تبني تنظيم ما بعينه للعمليات الإرهابية يبدو وأنه غير كاف لإثبات ارتكابه للحادث، بالأخص ونحن هنا في تركيا، ففي الخامس عشر من نوفمبر 2003 انفجرت شاحنتان مفخختان في معبدين يهوديين بإسطنبول راح ضحيتها العشرات وأصيب المئات. بعد ذلك التفجير بخمس أيام وتحديدا في العشرين من نوفمبر من نفس العام انفجرت شاحنتان بمقر بنك HSBC والقنصلية البريطانية، وأعلنت آنذاك جماعة تدعى «فرسان الشرق الإسلامي» تبينها للحادث. وكان لصحيفة القدس العربي رأي مخالف حيث أشارت إلى أنها تلقت رسالة إلكترونية من «تنظيم القاعدة» يعلن فيها مسئوليته عن العملية. فهل تبني داعش تفجير إسطنبول – 2016 يثبت أنه المرتكب الحقيقي له؟ ربما الإجابة على هذا السؤال تحتاج الكثير من التدقيق.


المنفجرون: إسلاميون وماركسيون وأكراد

ليس فقط تفجير 2003 هو الذى سكب الدماء في شوارع إسطنبول، فالمدينة لها تاريخ قريب من التفجيرات، ففي توقيت مقارب من العام الماضى وتحديدا في السادس من يناير قامت امرأة بتفجير نفسها في قسم شرطة بمنطقة السلطان أحمد وكانت جماعة ماركسية باسم “حزب الجبهة الثورية لتحرير الشعب” قد أعلنت تبنيها للحادث، ثم تراجعت بعد الإعلان بأيام عن ذلك التبنى، وأثبت التحقيقات فيما بعد أن القائمة بالعملية هي «ديانا رمضانوفا» زوجة مقاتل لتنظيم داعش يدعى «أبو علوفيتش ادليبجيف» كان قد لقى مصرعه في العام 2014.

وفي العاشر من أغسطس من نفس العام وقع تفجير أخر حيث تم استهداف مخفرا شرطة في منطقة «سلطان بيلي» السياحية عن طريق سيارة مفخخة راح ضحيته ثلاث أفراد وأصيب 10 آخرون. وبعدها بشهرين وتحديدا في السادس عشر ديسمبر من العام 2015 تم تفجير قنبلة يدوية بمطار إسطنبول، أدت إلى مقتل عاملة نظافة، وكانت مجموعة «صقور حرية كردستان» الكردية قد أعلنت مسئوليتها عن ذلك لتقضي على مباحثات السلام وهدنة وقف إطلاق النار بين السلطات التركية وحركة التمرد الكردية التي نشبت الصراعات فيما بينهم منذ العام 1984 وراح ضحيتها عشرات الآلف من القتلى لأكثر من عقدين من الزمان.

على الجانب الأخر وقعت العديد من التفجيرات بمناطق متفرقة في تركيا في الأعوام السابقة أبرزها ما حدث في أغسطس 2012 بمدينة غازي عنتاب الحدودية مع سوريا بجنوب شرقي تركيا ونفي آنذاك حزب العمال الكردستاني مسئوليته عن الحادث على الرغم من أن تلك المنطقة تعد مسرحا لعملياته.

بعده بحوالي عام وتحديدا في الثاني عشر من مايو 2013 وقع تفجير بمدينة الريحانة واتهم النظام السوري في ارتكابه، وفي نفس العام تعرضت السفارة الأمريكية بأنقرة لهجوم من قبل الأكراد أدي إلى مقتل حارس تركي، ثم في يوليو من 2015 تعرضت سوروج لهجوم استهدف تجمعا للأكراد وراح ضحيته 50 قتيل، بعدها بثلاث شهور وتحديدا في العاشر من أكتوبر 2015 تعرضت أنقرة لهجوم راح ضحيتها أكثر من مائة قتيل واتهم داعش أيضا بتنفيذه.


