كان خواكين يشعر بالغرابة، لا شك كلما تأمل الاسم الذي منحه إياه والديه، مقارنة بالأسماء الجميلة لبقية أشقائه (River- Rain- liberity- summer). هذا الاسم كان مصدر إحراج مستمر في طفولته، حيث لا أحد كان ينطقه أبدًا بالطريقة الصحيحة، وهو ما دفعه للتخلي عن اسمه لعقد من الزمن ليصير اسمه «ليف»، قبل أن يستعيد اسمه الأصلي من جديد، ربما آمن في النهاية بأن هذه الغرابة التي تسكن اسمه هي قدره، تمامًا كتلك الندبة فوق شفته العليا، والتي يؤكد أنه ولد بها، هذه الغرابة التي ستظل تلاحقه أو يلاحقها هو في أغلب الشخصيات التي يجسدها علي شاشة السينما.

التاريخ المثير لعائلة فينيكس

عاش سنوات طفولته الأولى متنقلًا مع عائلته من مكان إلى مكان، في حالة دائمة من العوز والفقر. كان الأب جون بوتوم، والأم آرلين، مثل بقية الشباب الأمريكي في نهاية الستينيات، يبحثون عن طريقة مختلفة للعيش.

انضما آنذاك إلى طائفة دينية تسمى «أطفال الرب»، تمزج بين تقاليد المسيحية وطريقة عيش الهيبز. كانا يتنقلان عبر أمريكا بعائلتهما التي تزداد مع الوقت كمبشرين لطائفتهما، لم تكن لهما مهنة أو دخل ثابت، عاشا على التبرعات، كان ريفر ورين أكبر أبنائهما يغنيان في الطرقات من أجل المال.

قرر الوالدان ترك الطائفة بعد أن قرر زعيمها استخدام نساءها من أجل إغواء الذكور من خارج الطائفة للانضمام إليها. هذا الطائفة التي سيوجه لها بعد ذلك تهم عديدة، منها الاستغلال الجنسي للأطفال. ريفر الابن الأكبر للعائلة، والذي سيصبح فيما بعد نجمًا سينمائيًّا واعدًا، سيصرح في أحد حواراته أنه تعرض أثناء وجوده داخل الطائفة لتجربة جنسية في سن الرابعة.

دون وظيفة أو دخل، اضطرت العائلة كلها للإقامة في غرفة واحدة في بناية لا يسمح للأطفال بالوجود بها، مما كان يجبر الأطفال على الاختباء لساعات في حال وجود مالك البناية.

غيرت العائلة لقبها إلى فينيكس من أجل بداية جديدة، تيمنًا بالطائر الأسطوري الذي يبعث من رماده، وانتقلت إلى لوس أنجلوس في محاولة لإيجاد فرصة لأحد أطفالهم الموهوبين جميعًا في مجال التليفزيون أو السينما. وهو ما سيحدث بالفعل مطلع الثمانينيات، سيجد الأخوان فينيكس، ريفر وخواكين، طريقهما إلى عالم الأضواء، في البداية عبر الإعلانات، أدوار صغيرة في عروض تليفزيونية، ثم السينما.

لكن الأخ الأكبر، الأكثر وسامة وكاريزما وصاحب الموهبة الكبيرة، هو الذي سيلمع سريعًا متحولًا إلى نجم واعد، بينما خواكين الذي كان يكتب اسمه على التترات آنذاك «ليف»، عُرف فقط على أنه الأخ الأصغر لريفر.

يقرر خواكين مع نهاية عقد الثمانينيات الابتعاد عن الأضواء، ولكنه سيعود إليها من جديد عام 1993، هذه المرة ليس عن طريق دور سينمائي جديد، بل عبر تراجيديا وفاة أخيه الأكبر بجرعة زائدة من مزيج الكوكايين والهيروين والفاليام.

كان خواكين هو الذي أجرى مكالمة الطوارئ من أجل إسعاف أخيه، وهي المكالمة التي انتشرت في كل وسائل الإعلام بوفاة شقيقه الأكبر معيدة إياه للأضواء من جديد. هذه الحياة الخاصة الموسومة بالمعاناة والصدمات تركت بلا شك أثرًا لا يزول في نفسية واكين، وربما امتد ذلك لطبيعة الشخصيات التي يختارها أو الطريقة التي يجسد من خلالها هذه الشخصيات.

