الإسلامية، ونهاية بالأسماء الفكرية أو المحسوبة على أهل «الإسلام النظري»، – بتعبير عبد الإله بلقزيز في كتابه «الإسلام والسياسة»- مروراً بالعديد من التيارات الإسلامية الحركية؛ من منطلق أن معالم التيارات الإسلامية في المجال التداولي الأوروبي متعددة بتعدد المرجعيات والمؤسسات التي تقف وراء هذه التيارات.

فهناك الفضاء السني المُهَيمِن، والفضاء الشيعي الصاعد – في بلجيكا وهولندا على الخصوص- . وفي الفضاء السني، نجد التيار الإخواني -حيث نعاين التفرعات الأوروبية «للتنظيم الدولي للإخوان المسلمين»، والتيار السلفي الوهابي -في شقيه العلمي والجهادي-، ثم التيارات الإسلامية الدعوية -من نوع جماعات «الدعوة والتبليغ»-، ومعها الحركات الإسلامية «الجهادية»، المتعاطفة مع المشاريع «الجهادية»، كما نجد لائحةً عريضة من الطرق الصوفية.

هناك أيضاً المساجد والمراكز الثقافية التي تساهم في التأطير الديني للأقليات الإسلامية، ونجد كذلك العديد من المؤسسات الرسمية أو شبه الرسمية التي تُعنى بتمثيل الأقليات الإسلامية لدى السلطات الإدارية في هذه الدولة الأوروبية أو تلك، وأغلبها محسوب على دول عربية وإسلامية، وأخيراً، نجد بالطبع العديد من التنظيمات «القاديانية، البهائية..»، ونضيف فوق هؤلاء الفاعلين الأوروبيين -من النخبة أو العامة- ممن اعتنقوا الإسلام، سواء كان اعتناق الإسلام عبر بوابة التصوف -كما هو سائد خصوصاً مع النخبة-، أو عبر النزعة السلفية.

أمام هذه المشهد المعقد، أخذنا نعاين ظهور تحديات دينية ذات منحى سياسي وإيديولوجي، ساهمت في تعقيد الوجود الإسلامي في أوروبا، بعدما كان هذا الوجود فسحةً تاريخية أمام العقل الإسلامي للاستقرار الوجودي أولاً، والإبداع المعرفي-الديني ثانياً، بعيداً عن إكراهات وصراعات المجال التداولي الإسلامي. ذلك أن أنماط التدين في المجال التداولي الإسلامي في أوروبا أخذت تعاني من أعراض مرض «اختطاف الإسلام»، وفق مقولة الباحث الباكستاني شيما خان، والتي أطلقها مباشرة بعد اعتداءات نيويورك وواشنطن، وكانت حينها مقولةً «شاذةً إعلامياً وبحثياً»، لكنها أصبحت اليوم قاسماً مشتركاً في التفاعل النقدي الصادر عن مجموعة من الباحثين والإعلاميين، من الضفتين معاً، الإسلامية والأوروبية.

اللجوء إلى عبارة «اختطاف الإسلام» يفيدنا كثيراً في مساعدة المتلقي على التفرقة بين الدين والتديّن: نحن أمام أنماط معينة من التديّن، تريد «اختطاف الدين»، لكي تصبح ناطقة باسمه، ورُب معترضٍ عن كون المسألة لا زالت نظرية، ولم تصل بعدُ إلى مستوى التنزيل الميداني، لولا أن الواقع خلافُ ذلك. وليست آخر هذه المحطات، تداعيات الاعتداءات التي طالت فرنسا وبلجيكا، والتي جعلت العديد من وسائل الإعلام، تفسح المجال لفاعِلِين دينيين حركيين، باعتبار أنهم يمثلون الأقلية المسلمة هناك.

بل وصل الأمر إلى تَصدُّر هذه الفعاليات الدينية للمشهد الإعلامي كلما تعلق الأمر بنقد بعض الممارسات التي تندرج في سياق ظاهرة «الإسلاموفوبيا»، واختزال ما يصدر عنها من مواقف وما يُميز مشاريعها، في خدمة الخطاب الإسلاموفوبي، كما لو أنها أصبحت عملياً ممثلةً للإسلام والمسلمين في آن، وهذا منعطف نفسي ومأزق أخلاقي اتضح بشكل كبير خلال السنين الأخيرة بالتحديد، ولا زال متواضع التناول الإعلامي بله البحثي.


سوق دينية مفتوحة

ظهرت تحديات دينية ذات منحى سياسي -إيديولوجي، ساهمت في تعقيد الوجود الإسلامي في أوروبا، بعدما كان فسحةً للاستقرار الوجودي والإبداع المعرفي

بالنتيجة، يمكن تلخيص المشهد الديني في المجال التداولي الإسلامي فيما يُشبه سوقاً دينيةً مفتوحة على قوانين العرض والطلب، تتدافع فيها مؤسسات دينية ومؤسسات ثقافية وحركات إسلامية -دعوية وسياسية و«جهادية»-، وتيارات سلفية – علمية و«جهادية»- وطرق صوفية، حول رأسمال ديني اسمه «المرجعية الإسلامية»، أو «رأسمال رمزي»، بتعبير عالم الاجتماع الفرنسي الراحل بيير بورديو.

يمكن تلخيص المشهد الديني في المجال التداولي الإسلامي بسوق دينيةً مفتوحة على قوانين العرض والطلب، تتدافع فيها مؤسسات دينية ومؤسسات ثقافية وحركات إسلامية.

