للوهلة الأولى، عندما تستمع إلى خطاب الناشط السياسي الفرنسي من أصل مصري، حسام مسيحة أو جون كما يُعرَف الآن، الذي صدم الرأي العام الفرنسي والعالمي بحملته لجمع تبرعات للشرطي الذي قتل الشاب الفرنسي من أصل جزائري نائل المرزوقي، تعتقد أن الرجل الذي ينحدر من مركز مغاغة بمحافظة المنيا في صعيد مصر كان ضحية للعنف الطائفي الذي يشهده الصعيد من حين لآخر، أو تعرض للتمييز على أساس ديني حرمه ووالديه من التقدم والترقي الاجتماعي في موطنهم الأصلي، مما دفعهم للهجرة مثل بعض أقباط المهجر، وأفضى به إلى تبني خطاب يميني «قبطي» متطرف معادٍ للإسلام والعروبة.

لكن الحيرة تتجلى عندما تكتشف أن جون، أو حسام كما لم يعد هو يحب أن ينادى، هو على النقيض تمامًا. فمسيحة الذي جمعت حملته لصالح الشرطي القاتل نحو 900 ألف يورو حتى كتابة هذا المقال، من أبناء الطبقة المصرية العليا التي حصلت على فرص واسعة لم يتَحْ لكثير من أبناء جلدته، لا من الأقباط ولا من المسلمين، أن يتمتعوا بها، فوالده كان يعمل في السلك الدبلوماسي المصري، ووالدته مهندسة كيميائية، سافرا للعمل في السفارة المصرية في فرنسا بعد ثماني سنوات من ولادة حسام/جون في مصر.

كان ذلك في سبعينيات القرن الماضي، وهي فترة كما يحب جون تذكير متابعيه سبقت انتشار الحجاب في المجتمع المصري، وقبل أن تجتاح مصر حالة الأسلمة التي يحذر فرنسا من مغبتها إذا تساهل المواطنون والمهاجرون مع المسلمين فيها. لا يذكر جون لجمهوره الفرنسي مع ذلك أي معاناة في طفولته، أو حوادث عنف أو تمييز عنصري أو ديني أو جهوي ضده، أو حتى وقفت في سبيل مستقبل والده الدبلوماسي أو والدته الكيميائية التي يفخر جون دائمًا بأنها كانت إضافة للبحث العلمي الفرنسي نظرًا لتفوقها العلمي في بلدها الأصلي.

من حسام إلى جون

ولد حسام بطرس مسيحة في القاهرة في 10 سبتمبر 1970. عاش مسيحة طفولته في بوغوتا في كولومبيا من سن 3 إلى 7 سنوات. في سن الثامنة، وصل مع عائلته إلى فرنسا، حيث عمل والده كدبلوماسي في السفارة المصرية في فرنسا. في عام 1990، حصل مع والديه على الجنسية الفرنسية وقام بتغيير اسمه الأول إلى جان أو جون، وهو الاسم الذي يصر على أنه اسم معموديته الأصلي، ولكن والديه أطلقا عليه اسم حسام تجنبًا لأي مشكلة دينية قد تواجهه في مصر، وكأن لا أحد في مصر سيلاحظ اسم والده بطرس. حرص جان على دراسة السياسة والاقتصاد في أرقى الكليات والجامعات الفرنسية؛ فهو خريج المدرسة الوطنية للإدارة ومعهد العلوم السياسية، وهما أعلى مؤسستين جامعيتين لتخريج كوادر الدولة والشركات الكبرى.

حصل مسيحة على درجة الدكتوراه في الاقتصاد، وكانت رسالة الدكتوراه عبارة عن محاولة منه «لرد الجميل لوطنه فرنسا الذي أصبح يسري في عروقه» بحسب تعبيره. حرص مسيحة أن تكون رسالة الدكتوراه تعبيرًا عن مشاعر قومية نابضة، تركز على مسألة السيادة، فقد وجه طاقته الأكاديمية نحو معارضة الانضمام إلى الاتحاد الأوروبي والتحذير من مخاطر عملة أوروبية موحدة على الاقتصاد الفرنسي.

وعلى الرغم من المجهود المضني والمخلص في الأبحاث التي استغرقت عشر سنوات كاملة لإكمال الدكتوراه، فوجئ في النهاية بإقالته من الجامعة لنهجه المعادي للاتحاد الأوروبي على عكس المزاج العام في ذلك الوقت بدلًا من تكريمه على حرصه على وطنه ومصالحه وسيادته بعد أن أصبح جون تمامًا وتخلى عن حسام إلى الأبد.

