«آسف فيلمك ليس فلسطينياً كفاية، إن أحداثه يمكنها أن تقع في أي مكان، يمكنها حتى أن تقع هنا».

في أحد مشاهد أحدث أفلامه يقدم المخرج الفلسطيني إيليا سليمان سيناريو فيلم لإحدى الشركات في فرنسا، فيجيبه المنتج إجابة طويلة بالفرنسية، تتضمن أنهم بالطبع مهتمون بالقضية الفلسطينية، وليس لديهم النية لأن يصنعوا فيلماً غرائبياً أو مستشرقاً عنها، لكنه يلحق ذلك التوضيح بكون سيناريو سليمان ليس فلسطينياً كفاية، يصعب بيعه، وبذلك يقصد أنه لا يحتوي على المواد التي تصنع التعاطف الغربي والعالمي مع قضايا العالم الثالث، تملك تلك المفارقة حس فكاهة لا يخطئه من شاهد أي فيلم لسليمان من قبل، لكنها تلخص منهجه أيضاً وطبيعة العلاقة الاستعمارية التي يجد نفسه في مواجهتها على الدوام، هو لا يصنع أفلاماً عن القضية الفلسطينية، هو يفعل تماماً ما قاله المنتج الفرنسي، فيلماً يمكن لأحداثه أن تقع في أي مكان.

إيليا سليمان في فرنسا في فيلمه ان شئت كما في السماء
إيليا سليمان في فرنسا في فيلمه «إن شئت كما في السماء»

عالم إيليا سليمان السينمائي

فكرة المكان هي جوهر فيلم إيليا سليمان الأخير «إن شئت كما في السماء» الذي يملك عنواناً إنجليزياً مغايراً في المعنى It Must Be Heaven، يتحرك سليمان من فلسطين إلى باريس ثم إلى نيويورك ثم إلى فلسطين مجدداً وفي قلبه نزعة تكاد تكون تشاؤمية رغم خفة محتوى فيلمه، فيمكن اعتباره أكثر أفلامه الأربعة الطويلة تجريداً، وإذا نظرنا إليهم كقماشة واحدة فسنجد أن سليمان صنع لنفسه لغة وشفرة لا يمكن أن تخطئها العين ولا الأذن، فيمكن وصف أعماله بالعالم السينمائي المتداخل، وهي فكرة طريفة نظراً لارتباط العوالم السينمائية بأفلام القصص المصورة والإنتاجات الاستهلاكية الضخمة، لكن يمكن تطبيق الفكرة هنا بشكل مجرد، فهو يستدعي ذاته داخل كل عمل، ويستدعي العمل الفائت داخل كل عمل جديد، وفي إنتاجه الأخير تكمن المتعة في الشعور بتلك الألفة، وكأننا شاهدنا ذلك من قبل، سمعنا الجار الثرثار من قبل، رأينا بلاهة أجهزة الشرطة من قبل، رأينا وجه سليمان من قبل.

يمكن تحليل عناصر ذلك العالم من خلال الأفلام الأربعة الروائية الطويلة التي صنعها سليمان على مدى سنوات متفرقة، فإن شئت كما في السماء صدر بعد الزمن الباقي بعشر سنوات تقريباً بسبب البحث عن تمويل ملائم، وبسبب نزوع إيليا إلى الكسل، فهو ليس شخصاً مهووساً بالأفلام والسينما، هو شخص شغوف بالحياة وتفاصيلها الرتيبة والمملة، التي تجعل من وقوع حدث بسيط شيئاً جللاً، وهو عكس الطبيعة التي يمكن أن يتخيلها أي شخص لمواطن فلسطيني حياته مليئة بالصخب والأحداث الغامرة، فهو اختار عكس ذلك تماماً في حياته وأفلامه، واعتمد كوميديا تكاد تكون سريالية، وصفها بالعبثية يبدو أسهل وأوضح، ولكن تكمن سرياليتها في إدراج سليمان لعناصر خيالية مضخمة، تجعل من شخصه أو أحد أبطال فيلمه بطلاً خارقاً، قادراً على الطيران مثل مقاتل نينجا والقضاء على عدة جنود إسرائيليين في دقائق معدودة كما حدث في فيلمه يد إلهية، أو في إن شئت كما في السماء يجعله يمسك جهاز التفتيش من يد ضابط أمن في أحد المطارات، يتلاعب به مثل حامل سلاح متمرس ويسيطر عليه، فيبدأ في الالتفاف والطيران حوله حتى يعود إلى يديه بخفة لكي يقذفه في يد ضابط الأمن الأمريكي ساخراً من سلطته ومحولاً من شخصيته المعتادة، الرجل الهادئ صاحب شبح الابتسامة إلى رجل ذي قدرات خارقة خفية.

