يقول المناضل الأمريكي مالكوم اكس، «أحياناً يجب أن ترفع السلاح لكي تتوقف عن حمله»، بالمثل يبدو أن جون ويك قد قرر أن يستمر في رفع سلاحه في وجه الجميع لكي يتمكن من العودة ثانية لعزلته.

في الجزء الرابع من ملحمة جون ويك، تستمر الرحلة السيزيفية لجون ويك، تماماً مثلما ذكرنا في مراجعة الجزء الثالث، يبدو جون ويك وكأنه يقذف من فوق جبل، وفي كل مرحلة تتلقفه مجموعة جديدة من القتلة، ينجح في قتلهم لكننا نراه في النهاية مصابًا ومغطى بالوحل، ليستمر في رحلة لا تنتهي من العذاب. 

ما الذي جمع بين فلسفة جون ويك وفلسفة مالكوم إكس، والأهم، هل نحن هنا أمام فيلم الأكشن الأفضل، من بين الجميع؟

من نيويورك إلى كل الدنيا

بدأت سلسلة جون ويك في عام 2014، حينها كان نجم كيانو ريفز قد خفت، عاد الرجل رفقة منفذ مخاطراته وصديقه تشاد ستاهليسكي من العدم لصنع سلسلة الأكشن الأنجح في تاريخ ريفز التمثيلي. 

الخطة بدأت بعالم الكونتينتال في نيويورك، عالم يسكنه القتلة المحترفون ويعيشون فيه وفقاً لكود خاص، العالم يمتد في الأجزاء المتلاحقة لنكتشف مواقع في أنفاق تحت مدينة روما القديمة، وقتالات رفقة كلاب مدربة في حارات كازابلانكا. 

في الجزء الرابع يصحبنا ستاهليسكي من الصحراء إلى شوارع نيويورك مرة أخرى، ومنها إلى كنائس برلين ونواديها الليلة، ثم إلى اليابان وأضوائها وظلامها، وصولاً إلى باريس، مدينة النور والدماء. 

المواقع تلعب هنا دوراً رئيسياً في أحداث، والأهم في تصميم تتابعات الأكشن، الأكشن الذي تتفوق فيه سلسة جون ويك على الجميع. 

تتابعات لا تنتهي من الأكشن 

هناك أفلام أكشن جيدة بنيت على 4 أو 5تتابعات أكشن طويلة، ما يفعله تشاد ستاهليسكي في الجزء الرابع أمراً آخراً، هنا نحن أمام من 12 إلى 14 تتابع أكشن طويل، هذه تتابعات تكفي ببساطة ل4 أو 5 أفلام أكشن. 

الأمر لا يتعلق هنا بالعدد وحسب، لكنه يتعلق بالجودة أيضاً، والقدرة على خلق تتابعات جديدة، طرق جديدة للاشتباك، استغلال مختلف لمواقع التصوير، موسيقى مصاحبة مناسبة للسياق، والأهم أن يؤدي التتابع وظيفته في عملية السرد ونقل الحكاية خطوة للإمام.

كل التتابعات في جون ويك 4 تنجح في هذا الاختبار، يضاف لذلك تتابع أكشن قد يكون الأفضل ليس في أفلام جون ويك وحسب، لكن ربما في كل أفلام الأكشن الأمريكية. 

الجزء الرابع من جون ويك يعمل تماماً كلعبة فيديو، كل تتابع أكشن يمثل مرحلة من اللعبة، في كل مرحلة يحاول بطلنا البقاء على قيد الحياة، يقاتل بكل الأشكال والأسلحة الممكنة، من قتال على ظهر الأحصنة، مروراً بتتابعات من القتال باستخدام الننشاكو، وصولاً لقتال باستخدام سيارات وعربات تتصادم وتتطاير وسط زحام باريس. 

لكن التتابع الأفضل هنا هو تتابع يتم تصويره مكتملاً من زاوية عين الإله/ عين الطائر، بحيث يبدو أننا فعلاً في لعبة فيديو. 

