نحن نفهم أن هذا المكان مقدس لليهود، وفي نهاية المطاف يجب أن يكون تحت السيادة اليهودية.
«جبريل الرجوب» متحدثًا عن حائط البراق

السبت الماضي، 3 يونيو/ حزيران 2017، تجدد البرهان على أن النسيان والعجز عن التعلم ومراكمة الخبرات هو أفتك مرض ألمَّ بشعوب هذه البقعة المنكوبة والمنكودة من الأرض، ذلك أن الدهشة عقدت ألسنة الكثيرين بعدما مارس لواء الصدفة «جبريل الرجوب» هوايته المحببة في إطلاق التصريحات الصادمة، والشاهد هنا أن أحدًا لم يتعلم السيطرة على دهشته إزاء رجل لم يعد يُستغرب منه أي شيء.والحقيقة أن كل ما يحيط بـ«أبو رامي» غريب ويستلفت النظر، بدءًا من تقليد «ياسر عرفات» إياه رتبة العقيد هكذا خبطة واحدة عام 1995، دون أن يتدرج في السلك العسكري، ودون أن يتلقى تدريبًا عسكريًا أو يُكمل حتى تعليمه الثانوي، مرورًا باقترابه الصاروخي من «عرفات» بشكل لم يُتَح حتى لأشخاص رافقوا الأخير لأزمنة طويلة، وانتهاءً بتصريحاته، التي لا يكاد يمر شهر إلا ونسمع أن جهة ما تدين شيئًا ما منها.


سيرة موجزة

قبل أن يتم «جبريل الرجوب»، المولود ببلدة دورا بالخليل عام 1953، عامه السابع عشر منتسبًا لحركة «فتح»، حتى أدخلته مغامرة إلقاء قنبلة يدوية على سيارة عسكرية إسرائيلية سجون الاحتلال محكومًا بالسجن المؤبد، غير أن صفقة لتبادل الأسرى أبرمها تنظيم «الجبهة الشعبية لتحرير فلسطين – القيادة العامة» مع الإسرائيليين عام 1985 أطلقت سراحه.انشغل «الرجوب» داخل سجون الاحتلال بتعلم اللغتين العبرية والإنجليزية، وبدت نزعته القيادية واضحة وسط السجناء الفلسطينيين، وبعد خروجه انتقل للعيش في رام الله، وحصل على وظيفة متواضعة في المركز الثقافي الفلسطيني العريق «بيت الشرق» بالقدس الشرقية، ثم ما لبثت سلطات الاحتلال أن أبعدته إلى الأردن بسبب مشاركته في الانتفاضة الأولى.من الأردن، كان الخيار المثالي لفتحاوي مثل «الرجوب» أن ينتقل إلى تونس، ليرابط على مقربة من قيادة الحركة وقيادة منظمة التحرير، والواقع أنه لم يقترب منها فحسب، وإنما بدت موهبته في الصعود السريع عندما التصق بسرعة مدهشة بـ«أبو عمار»، حتى أصبح في زمن قياسي أحد أقرب معاونيه.


الجهاز

جهاز الأمن الوقائي الفلسطيني هو حالة مدرسية نموذجية لأجهزة الأمن السياسي العربي كافة دون أي استثناء، فهي موكلة بمهمتين رئيسيتين مرتبطتين ببعضهما برباط وثيق، الأولى، هي الحفاظ على أمن السلطة الحاكمة والنظام القائم وحماية شبكة فساده بأي ثمن، والثانية، هي التنسيق مع جهة خارجية ما، تعمل لحسابها بمقابل مجز تنفيذًا لتكليفات محددة.

الأمن الوقائي الفلسطيني، منذ لحظة مولده، ركب الشطط مندفعًا في تأمين السلطة والتنسيق الأمني إلى حدود كانت تربك السلطة الفلسطينية ذاتها وتحرجها.