رحلة صعود وانبعاث خواكين فينيكس

بعد عامين من حادثة وفاة أخيه التراجيدية يعود فينيكس وقد استعاد اسمه القديم في أداء لافت في فيلم جاس فان سانت «To Die For»، يؤدي دور مراهق ساذج، مضطرب الشخصية تغويه بالحب امرأة خطرة من أجل أن يرتكب جريمة لها.

يستمر خواكين بقية عقد التسعينيات في أداء أدوار صغيرة في أفلام غير مهمة، لكن الملاحظ أن أغلب الشخصيات التي أداها خلال هذه الفترة كانت شخصيات غير نمطية وغريبة الأطوار.

يشهد عام 2000 انبعاثًا حقيقيًّا في مسيرة خواكين، ظهر في ثلاثة أدوار مهمة، أهمها بالتأكيد فيلم ريدلي سكوت الملحمي «Gladiator»، حيث أدي ببراعة لافتة وحضور طاغٍ شخصية القيصر كومودوس الغارقة في الشر وجنون السلطة. منحه الدور ترشيحه الأول لجائزة الأوسكار.

تأتي المحطة الثانية المهمة في مسيرة فينيكس عام 2005، عبر أدائه المدهش لشخصية المغني جوني كاش في فيلم السيرة الذاتية «Walk the Line»، الذي منحه ترشيحه الثاني لجائزة الأوسكار.

ما توقعه الجميع أن فينيكس بعد أدائه الممدوح والمقدر لشخصية جوني كاش سيحتل مساحة أكبر على الساحة السينمائية تليق بحجم موهبته، لكن فينيكس فاجأ الجميع في عام 2009 بأنه قرر اعتزال التمثيل من أجل احتراف الغناء، تحديدًا الهيب هوب.

يتذكر الجميع ظهوره في العام نفسه مع المذيع الأمريكي ديفيد ليترمان بهيئة مثيرة للريبة، متمتمًا بكلمات غير مفهومة.  ظن البعض أن الممثل يعاني  من انهيار نفسي وعاطفي، أو أن الأمر كله مجرد مزحة، ما سيتضح فيما بعد أنه جزء من وثائقي زائف (Mockumentary) عن نسخة متخيلة من خواكين نفسه من إخراج كيسي أفليك، الفيلم سيصدر في العام التالي بعنوان «I’m Still Here».

اللافت في هذا الفيلم، الذي لا يتذكره الآن أحد إلا كسقطة في تاريخ ممثله ومخرجه، هو مقدار تفاني الممثل في أداء دوره حتى على حساب صورته أمام الجمهور أو مسيرته المهنية. ما يخبرنا به خواكين أن الفيلم حرره من الداخل كممثل، بمجرد أن ظهر أمام الجميع بمظهر الأحمق بإمكانه الآن أن يفعل أي شيء.

وفيما يبدو أن ما يقوله واكين حقيقي تمامًا فأداءاته التي تلت فيلمه المذكور هي الأفضل في مسيرته، والأكثر جرأة.

أهمها بالتأكيد فيلم بول توماس أندرسون «The master»، الذي منحه ترشيحه الثالث لجائزة الأوسكار كأفضل ممثل، ودوره في تحفة سبايك جونز «Her»، ثم دوره في فيلم الإنجليزية لين رامسي «You Were Never Really Here» الذي منحه جائزة أفضل ممثل في مهرجان كان 2017.

أن تمثل: أن تعيش فقط في اللحظة الراهنة

بإمكاني أن أصور «خواكين فينيكس» من الخلف، دون حتى أن أرى وجهه، ومع ذلك أستطيع أن أعرف بما يشعر الآن، إنه لم يؤدِّ أبدًا شخصية جوني كاش، لقد كان جوني كاش.
جيمس مانجولد، مخرج فيلم «Walk the Line»

ما يخبرنا به جيمس مانجولد هو أحد أهم مميزات خواكين فينيكس كممثل، ألا وهو قدرته المدهشة على التحول الكامل إلى الشخصية التي يؤديها.

التحول خاصية أساسية في فن التمثيل، إنه انسلاخ عن الذات، وتقمص للآخر. هناك ممثل يلتحم بالشخصية التي يؤديها على مستوى سيكولوجي عميق، لكننا نكون على وعي دائم بحضور ذاته كممثل، وهناك ممثل آخر يختفي تمامًا داخل الشخصية التي يؤديها، يذوب الممثل تمامًا داخل كينونة متخيلة كمن يهرب إليها. ممثل مثل خواكين بتاريخه العائلي والنفسي أقرب إلى النوع الثاني، الذي يهرب من ذاته الحقيقية ليغيب تمامًا في شخصيات متخيلة.