الفارق أن تشاد ستاهليسكي يحافظ على بصمته وأسلوبه في تصوير تتابعات جون ويك منذ اللحظة الأولى، لا لاستخدام العدسة القريبة، المشاهد كلها تصور كلقطات بعيدة تسمح لنا بمشاهدة كل التفاصيل الممكنة، وبأقل عدد ممكن من القطعات، يستمر القتال كرقصة، ينفث ويك النار من أحد المدافع اليدوية وهو ينتقل من غرفة إلى أخرى، مع أضواء النار والظلال، يبدو وكأننا في رقصة حربية، يصبح القتل هنا أمراً هامشياً.

عالم وأبطال وقواعد 

كيف يمكنك صناعة تتابعات أكشن طويلة بلقطات بعيدة بأقل عدد من القطعات المونتاجية، أنت بحاجة أولاً لممثلين يمكنهم أداء مشاهدهم دون قطعات ودون استخدام بديل أو مؤدٍ للمخاطرات، عمل تشاد ستاهليسكي شخصياً كمؤدٍ للمخاطر ومنسق لها في العديد من الأفلام، تلقى شخصياً اللكمات بدلاً من كيانو ريفز نفسه في أفلام أخرى، لكنه هنا لا يفعل ذلك. 

أخرج تشاد ستاهليسكي حتى الآن فقط 4 أفلام، هم أفلام جون ويك، وتماماً مثل عالم الكونتينتال المحكوم بقواعد صارمة، فإن أكشن جون ويك أيضاً محكوم بقواعد واضحة، الأبطال يؤدون مشاهد الأكشن بنفسهم، تدرب كيانو ريفز لأسابيع لكل مشهد وحده، تضمن ذلك التدريب على استخدام أسلحة جديدة.

 يضاف لذلك اختيار ستاهليسكي لأبطال أكشن على نفس القدر من التفاني والمهارة، هنا في الجزء الرابع يضاف لقائمة أبطالنا نجم الأكشن الآسيوي دون ين، الرجل الذي برز في أكشن هونج كونج في التسعينيات ثم اجتذب الانتباه الأمريكي متأخراً بعض الشيء، لكنه هنا يبرز كقاتل أعمى يستمر في القتل من أجل حماية ابنته. 

يضاف للأبطال هنا الياباني الأسطوري هيروكي سانادا كمدير الكونتينتال الياباني، والإنجليزي سكوت ادكنز الذي يقدم هنا واحداً من أفضل تتابعات الأكشن في الفيلم، مع شخصية قاتل محترف غريب الأطوار يدير نادياً ليلياً في برلين، حيث يتطاير الرصاص على خلفية موسيقى التكنو، سكوت ادكنز يقدم أحد أفضل مشاهده هنا منذ سنين. 

كل تتابع في جون ويك وبالتبعية في الجزء الرابع تم التدرب عليه لأسابيع، ليس فقط للأبطال ولكن أيضاً للمؤدين والمصورين، يصرح تشاد ستاهليسكي بشكل متكرر أنه لا يفهم كيف تهتم أفلام هوليوود الضخمة بتدريب الأبطال ولا تدرب مصوري مشاهد الأكشن، يبدو الرجل القادم من ساحات الكيك بوكس وصفوف مؤدّي المخاطرات أكثر اهتماماً بالصناعة من استديوهات تكرر مشاهد الأكشن المصنوعة بواسطة مؤثرات CGI حتى مللناها جميعاً، يهتم الرجل بتدريب كل عناصر الصناعة، فتخرج تتابعات الأكشن سلسة، وممتعة، تماماً كرقصة. 