السيادة قد تحتاج إلى سيادية أيضًا

يحكي جون مسيحة في لقائه مع الإعلامي إسحاق يونان في قناة سي تي في القبطية عن رحلة كفاحه في فرنسا وصعوده لقمة الفضاء السياسي الفرنسي، حتى وصل وقت تسجيل حلقة البرنامج إلى منصب منسق الحملة الإعلامية لرئاسة حزب التجمع الوطني ماريان لوبان، التي وصلت إلى مرحلة الإعادة في الانتخابات الرئاسية في مواجهة ماكرون.

يؤكد جون أنه لم يفقد الأمل بعد طرده من الجامعة في سنة 1999 بسبب آرائه اليمينية المتطرفة، وبدأ في البحث عن العمل في مناصب إدارية في الحكومة الفرنسية حتى يرد الجميل لبيته الذي احتضنه هو وأسرته، وركز جهوده على البحث في وظائف مؤسسات «سيادية»، فهو مهموم بقضية السيادة كما يحب أن يضيف دائمًا.

بالفعل، حصل مسيحة على وظيفة في وزارة الدفاع، غير «معلوم طبيعتها» على حد وصف مونت كارلو الإخبارية، وتم انتدابه كمستشار مالي لوزارة الدفاع لشئون الشرق الأوسط، ومقر عمله وقتها في السفارة الفرنسية في الإمارات عام 2011، ثم لشئون الشرق الأدنى في السفارة الفرنسية في لبنان، ليعود بعد ذلك ليعمل في دائرة الشئون الاستراتيجية في وزارة الدفاع.

وجد مسيحة في زعيمة اليمين الفرنسي، ماريان لوبان، ضالته. أعجبه كثيرًا خطابها المناهض للعولمة وتأكيدها على «سيادة» فرنسا وعداءها الشديدة للهجرة. بدأ يتواصل سرًّا معها منذ عام 2014 نظرًا لحساسية منصبه في وزارة الدفاع والقوانين الفرنسية التي تمنع تضارب المصالح. وبعد عامين، طلبت ماريان منه الانضمام رسميًّا لحملتها الرئاسية. سيصبح مسيحة كبير مستشاريها ومدير الدراسات السياسية للحزب، وسيتألق كواحد من رموز اليمين المتطرف الفرنسي ونجم برامج التوك شو.

واصل جون تألقه السياسي وترشح في عام 2017 للبرلمان الفرنسي عن حزب التجمع الوطني، لكنه خسر الانتخابات بفارق ضئيل. ثم انتقل لدعم زعيم اليمين المتطرف الآخر إيريك زامورا بعد خلافه مع لوبان بسبب تساهلها تجاه المسلمين في فرنسا، قبل أن يتجه إلى خطاب أكثر فاشية وعنصرية تجاه المسلمين في فرنسا والعالم خارج ألوان الطيف السياسي الفرنسي بما فيها الأكثر تطرفًا، ليترأس منظمة أبولو الفكرية ويتبنى حملة معادية ليس فقط للمسلمين في فرنسا، ولكن أيضًا للإسلام كدين، ما اضطر إدارة تويتر في يوليو 2021 لغلق حسابه بسبب تغريداته شديدة التطرف والعنصرية والمعادية للإسلام والمحرضة ضد المسلمين والمهاجرين في فرنسا.

وطن نعيش فيه أم الوطن الذي يعيش فينا؟

قبيل انتخابات الرئاسة الفرنسية في يوليو 2017، قام مسيحة بنشر تغريدة على حسابه في تويتر لدعم مرشحته للرئاسة لوبان، ضد إيمانويل ماكرون. جاء في التغريدة: «فرنسا لماكرون، هي بلد نعيش فيه. أما لماريان، فبلد يعيش فينا». وبرغم بلاغة هذه التغريدة إلا أنها تلفت الانتباه إلى ارتباط مسيحة العميق فيما يبدو بالمقولة الشهيرة للبابا شنودة: «مصر وطن يعيش فينا».

وعلى الرغم من محاولاته اليائسة والبائسة في التأكيد على فرنسيته الخالصة وانفصاله عن ماضيه المصري، ونشره تغريدة في عام 2020 تقول: «أنا لست فرنسيًّا أصليًّا. لكنني لم أهاجر إلى فرنسا لأعيش في مصر»، إلا أن مسيحة يبدو أنه ما زال يعيش في مصر وهي أيضًا تعيش فيه. فعلى مدى سنوات، لم يكف عن التغريد والتعليق على الشأن الداخلي المصري وتبني خطاب عنصري شديد الفاشية والتطرف ضد الإسلام ونبيه وتعالميه والمسلمين المصريين أيضًا.

