طالما استمتعت بصناعة الأفلام الكوميدية، لكن شيئاً ما تغير في العالم، خلال السنوات القليلة الماضية. بالنسبة لي، دائماً كانت الكوميديا مبنية على الحقيقة، لكن في السنوات الماضية، صارت الحقيقة منفرة، من الصعب أن تكون مضحكاً، إذا كانت الحقيقة منفرة.
المخرج الأمريكي تود فيليبس.

في فيلمه الأحدث والأكثر جدلاً (JOKER)، مبتعداً عن الأفلام الكوميدية التي شكلت غالب مسيرته كمخرج، يبني تود فيليبس فيلمه حول شخصية آرثر فليك/ خواكين فينكس مهرج يعمل لدى إحدى الوكالات التي تدير مواهب غير تقليدية، ويحلم أن يصير كوميدياناً، مؤدياً للعروض الكوميدية. آرثر فليك ليس سوى شرير عالم الكوميكس الأكثر أيقونية، الجوكر، خصم باتمان الأشد بأساً، لكن في مرحلة مبكرة قبل أن يصير الشخصية التي نعرفها جميعاً، يستغل فيليبس شعبية الجوكر ليمرر خلاله سردية مضادة للسردية التقليدية التي اعتدنا عليها، مهرج فيليبس يقلب عالم (DC) رأساً على عقب، بحيث يصير الشرير التقليدي هنا، بطل الهامش المضطهد الصاعد ضد نخبة رأسمالية مستبدة، بينما يضع بطلنا التقليدي بروس وين/ بات مان موضع إدانة مسبقة، حين يكبر الابن المدلل للنخبة الفاسدة عمن سيدافع؟

نكتة فيليبس التي لن تضحك أحداً

يفتتح فيليبس فيلمه بمشهد داخل الوكالة التي يعمل لديها آرثر تتحرك الكاميرا ببطء في اتجاهه، وهو جالس أمام المرآة، على الجانب الآخر من الكادر لدينا زملاء العمل، لا أحد يبدو أنه يعير اهتمامه لآرثر، مؤطراً بذلك من البداية عزلة بطله. يجاهد آرثر أمام المرآة من أجل أن يضع ابتسامة على وجهه، حركة الكاميرا المهتزة والمحمولة باليد تعكس اضطراب داخله، نشاهد انعكاسه داخل المرآة عبر لقطة وجهة النظر الذاتية لآرثر، ومنذ هذه اللحظة يستند فيليبس في سرده بشكل يكاد يكون كاملاً إلى السرد المقيد برؤية آرثر الذاتية، نعايش معه نفس الكابوس، ونتلقى معه الضربات التي تتوالى على جسده وروحه، نهبط معه بطيئاً نحو هاوية الجنون، محققاً بذلك قدراً هائلاً من التوحد مع بطله.

شخصية مثل شخصية الجوكر تكتسب قدراً هائلاً من جاذبيتها، عبر غموضها، نحن لا نعرف على وجه اليقين ماذا حدث في ماضي الشخصية لتؤول إلى ما هي عليه الآن. آلان مور الدي كتب المزحة القاتلة والذي كان قد أشار إلى أن الجوكر في ماضيه كان كوميدياناً فاشلاً، قال عن شخصية الجوكر:

ينبغي لماضيه أن يظل مجهولاً، وإذا أردنا أن نضيئه، ينبغي أن نجعله قابلاً لكل الاحتمالات.

هذا المنظور الذاتي للسرد، مع وجود سارد غير موثوق به مثل آرثر، نتيجة أن لديه تاريخ مع المرض العقلي، ولأننا نكتشف عبر السرد أن هناك فانتازيات أو هلاوس يعيشها آرثر لم تحدث في الواقع، مثل حكاية الحب مع جارته، أو مشهد آخر أثناء مشاهدته برنامح مقدم العروض التلفزيونية الشهير موري فرانكلين/ روبرت دي نيرو، الذي يعتبره آرثر مثله الأعلى، يتخيل أشياء لم تحدث فعلاً. قرب نهاية الفيلم ومع قطع الدعم الحكومي لعلاجه النفسي، يتوقف آرثر عن تناول علاجة، وتتدهور حالته العقلية، وبالتالي يصير السرد هنا تحت رحمة عقله المشوش والمعذب والآخذ سريعاً في الهبوط نحو جنون كامل.