يستخدم سليمان تلك السريالية في السخرية من رموز القوة خاصة أفراد المؤسسات العسكرية والشرطية، وهي أداه تجعله متفرداً عن أي صانع أفلام تناول ثنائيات مثل القامع والمقموع أو المستعمِر والمستعمَر، وفي آخر أفلامه امتدت تلك السخرية إلى السلطة العسكرية والشرطية في بلدان غير فلسطين، يتعامل سليمان مع تلك السلطة من منطلق مغاير لفكرة كونه أو كون شعبه ضحايا لهم، يضعهم في ضوء آخر، فهو لا يخاف بطشهم، بل يصنع منهم مجموعة من البلهاء الآليين الذي يسهل جرهم وأمرهم ونهيهم، نرى ذلك في أول أفلامه الطويلة «سجل اختفاء» في تتابع لفتاة يقع في يدها جهاز لاسلكي خاص بضباط إسرائيليين، فتبدأ بالتلاعب بهم وتوجيه الأوامر لهم ويطيعونها دون تفكير، يمكن رؤية أن تلك هي رؤية سليمان للجندي الإسرائيلي، فهو ليس شراً محضاً فقط هو أيضاً أداة بلهاء دون روح، لكن يتكشف لنا في إن شئت كما في السماء أن تلك هي رؤيته لهذه الأجهزة بشكل عام، في أحد المشاهد في أمريكا على الأرجح يتابع إيليا فتاة ترتدي أجنحة ملاك هفهافة بيضاء، تخلع ملابسها على جسد ملون بعلم فلسطين فتطاردها الشرطة الخرقاء وتقوم بتضليلهم وإلهائهم بسهولة حتى ينجحوا أخيراً في القبض عليها، فتختفي من تحت أيديهم ويبقى جناح الملاك.

الفاشية الآسرة

في عام 1975 كتبت الناقدة والباحثة سوزان سونتاج مقالاً بعنوان (فاشية آسرة)، تحلل فيه أعمال مخرجة ألمانية نازية تسمى ليني ريفشنال، في تلك الأعمال تحتل الأجسام الرجولية القوية الشاشة، في حركات متناغمة جميلة وعنيفة، وأزياء موحدة، تطلق سونتاج على تلك العناصر اسم الجماليات الفاشية، وهو مصطلح لا يقتصر على استخدامها بقصد الترويج للفاشية فقط، بل يمكن أن يطلق على تلك المجموعة من الجماليات عند استخدامها في أي سياق، فهي تنفي التفرد وتروج للكتل البشرية الصماء الآلية وتجد جمالها في الثبات والتماثل والقوة المفرطة.

بجانب تصويره لخراقة الأجهزة الأمنية فإن سليمان يصور نظامها المفرط ويتعامل مع القوة البدنية والتماثل الشكلي باعتبارها أشياء مثيرة للسخرية، فحينما يصل إلى فرنسا يرى من نافذته أحدهم يلقي باقة ورود أسفل سيارة، يلقيها كما يتم إلقاء القنابل الموقوتة، يتبعه ثلاثة من عناصر الشرطة الفرنسية يتحركون على زلاجات متطورة، حركة متناغمة راقصة وثابتة، لكنها لا تؤدي الغرض في الوقت نفسه، فهي لا تمكنهم من رؤية ما جاءوا من أجله، تتكرر تلك الرقصات الفاشية عدة مرات، وفي كل مرة لا تمثل قوة هؤلاء الأفراد أي أهمية لأي موطن، وفي أحد التتابعات نرى مارشات عسكرية مهيبة منظمة، ينطبق عليها تماماً مصطلح سونتاج، فيجد سليمان في تصويره لتلك الجماعات المتماثلة من البشر بذلك الشكل الذي لا يسلب منهم قوتهم، ولكنه يجردهم من هالتهم المتعالية كوسيلة لكسر القلق واستبدال نظرة جديدة به ربما يستحيل تحقيقها في الواقع، لكن يكفي أن يكون هناك أحد العوالم يمكن فيه الضحك على مسببات الخوف.