يرجح ذلك إلى ما يخبرنا به خواكين في حواراته من أن الأداء التمثيلي في أفضل أحواله هو الوصول لحالة حيث لا توجد سوى اللحظة الراهنة، أن تعيش هنا والآن في إهاب الشخصية، أن تتخلص من وعيك بكل ما تشعر به أو تفكر فيه كممثل في حياتك اليومية، مخاوفنا ورغباتنا، وكل ما يصنع ضعفنا الخاص، كل شيء يختفي، ولا يوجد سوى اللحظة الراهنة. هذه هي اللحظات التي أطاردها كممثل.

وهو ما يرجح أن التمثيل بالنسبة لخواكين هو محاولة للانفصال عن الذات بكل تاريخها المؤلم، والعيش للحظات داخل شخصية أخرى.

هناك أيضًا مميزات أخرى في طبيعة الأداء التمثيلي تجعله مستحقًا للمكانة التي وصل لها كممثل، الجسدانية (physicality)، القدرة على التعبير بلغة الجسد عن مشاعر وطبيعة الشخصية التي يسكنها، يمكنك أن تتأمل ذلك في فيلم «The master» للمخرج بول توماس أندرسون، تقوس ظهره الذي يمنحه مظهرًا حيوانيًّا والتواءة وجهه الدائمة التي تجسد الغضب المتأصل في شخصيته، تقلصات عضلات وجهه، تمتمته غير المفهومة، كل ذلك يمنحنا زخمًا تعبيريًّا مدهشًا ويساعد في فهمنا لشخصيته فقط عبر أدائه التمثيلي.

يمتلك واكين أيضًا هذه البراعة النادرة في الانتقال بين مشاعر شتى في مدى زمني قصير جدًّا، يمكنك أن تشاهد ذلك في أغلب أعماله، لكن بشكل أكثر حضورًا في فيلمي «The master»، و«Her».

عراب الشخصيات المركبة

أحمل الكثير من الحب لخواكين فينيكس، ما يجعله في ظني مدهشًا هي تلك الحساسية وهذا الذكاء اللذين يجلبهما معه إلى كل شخصية يؤديها، إضافة لقدرته المذهلة على تجسيد الجانب المظلم في شخصياته. أقارنه دومًا بمونتوجمري كليفت، ومارلون براندو، إنه في مرتبتهم نفسها. أظن أنه قادر على تصوير صراعاتنا الداخلية عبر شخصياته بأوضح طريقة ممكنة وبدون كلمة واحدة.
المخرج الأمريكي «جيمس جراي».

يبدو جراي، الذي أدار خواكين في أربعة من أفلامه، من أكبر المتحمسين لموهبته. منحه خواكين أيضًا أداءات استثنائية في هذه الأفلام، نجد ذروتها في فيلميه «We Own The Night»، و«The Immigrant».

يمكننا أن نمسك طرف الخيط من جراي لنستكمل مديحًا مستحقًا لخواكين فينكس، فما يميزه أيضًا إلى جانب قدرته على التعبير عن الجانب المظلم لشخصياته، أنه مهما كان مقدار هذا الشر أو الظلام الذي يسكنها فهو قادر على التعبير أيضًا عن ضعفها وهشاشتها الداخلية، ما يجعل هذه الشخصيات قادرة على الوصول بسلاسة للجمهور وملامسته من الداخل.

اقرأ أيضًا: الجوكر في السينما: «واكين فينكس» ينافس كل من سبقوه

إنه أيضًا رغم الزخم التعبيري الذي يمنحه شخصياته قادر على الإبقاء على هالة من الغموض تحيط هذه الشخصيات، ما يجعلها أكثر ثراءً وعمقًا.

من أجل كل ما تقدم، يشعر الجميع بحماس كبير في انتظار دوره القادم في جوكر تود فيليبس، الشرير الأيقوني في عالم الكوميكس، والذي سيعرض في أكتوبر من هذا العام.

خواكين فينيكس ممثل من طينة العظماء، ولا شك مسيرته الإبداعية في أوجها الآن، ونحن دائمًا في انتظار ما تجود به علينا موهبته الكبيرة.