يصف مسيحة الفتح الإسلامي لمصر بأنه احتلال عربي إسلامي، ويعتبر أن هوية مصر الأصلية هي المسيحية الهيلينية والفرعونية البطلمية وفقًا لوصفه. ويرى أن العنف والقمع هما السبب الرئيسي وراء تحول الغالبية من المصريين إلى الإسلام. يحذر جون فرنسا من نفس مصير مصر إذا سمحت بتفشي ظواهر التأثر الإسلامي لدى الجاليات الإسلامية في فرنسا، فقد ضاع – على حد وصفه – وطنه الأول من أجداده، وهو يريد أن يحافظ على وطنه الحالي فرنسا من الغزو الإسلامي.

لم يقتصر دور مسيحة على التغريد عن الشأن المصري فحسب، بل كان لمسيحة نشاط واسع في وسائل الإعلام المصرية ولقاءات مع النخب الإعلامية والثقافية المصرية. تم استضافته في العديد من القنوات المصرية والعربية، بالإضافة إلى المشاركة في مقابلات صحفية في الصحف المصرية مثل المصري اليوم وروز اليوسف. كما شارك في ندوة في البرلمان الأوروبي عام 2018 حول خطر الإسلام السياسي على أوروبا برفقة الصحفي عبد الرحيم علي.

تمت استضافة مسيحة أيضًا من قبل الإعلامي الراحل وائل الإبراشي في عام 2018 مع الكاتبة فريدة الشوباشي، وأشاد مسيحة باللقاء وعبر عن رضاه في منشور على صفحته على فيسبوك قائلًا: «لقد شرحت في لقائي مع وائل الإبراشي مشروعنا الرئاسي لحماية الهوية الفرنسية من غزو الهجرة والغرغرينا الإسلامية بأريحية لم أجدها في فرنسا».

مهرج أم مشروع سياسي ذو رأسين؟

المخيف هو أن مرتكب الاعتداء غير مسجل على قائمة الإرهاب، كما أن من المخيف أن خمسة ملايين مسلم (المسلمون الفرنسيون) غير مسجلين على هذه القائمة.

كانت هذه إحدى التغريدات التي نشرها مسيحة عقب حادثة نيس عام 2016، وأشدها عنصرية ضد المسلمين في فرنسا عمومًا دون أي تمييز بين مسلم متطرف وآخر معتدل، وهي تغريدة تنتمي إلى فاشية سياسية استنكرها حتى أشد تيارات اليمين تطرفًا في فرنسا.

في عام 2022، ظهر مسيحة في أحد البرامج التليفزيونية الفرنسية في مواجهة مع حليفته السابقة ماريان لوبان، ينتقد تراخيها في مواجهة ما وصفه بالمد الإسلامي في فرنسا، ويطالب بغلق المساجد لأن الدين الإسلامي نفسه يتعارض مع قيم الجمهورية الفرنسية، وهو ما استنكرته لوبان بشدة واعتبرته مخالفًا للدستور الفرنسي. ورغم إتقانه اللغة العربية واللهجة المصرية إلا أن مسيحة أثار ضحك الجمهور في هذا البرنامج عندما بدا كاراجوز وهو يقرأ عبارات عربية غير مفهومة ادعى أنها من القرآن الكريم، يستدل بها أن الإسلام يحرض على قتل الآخر.

يبدو خطاب مسيحة ليس كمجرد خطاب لأقصى اليمين الفرنسي، وإنما كمشروع يطل برأسه على وطن مسيحة الأم ليتماهى فيه مع خطاب متطرف آخر يعادي الهوية العربية والإسلامية.

لكن مع تفاعل قطاع واسع من الجمهور الفرنسي مع حملة تبرعات مسيحة لصالح الشرطي قاتل الشاب الفرنسي ذي الأصل الجزائري، لا يبدو مسيحة كمهرج أو كشخص هاجر وحصل على الجنسية الفرنسية ليناهض بعد ذلك بشكل هزلي وساخر حقوق المهاجرين. يبدو خطاب مسيحة السياسي ليس كمجرد خطاب لأقصى اليمين الفرنسي العنصري والفاشي بدأ يجد له آذانًا مصغية من قطاعات من الشعب الفرنسي، وإنما كمشروع لا يقف عند حدود الجمهورية الفرنسية وقيمها وسيادتها، بل يطل برأسه عبر المتوسط على وطن مسيحة الأم ليتماهى فيه مع خطاب متطرف آخر يعادي الهوية العربية والإسلامية في مصر ويحمل نزعة فاشية وطائفية شديدة التطرف والكراهية للدين الإسلامي.