وبالتالي لأننا مقيدون برؤية آرثر، فنحن لا نعرف على وجه اليقين نسبة الخيال من الحقيقة فيما نراه على الشاشة، وهذا يحافظ على غموض شخصية الجوكر. على الرغم من محاولة فيليبس إضاءة شخصية الجوكر عبر ماضيها، يظل هذا الماضي قابلاً لاحتمالات عدة، خاصة مع النهاية التي تلقي بالشك على سردية الفيلم بكامله.

المرجعيات والإحالات السينمائية للفيلم

يعتمد فيليبس في تيمات فيلمه وتكنيكه الإخراجي على العديد من المرجعيات السينمائية، كما يكتنز فيلمه أيضاً باحالات إلى أفلام أخرى، بعضها مجرد تحية لمخرجين تأثر بهم وألهموه، وأخرى تثري نصه، وتقدم مفاتيح مهمة لقراءته، يحاول فيليبس أن يجذر  كل شيء في الواقع، جوثام هنا أقرب إلى نيويورك نهاية السبعينيات، وبداية الثمانينيات، التأثير الأكبر على فيلم فيليبس يعود للمخرج مارتن سكورسيزي خاصة في فيلميه سائق التاكسي وملك الكوميديا، التي تتبنى تيمات الاغتراب، والوحدة، وحيث شخصيات مضطربة تتجاوز كونها ضحايا لمجتمع متفسخ عبر العنف.

هنا تأثر بأفلام سيدني لوميت ذات النبرة الغاضبة مثل (Network)، (serpico)، وتحفة ويليام فريدكين (french connection). هناك أيضاً إحالات إلى سايكو هيتشكوك، حيث الابن المستحوذ عليه من شخصية الأم،فيلم زورو، حيث البطل يمارس انتقامه تحت قناعه الأيقوني. لدينا أيضاً تحفة شابلن (moden times)، حيث حالة شارلي الأساسية، هي حالة المتشرد الأبدي، هجائية مبكرة لمجتمع الرأسمالية وعصر الآلة التي تسحق الإنسان بين تروسها.

هذه المرجعيات والإحالات تجعل من فيلم فيليبس، نصاً غنياً بالمجازات،شديد التركيب، مثلما تضيء بطله وعالمه.

كيف تكونت شخصية الجوكر إذاً في نسخة فيليبس؟

في سبيل نقده للمجتمعات الرأسمالية الحديثة، وما تتركه التغيرات الاقتصادية والاجتماعية على بنية العائلة، يتحدث الفيلسوف هربرت ماركيوز عن تقوض سلطة الأب في هذه المجتمعات، يتحدث عن مجتمع بلا أب، وما يتركه ذلك على البنية  النفسية للأفراد، يتكون لدينا نمط جديد من الشخصيات المتشظية، شخصيات ذات هوية سائلة ومتغيرة نتيجة فقدانها الدعم الداخلي (القيم والأفكار التي يتم استبطانها عبر شخصية الأب)

هذه أول ما نلاحظة على جوكر فيليبس، الذي يفتقد إلى رمزية الأب في حياته النفسية، إنه شخصية متطايرة، بلا مركز أو ثقل داخلي. لا توجد لديه قناعات أو أفكار خاصة، كل شيء مفروض عليه من الخارج، حلمه الذي  يسعى إليه يائساَ، أن يصير كوميدياناً، هو حلم أمه الفصامية التي تتوهم أشياء لا وجود لها: أنت خلقت لتجلب السعادة لهذا العالم البائس. تناديه دائماً (هابي) دون أن تنتبه لمدى بؤس واقعه. إنه متوحد تماماً مع الصورة المفروضة عليه من الأم، برسونا/ قناع المهرج الذي يتناقض تماماً مع داخله المتألم، ربما هذا ما يفسر ضحكاته القهرية، إنها ضحكات مؤلمة يكاد يختنق تحتها، لأنها لا تعكس حقيقة ذاته.