فلسفة العنف بين ويك ومالكوم إكس 

أنا لا أسميه عنفاً حينما يتعلق الأمر بالدفاع عن النفس، أنا أسميه ذكاء
مالكوم إكس 

الرابط قد يبدو غريباً حينما تقرؤه للمرة الأولى، لكن فلسفة الناشط والقائد الأمريكي من أصل أفريقي مالكوم إكس في استخدام العنف من أجل الوصول للسلام يمكن أن تصف رحلة جون ويك في الأربعة أفلام التي شاهدناها، الرجل بدأ الحكاية في سلام، اعتزل القتل من أجل حبيبته، فاجأه القدر بموتها، أراد أن يعيش ليتذكرها ويبكيها رفقة كلبه. 

تبدأ الحكاية بمجموعة من توافه المجرمين تقتل كلبه وتسرق سيارته، ليبدأ جون ويك رحلة القتل من أجل أن يعود إلى سلامه، في الجزء الرابع ومن بدايته يحاول جون ويك التوقف لكنه يجبر على الاستمرار في القتال دفاعاً عن نفسه، الكل يطارده، الكل يريد قتله، والكل مهدد بقتل أقرب الناس إليه من أجل اتباع تعليمات الطاولة العليا. 

المثير للتأمل أن هناك أمرين مقدسين في هذا العالم، لكل رجل أو امرأة في هذا العالم ابنة يتم تهديدهما بها، وإذا رأيت كلباً في عالم جون ويك فلا تمسه، إن مسسته سوف تقتل بأكثر الطرق قسوة. 

الفارق بين مالكوم إكس وجون ويك أن عالم مالكوم إكس كان مرئياً، مالكوم إكس كان يدافع عن حقوق المجتمع الأفريقي الأمريكي، وكان يرى أن العنف مبرر تماماً لتوقف الأوضاع العبوجية، أما عالم جون ويك فيبدو وباختيار واعٍ من أفراده غير مرئي، لا قتال من أجل أفكار كبرى، القتل هنا من أجل التحرر الشخصي للهروب من هذا العالم، يتقاتل جون ويك مع أحد القتلة المحترفين في برلين، لكن الجموع تستمر حولهم في الرقص، في مشهد آخر يتطاير الرصاص بين جون ويك ومن يحاولون قتله حول قوس النصر في أحد أكثر الميادين ازدحاماً في العاصمة الفرنسية باريس، لكن العربات لا تتوقف، بل حتى لا تتوقف حينما تصدم جون ويك أو أعداءه، يبدو البشر عموماً في أفلام جون ويك بلا قيمة. 

العنف ما بعد الحداثي يستمر، يصبح كما كررنا في هذا المقال «رقصة»، وسيلة للمتعة، للتنفيس والتطهر. 

قبيل هذا الفيلم كان التأويل السيزيفي حاضراً في تعليقات الأصدقاء على الفيلم، لكن التأويل يصبح أكثر وضوحاً هنا، في أحد تتابعات الفيلم يحاول جون ويك صعود سلم مليء بالقتلة المحترفين، ما إن يتخلص منهم واحداً تلو الآخر حتى يتم قذفه ليبدأ الصعود من الأسفل مرة أخرى. 

يبدو استدعاء سيزيف هنا حتمياً، سيزيف الذي لا يعرف كثيرون أنه كان أحد أكثر الشخصيات مكراً في الميثولوجيا الإغريقية، الرجل الذي استطاع أن يخدع الموت مرتين، حتى غضب زيوس، فعاقبه بأن يحمل صخرة من أسفل الجبل إلى أعلاه، فإذا وصل القمة تدحرجت إلى الوادي، فيعود إلى رفعها إلى القمة، ويظل هكذا إلى الأبد. 

ينتهي الفيلم بأمل في التحرر لجون ويك، لكن تماماً كما قال مالكوم إكس، إذا لم تكن على استعداد للموت، فاحذف كلمة التحرر من قاموسك الشخصي. 

هل تنتهي حكاية جون ويك هنا؟ سؤال لا يمكننا الإجابة عليه، لكن المؤكد أن هذا الفيلم ربما قد يكون على رأس قائمة أفضل أفلام الأكشن في تاريخ هوليوود.