«صفر مشاكل» مع داعش حتى يوليو 2015

” المستشارين الإيرانيين في سوريا وثقوا ممرات نفط داعش إلى تركيا، ويمكننا نشر الوثائق”

تلك الكلمات التي تفوه بها محسن رضائي الأمين العام لمجلس تشخيص مصلحة النظام بإيران في الرابع من ديسمبر 2015، سبقتها العديد من التقارير سواء من روسيا أو النرويج تشير إلى شراء تركيا النفط من تنظيم داعش، أعتمد الكثير على تلك النقطة لبدء تشريح العلاقة ما بين تركيا وداعش مجيبا على سؤال لماذا لا يستهدف التنظيم تركيا؟

حجة أخرى اعتمد عليها المحللون في تفسير العلاقة بين داعش وتركيا تتمثل في عملية إطلاق سراح 49 محتجز من الأتراك لدى داعش في العشرين من سبتمبر 2014، ربما يكون تحرير الرهائن ليس دليلا على وجود علاقات ما بين الطرفين ولكن التصريحات التركية بشأن عملية التحرير وتناقضها يدفع إلى اتجاه أخر ويدعو إلى القول بأن تركيا تربطها علاقة وثيقة بالتنظيم، ففي البداية أشار أردوغان أن عملية الإنقاذ تمت بواسطة القوات الخاصة التركية، ثم تبعها تصريحات لـ أوغلوا وأردوغان كذلك تؤكد على عدم دفع الدولة فدية للتنظيم للإفراج عن الرهائن، ولكن مع الضغط الإعلامي الذي وجه العديد من الاتهامات للحكومة التركية بمساندة داعش صدر تصريح من أردوغان مفاده أنه حتى ولو تم دفع فدية فمن المهم تحرير الرهائن.

المماطلة التركية في البداية تجاه الانخراط في حرب ضد داعش في ظل استخدام تركيا كمعبر للمقاتلين في صفوف تنظيم داعش، أمر يشكك أيضا في طبيعة العلاقة حيث تشير التقارير أن الآلف من المقاتلين المنضمين لداعش مروا عبر تركيا.

كما أن تأييد التنظيم قد وصل إلى داخل صفوف حزب العدالة والتنمية نفسه ففي العام 2014 أجريت دراسة من قبل مؤسسة “إيدام” البحثية التركية وخلصت إلى أن نسبة 15.5% من مؤيدي حزب العدالة يقبلون تنظيم داعش وهي نسبة ليست بقليلة داخل حزب حاكم.

شاهد أخير في ذلك الصدد يتعلق بسؤال الأكثر تهديدا لتركيا، حيث يأتى الأكراد دائما قبل داعش، هذه الإجابة ظهرت في معركة كوباني وتحديدا تصريحات أردوغان التي قال فيها أن استيلاء داعش على كوبانى أفضل لتركيا من سيطرة الأكراد عليها.


إسطنبول وداعش: مصالح غير معلنة

تنظيم داعش يرى في تركيا موقعا إستراتيجيا هاما بالنسبة له وسوقا لتجارة النفط، إضافة إلى كون أراضيها معبرا هاما لمرور المقاتلين والأسلحة، أما تركيا فقد ترى في التنظيم تحقيقا لبعض مآربها السياسية.

فتركيا تسعى منذ سنوات للتخلص من نوري المالكي في العراق، خاصة بعدما أظهر المالكي دعمه للنظام السوري وهذا ما يدعمه تصدير تركيا النفط من كردستان للأسواق العالمية. كذلك يظهر البعد التاريخي رغبة تركيا في استمرار العراق مقسما للحصول على الموصل مرة أخرى، وذلك ربما عبر عنه في تصريحات مسئولون أتراك كالرئيس السابق عبد الله غول عندما قاللقد أعطينا الموصل عام 1926 إلى عراق موحد،والآن نريد أمامنا عراقا موحدا“. من ناحية أخرى الداخل التركي متأجج بصورة كبيرة خاصة فيما يتعلق بالأكراد والتهديد من جهتهم، ومن ثم خلق عدو آخر ربما يصعب الأمر على الدولة التركية وعلى أردوغان بالأخص في الاستمرار، ومن هنا كان من الأفضل لتركيا ألا تصطدم مع تنظيم داعش خاصة وإن كان التنظيم يتحرك على أراضيها بسهولة حيث أشارت بعض التقارير إلى جمع التنظيم تبرعات من داخل تركيا.