وواقع الحال أن الأمن الوقائي الفلسطيني، منذ لحظة مولده الأولى، قد ركب الشطط مندفعًا في وضع مهمتيه الرئيسيتين موضع التنفيذ إلى حدود كانت تربك السلطة الفلسطينية ذاتها وتحرجها، دون نسيان أن السلطة، وقبل أن تتشكل، كانت واعية تمامًا بما ستكون عليه طبيعة عمل هذا الجهاز. والمثير للتعجب والأسى في آن أن الأغلبية العظمى من منتسبي الجهاز ومسئوليه الأوائل كانوا، حتى عهد قريب من تشكيلة، من المقاتلين حاملي السلاح في الثورة الفلسطينية.إن شيئًا ما في تكوين «جبريل الرجوب» و«محمد دحلان» جعل «ياسر عرفات» موقنًا من صلاحيتهما لتولي أول قيادة لفرعي الجهاز في الضفة الغربية وغزة بالترتيب، خالعًا على كل منهما رتبة العقيد، دون سابق صلة بالعمل العسكري، والأرجح أن هذا الشيء هو البراجماتية الشديدة المتحللة من أي ثوابت، بخلاف ما قد يسم العسكريين الأقحاح أو العقائديين من تصلب.اعتبر «الرجوب» منصبه الجديد – الذي تولاه بين 1994 و2002 – تحديًا وميدانًا للبرهنة على جدارته به، فاندفع متجاوزًا حتى الحدود التي رسمتها سلطة أوسلو لما هو مسموح به – يبدو أنه كان هناك بعض الخطوط الحمراء في الماضي بخلاف اليوم – وراح بشكل محموم يفكك أبنية الحركات المتمسكة بالمقاومة في الضفة الغربية، مستعينًا بتعذيب عاثري الحظ ممن يقعون تحت يديه، أو تسليمهم للإسرائيليين إذا كانوا مطلوبين لهم أو لاستجوابهم بكفاءة أكبر.وقد تنزاح الغرابة في ذلك عندما نقرأ في مذكرات «يعقوب بيري»، الرئيس الأسبق لجهاز الأمن العام الإسرائيلي «الشاباك»، أن كلًا من «الرجوب» و«دحلان» كانا موضع اختيار «بيري» و«أمنون شاحاك»، المدير الأسبق للاستخبارات العسكرية الإسرائيلية للتفاوض في تونس، بشأن تنفيذ اتفاقات أوسلو الأمنية بين الجانبين، منذ مرحلة ما قبل تشكل السلطة الفلسطينية.


الفساد

حوّل «الرجوب» – بمباركة السلطة في أحيان كثيرة – جهاز الأمن الوقائي إلى شبكة عنكبوتية متغلغلة في مفاصل السلطة والمجتمع الفلسطينيين، ونصّب الرجل نفسه وجهازه حارسًا أمينًا على جميع الثغرات التي يمكن أن ينفذ منها معارض إلى أروقة الحكومة، فلم يعد بوسع أي فلسطيني العمل في مؤسسات الحكومة أو الحصول على ترخيص بمزاولة نشاط خاص أو السفر إلى الخارج، دون إذن الجهاز.وامتدت يد الجهاز لتحتكر مؤسسات اقتصادية، مثل «هيئة التبغ الفلسطينية» و«هيئة البترول العامة»، بجانب حصوله على نسبة أرباح ملهى «أويزيس» (الواحة) في أريحا، الذي تأسس في 1998 بموجب شراكة بين ملياردير يهودي نمساوي ورجال أعمال فلسطينيين مقربين من «عرفات»، بغرض إتاحة الفرصة للإسرائيليين للعب القمار الممنوع قانونًا في إسرائيل – قبل إغلاقه إبان الانتفاضة الثانية.كانت لملهى «الواحة» بالذات رائحة فساد تزكم الأنوف، ذلك أنه كان عنوان تطبيع فج وصارخ ومستفز، إذ تولت حراسته مجموعة مشتركة من رجال «الرجوب» بالتعاون مع ضبط متقاعدين من «الشاباك» الإسرائيلي، بل إن فتيات الليل المحترفات العاملات بالملهى كُن يحملن بطاقات هوية أمنية صادرة من جهاز الأمن الوقائي، الذي تنعم بأرباح الملهى البالغة مليون دولار يوميًا، ثم إن غرض الملهى نفسه كان استضافة لاعبي القمار الإسرائيليين – والفلسطينيين أيضًا – وتوفير فضاء لإدارة الصفقات المشبوهة بين الجانبين.أما عن التنسيق الأمني فحدث وليس عليك حرج، لأن الحرج كله كان من نصيب «ياسر عرفات»، الذي بدا عاجزًا عن كبح انفلات «الرجوب» وجهازه، ولعل أسوأ حادثتين علقتا بسمعة الرجل هما تعذيب وقتل «محيي الدين الشريف»، مهندس المفرقعات في حركة حماس عام 1998، وقبلها تسليم خلية من حركة حماس في الضفة الغربية معروفة باسم «خلية صوريف» لقوات الاحتلال في 1997.وجاءت انتفاضة الأقصى لتكشف مساحة جديدة مما يمكن أن يذهب إليه «الرجوب»، فبعد أيام من زيارة «آرييل شارون» للمسجد واشتعال موجة الغضب الشعبي الفلسطيني، طلب أصدقاء «الرجوب» منه نزول المسجد الأقصى وتهدئة المرابطين فيه، وهي الخدمة التي لم يضن بها الرجل على أصدقائه، فذهب ثم ما لبث أن ولى هاربًا بعدما انهال المرابطون على رأسه بالشتائم.وفي ذروة الانتفاضة عام 2002، أمر «الرجوب» رجاله والعاملين بمقر جهاز الأمن الوقائي ببلدة بيتونيا في رام الله بتسليم المقر للقوات الإسرائيلية، رافضًا الإفراج عن 23 سجينًا من رجال المقاومة، ورافضًا تدمير أوراق ووثائق تضم معلومات عن التنظيمات المسلحة، وفي العام ذاته طفح كيل «عرفات» وأبعد «الرجوب» عن رئاسة الأمن الوقائي بالضفة الغربية، بعدما عاث فيها لسنوات بلا رادع.