الصوت والموسيقى والروح

في محاولات تفكيك أكواد عوالم إيليا سليمان البصرية يصعب التغافل عن الجانب السمعي من أفلامه، يستخدم سليمان شريطاً صوتياً غنياً بالحوار والمؤثرات، سليمان نفسه لا يتحدث، أو هكذا ظننا حتى نطقت شفتاه بجملتين وحيدتين، نسمع الأصوات حوله، الشوارع والناس، يثرثر جيرانه ويثرثر الغرباء وهو يستمع، لكن ما يميز تجربة مشاهدة وسماع فيلم لإيليا سليمان هو شغفه الموسيقي، يستخدم الموسيقى لاستدعاء المكان والزمان، أو للتأريخ، أو إثارة الكوميديا.

تحمل الموسيقى إيقاع أفلامه وتعطي كل مشهد روحاً مختلفة، في «إن شئت كما في السماء» يستخدم سليمان بعض الأغنيات بمدتها الكاملة مستعيراً جماليات الأغاني المصورة لتعزيز مشاعر معينة، مثال على ذلك مشهد مطول لجلوسه في أحد المقاهي الشاعرية في باريس يشاهد المارة حتى يتحول الرصيف لعرض أزياء حي ومستمر، نساء جميلات مرتديات ملابسهن بعناية تتبعهم الكاميرا وعين سليمان على أنغام أغنية جاز شهيرة I put a spell on you، فيعمل المشهد كفيديو مصور ممتع يحوي السخرية التي يرتئيها في نظرته الأولية الخادعة.

يستخدم أيضاً الأغاني العربية والمصرية بحميمية شديدة ويتلاعب بالأصوات الخارجية والأصوات الداخلية النابعة من الأحداث، فنستمع نحن المشاهدين لنجاة تشدو بحلم معاك ونتبع مع صوتها البحر والسماء والسحب حتى نصل للطائرة التي تحمل سليمان خارج البلاد، ينزع سماعاته فينقطع الغناء، فنحن جزء من تجربته، في أفلامه السابقة استخدم سليمان بعض الخيارات الموسيقية لتأريخ زمن وقوع أحداثه، وانتقى بعناية أشهر الأغنيات الدارجة، ففي فيلمه يد إلهية عام 2006 استخدم حبيبي ولا على باله لعمرو دياب، وعندما رجع بالزمن لعام 1948 في فيلمه الزمن الباقي لجأ لليلى مراد وأنا قلبي دليلي، لكنه في فيلمه الأخير لجأ لاستخدامات أكثر موضوعية، فختم فيلمه بإيقاع عالٍ وكلمات تردد (عربي أنا)، وترك لنا ولنفسه حرية تفسير ذلك الخيار وما يحمله من دلالات ساخرة أو مريرة.

عند الحديث عن إيليا سليمان لا نتوقف عند حقيقة كونه عربياً فلسطينياً، أو كونه محمَّلاً بقضايا الاحتلال ومحاولات التحرر، هو لا يعطينا الفرصة لذلك، يستخدم السينما كوسيط سمعي وبصري ويستغل كل إمكانيات الوسيط الذي أحبه واختاره لكي يقص مواقف ومشاهد حياتية، يمكنها أن تحدث في أي مكان في العالم، ولكي يؤكد ذلك سافر بالفعل واختبر ذلك، ودعانا لنختبر معه كونية الوجود الإنساني، ولكنه في النهاية وببساطة أهدى فيلمه إلى فلسطين.