حتى لجوؤه للعنف كحل، لم يأتِ عن قناعة داخلية، بل باقتراح من زميل عمل، حين يعطيه  مسدساً، وما يحدث بعد ذلك، إنه دفاعاً عن نفسه يستخدمه للقتل، لكن العنف الذي مارسه، جعله موجوداً ومرئياً، هو الذي اعتقد دوماً أنه غير موجود، لقد حرر العنف موسيقاه الداخلية، منحه الرقصة التي ستصير بمثابة إعلان عن ميلاد شخصيته الجديدة.

هذه الذات المتشظية، بين جنون الأم وخيانة الأب (سواء الأب الحقيقي المجهول، أوالبديل/ موري فرانكلين) تفتقد تماماً للمعنى والقيمة في حياتها. مع مجتمع رأسمالي ضاغط، شديد الاستقطاب،متفسخ وغارق في الفوضى، على غرار المجتمعات التي يصفها جيل دولوز، بأنها مجتمعات تنتج الفصام مثلما تنتج الشامبو والسيارات. يأتي انفصام آرثر،وجنونه عنيفاً، وحاملاً لقوة مشاعره السرية، ومتوهجاً بالهلاوس.

الأفكار الذهانية/ أعراض الجنون التي يعاني منها آرثر هي محاولة عقله المضطرب لخلق منظور جديد للعالم، عالم يكون فيه مرئياً وموجوداً ومحبوباً. هلاوس علاقة الحب مع جارته، أو مع موري فرانكلين، حين يصعده إلى جانبه في دائرة الضوء ليخبره، إنه يتمنى لو كان ابنه الحقيقي، أو ما يحدث عند نهاية الفيلم، حين يصير رمزاً وأيقونة لانتفاض الهامش المضطهد.

نشاهده بعد أن حرره فوضويو جوثام من أسر الشرطة، في حالة إغماء مشكلاً هيئة صليب على جسد إحدى السيارات، ومن حوله الحشود تهتف له أن ينهض، وهو ما يحدث فعلاً، ينهض جوكر فيليبس ليرقص رقصته على أنقاض المدينة التي طالما اضطهدته، يرسم هذه المرة ومن دون جهد ابتسامة دموية على وجهه الجديد.

القناع الهزلي للجوكر

يكتب ميلان كونديرا:

عندما يمنحنا المأساوي وهم العظمة الإنسانية، فإنه يحمل لنا شيئاً من المواساة، أما الهزلي فهو أكثر قسوة، إذ يكشف لنا بعنف افتقار كلي شيء إلى المعنى.

هذا ما يقصده جوكر فيليبس، حين يقول لأمه بعد أن اكتشف الحقيقة، وقبل قتلها:

لقد كنت أعتقد أن حياتي تراجيديا، ولكنني اكتشفت أنها كوميديا.

أن حياته بلا معنى تماماً، وهو ما يحاول عبر جنونه أن يجد حلاً له، أن يجد معنى لحياته.

جوكر فيليبس، رقصة مجنونة وكرنفال فوضوي وهزلي، يحمل روح اللحظة الحالية للعالم، يستعير فيليبس الحالة الذهنية لبطله، ليعيد تشكيل العالم حسب رؤيته محملاً فيلمه بهذيانات مخيفة.

فيلم فيليبس المتوج بأسد فينسيا الذهبي، يحمل في داخله من الأصالة والثراء، ما سيجعله، على ما نظن يصمد في مواجهة الزمن، متحولاً إلى كلاسيكية سينمائية.