الحلم

ملهى الواحة كان عنوان تطبيع فج وصارخ، تولى حراسته رجال «الرجوب» ومتقاعدين من «الشاباك»، وفتيات الليل فيه كُن يحملن بطاقات هوية صادرة من الأمن الوقائي.

لماذا قال «الرجوب» ما قاله بخصوص حائط البراق؟ الأرجح أن التفسير لن يخرج عن واحد من اثنين؛ أولهما، أن الرجل هو التعبير الصريح عما تتحرج السلطة من التصريح به رسميًا، فتوعز له بإطلاقه كبالون اختبار عالمة أنه، وهو ذو السمعة المشوهة أصلًا، لم يعد يعبأ بأي نقد أو استنكار، والهدف في النهاية هو التلويح بتنازل ما من جانب السلطة الفلسطينية للإسرائيليين، من أجل تحريك المفاوضات المجمدة منذ وقت طويل.

«الرجوب» لم يبذل جهدًا لإخفاء نوازعه الاستقلالية وغرامه بممارسة السلطة والقيادة، ولعله يرى الآن فرصة سانحة للحلول محل «أبو مازن».

التفسير الثاني، هو أن الرجل ربما يرى أن المنطقة مقبلة على ترتيبات جديدة تغري الإسرائيليين بالتخلص من «محمود عباس»، بعدما استنفد الغرض من وجوده، مثلما فعلوا مع «ياسر عرفات» من قبل، ثم إنه يعلم جيدًا أنه هو الطراز المفضل والمريح في التعامل لدى الإسرائيليين، وهو على كل حال لم يبذل جهدًا لإخفاء نوازعه الاستقلالية وغرامه بممارسة السلطة والقيادة، ولعله يرى الآن فرصة سانحة للحلول محل «أبو مازن».إن العجيب في الأمر ليس تصريح «الرجوب» بوجوب تبعية حائط البراق للسيادة الإسرائيلية، وإنما نفيه ذلك على حسابه بموقع «فيس بوك»، زاعمًا أن كل ما قاله بهذا الصدد هو أن الرئيس الأمريكي «دونالد ترامب» زار حائط البراق بمفرده دون أن يصطحب معه أي إسرائيلي، إقرارًا منه بعدم شرعية السيادة الإسرائيلية على الحائط، وهذا مع أن مقابلته مع القناة الثانية الإسرائيلية مسجلة ومذاعة، قال فيها نصًا بالعبرية « نحن نفهم أن هذا المكان مقدس لليهود، وفي نهاية المطاف يجب أن يكون تحت السيادة اليهودية، نحن لا نجادل في ذلك».