هذه «السوق الدينية» كانت من قبل تحت تأطير وتوجيه المؤسسات والمراكز أو الفقهاء أو الدعاة، ولكنها اليوم، وبحكم دخول فاعلين دينيين جدد، ينهلون من مرجعيةٍ عقدية وذهبية مغايرة، أصبحوا منافسين محتملين في هذه «السوق الدينية». وواضحٌ أن أي تواضع في تلبية رغبات العامة على «التغذية الدينية»، يُقابل بملأِ تلك الفراغات عبر السائد في الساحة. هذا ما لخصه باقتدار الأنتربولوجي الفرنسي اوليفيه روا في كتابه «الجهل المقدس: زمن دين بلا ثقافة»، من خلال إشارته إلى دور التطور المعاصر للعولمة في الدفع بجميع مكونات الظاهرة الدينية إلى أقصى مدى، حيث لم يعد زوال الصفة الاقليمية يرتبط بانتقال الأشخاص فقط، بقدر ما بات يتربط بانتقال الأفكار والمواد الثقافية. كل ذلك جعل الفرد يدخل في نوعٍ من سوق دولي كبيرة للرموز الدينية فيختار منها ما يشاء ويُعرض عما لايريد، وهو ما أخذ يُنتج لديه ثقافةً دينية لا تُربة لها ولا تاريخ، كما غدت الثقافة الدينية مختزلةً في سؤالٍ وجواب، وهو سلوكٌ عام بات عند غير المتدينين.

ولأننا نعيش زمن الصورة و«الميديا»، بتعبير المفكر الفرنسي ريجيس دوبريه، فإن إحدى أهم المحطات التي تُدار فيها الصراعات على «التديّن الأوروبي» تتم عبر الوسائط الإعلامية والتواصلية، بالصيغة التي تُجسدها الثورة التكنولوجية وثورة الاتصالات والفورة المعلوماتية [NTIC]«مواقع الإنترنت، الفضائيات، مواقع التواصل الاجتماعي».

وأيضاً، بسبب الحضور المتنامي لتمويل المراكز والمؤسسات الدينية التي تنهل من مرجعيات مشرقية -سنية وشيعية-، وهو ما أشار إليه بذكاء، الكاتب والروائي الفرنسي غي سورمان، في معرض التحذير من التحولات التي طالت التديّن الإسلامي في المجال التداولي الأوروبي -الفرنسي نموذجاً-، متوقفا عند إشارة دالة في هذا السياق.

فقد اعتبر سورمان، أنه حتى حقبة الخمسينيات، كان الفرنسيون يتحدثون عن العرب، ولكن اليوم، يضيف الكاتب، تغيرت الأوضاع كثيراً مع نفس الأقلية / الجالية، وأصبحنا نتحدث عن مسلمين -بعدة مرجعيات عقدية ومذهبية، مع أنهم ينحدرون جميعاً، أو أغلبهم من نفس المنطقة المغاربية-.

بين أيدينا نموذجٌ تطبيقي لبعض مقتضيات الإشارة التي توقف عندها سومان: فعلى هامش التفاعل الإعلامي مع اعتداءات باريس في نسختها الثانية «13 نوفمبر 2015»، كانت أغلب المنابر اليومية الفرنسية -الورقية نموذجاً-، تُخصص متابعات ومقالات رأي وتقارير حول واقع مسلمي فرنسا وبلجيكا، وبدرجةٍ أقل واقع مسلمي القارة الأوروبية، والأمر سيان مع باقي المنابر الأوروبية الأقرب إلى سياقات الحدث، أي المنابر الإعلامية البريطانية، الهولندية، الإسبانية، الإيطالية، والألمانية.

وهكذا، إذا توقفنا عند مضامين متابعات صحيفة «لوموند Le Monde» الفرنسية باعتبارها أهم منبر يومي في المجال التداولي الفرنسي، كان موضوع «الجهاديين» في فرنسا، من المواضيع القارة التي نطلع عليها في عناوين أغلب الأعداد طيلة الأسابيع الأولى التي تلت تلك الاعتداءات.

في غلاف عدد نهاية الأسبوع ليومي الأحد ـ الاثنين 20 و21 دجنبر / كانون الأول 2015، نقرأ مادتين على الأقل مرتبطتين بواقع الأقلية المسلمة في فرنسا بالتحديد: مادة عن «الجهاديين» ومادة عن تفاعل مسلمي فرنسا مع الانتخابات الجماعية الأخيرة التي مرت بها فرنسا.

هذا النموذج الدال، يُعطينا صورةً أولية عن طبيعة التحولات التي طالت المشهد الديني/ الإسلامي في القارة الأوروبية ككل وليس في فرنسا وحدها، مع ظهور جماعات وحركات إسلامية -سياسية و«جهادية»-، أصبحت بشكل أو بآخر، «ناطقة» باسم مسلمي فرنسا، أو معنية بتمثيل جزء من مُسلمي فرنسا، ولو أنها أقليةٌ عددية في نهاية المطاف، ولعل سوء حظ مسلمي أوروبا، أن واقعهم يتجه لأن يُصبح محط صراعات استراتيجية بين قوى عظمى، قارية وإقليمية ووطنية، غربية وإسلامية -عربية وتركية وفارسية-، من منطلق أن لكل دولة حساباتها الخاصة، محلياً وخارجياً.


نشر هذا المقال للمرة الأولي علي موقع معهد العالم للدراسات في 14 أغسطس،2016