هل أعلنت إسطنبول الحرب على داعش؟

بمشاركة تركيا في التحالف المحارب لداعش عن طريق الغارات على بعض نقاط التنظيم بسوريا؛ بدا أن العلاقة بين الطرفين باتت متوترة، ومن ثم فلجوء التنظيم للقيام بعمليات في تركيا قد يعد أمرا منطقيا، هنا لابد من التساؤل لماذا اتجهت تركيا للحرب على داعش؟ وما مدى جديتها في ذلك؟

بدء الغارات التركية على داعش لم يكن بسبب تفجير سوروج الذي اتهم فيه التنظيم في يوليو الماضي؛ وإنما كان بعد أيام من قتل أفراد شرطة تركيين على يد الأكراد في الوقت الذي أصبح فيه الأكراد ممثلين في البرلمان، واستئناف عملية السلام ما بين الحكومة والأكراد يتطلب من تركيا الوقوف بجوارهم حتى ولو كان ذلك شكليا، وعليه بدأت في الحرب على داعش.

الغارات التركية على معاقل التنظيم –وإن كانت مشاركة بصورة معلنة في تحالفات ضده- محدودة ولا تتخطى الدور الذي طالما سعت إليه تركيا وهو عدم الانخراط الكامل في الحرب ضد داعش، وإنما فقط تأمين الحدود التركية السورية بإقامة نظام أمني متكامل هناك في مقابل فتح قواعد تركية جوية لقوات التحالف.


من المنفذ؟

ليس من المستغرب أن يحدث في تركيا عمليات إرهابية الآن، خاصة في ظل السياسية التركية الداخلية والخارجية التي تتقارب بشكل كبير مع النظام السعودي في مكافحة الإرهاب، ولكن السؤال الواجب طرحه من المستفيد من ذلك؟

ربما المسارعة في اتهام تنظيم داعش أمرا ليس دقيقا، خاصة وأن تبني داعش للعملية جاء في إطار تصريحات خبرية بمواقع التواصل الاجتماعي ليس إلا، وغياب أي بيان رسمي من التنظيم من خلال منبره مؤسسة الفرقان، هذا من ناحية، من ناحية أخرى ليس من مصلحة تنظيم داعش -كما أشرنا- الدخول في صدام مباشر مع الدولة التركية، وإن كان هناك ما يبرر ذلك من اختلافات فيما بينهما؛ إلا أن كلا منهما يدرك أهميته بالنسبة للآخر، فالاستفادة لتنظيم داعش من ضرب تركيا تكاد تكون منعدمة، خاصة وأن التنظيم إن أراد القيام بتفجير بتركيا فإنه من السهل عليه القيام بما هو أكثر وحشية من هذا الهجوم الذي يعد مقارنة بالتفجيرات الداعشية تفجيرا هشًا.

في ظل التوترات الموجودة في المنطقة ربما يكون هناك أيدٍ خفية تدعو إلى تورط تركيا أكثر في الحرب على داعش وإدخالها في صدام مباشر مع التنظيم الذي يمثل خطرا كبيرا حال عليها حال المواجهة الفعالة له، والأطراف في ذلك عدة، والمستفيد الأكبر ربما يكون الأكراد؛ لتوسيع جهة القتال على القوات التركية، خاصة مع قتل السلطات التركية لـ 18 مسلحا من حزب العمال الكردستاني في دياربكر جنوب شرقي تركيا يوم السبت الموافق التاسع من يناير الحالي.