يدخل رضا إلى العمارة التي يسكنها، يضغط زر المصعد، يهبط المصعد لكن لا وجود لرضا. تسعون ثانيةً فقط كانت بين ضغط الزر وهبوط المصعد، ويبدو أنها كانت طويلةً بما يكفي ليُمحى أي أثر لرضا هلال. لا وجود لأي آثار عنف، لا أحد شاهده يخرج من العمارة مرةً أخرى!

شغل رضا منصب نائب رئيس تحرير صحيفة الأهرام بعد أعوامٍ من تغطية حرب الخليج الثانية لصالح جريدة عراقية. الحادثة قديمة البداية منذ 11 أغسطس/ آب 2003، لكنها متجددة الفصول مع كل ذكرى لهذا الاختفاء المريب، كما أن نهايتها لم تُكتب حتى الآن.

لو كان السبب المباشر لاختفائه معلومًا لعُلم من يقف وراء هذا الاختفاء، لكن تناثرت الروايات حول هذا السبب. ما رواه أصدقاؤه، منهم عبدالحليم قنديل، أن التخطيط لإخفائه كان لبوحه عن معلومات سرية تتعلق بجمال مبارك، نجل الرئيس المصري الأسبق، في منتدى دافوس في يونيو/حزيران 2003. وقيل إنه لمح لشراكة جمال لمجموعة من يهود لندن.

اقرأ أيضًا: توماس فريدمان كمثال «الصحافة في خدمة أصحاب الجلالة»

يرى آخرون أن السبب كان جموحه السياسي وعلاقاته النافذة مع الجانب الأمريكي التي جعلته دائم التطاول على صفوت الشريف، أقوى رجال مبارك في حينها. أعد رضا لقاءً مع «ديك تشيني» نائب الرئيس الأمريكي جورج بوش قبيل غزو العراق.

كما التقى وزير خارجية إسرائيل آنذاك، سيلفان شالوم. تبع ذلك ظهورٌ متكرر لرضا في الإعلام على غير رغبة السلطة المصرية كما ورد على لسان مدير تحرير الأهرام آنذاك، سامي متولي. وآخر ما فعله رضا قبل اختفائه كان إظهار جواز سفر به تأشيرة سفر للولايات المتحدة حصل عليها في 48 ساعة فقط.

نفى حبيب العادلي، وزير الداخلية آنذاك، والرئيس الأسبق حسني مبارك، وعمر سليمان علاقتهم باختفاء رضا. جاء هذا النفي على لسان إبراهيم نافع، رئيس تحرير الأهرام الأسبق. ثم في 2011 ظهرت أقوال عن علاقة أمن الدولة باختفائه، ثم قدم شقيقه بلاغًا أن اتصالات وردته تفيد بأن أخاه في سجن برج العرب بالإسكندرية، وقال صحفيون إنهم شاهدوه في مستشفى للأمراض العقلية، وفي أبريل/ نيسان 2018 عادت القصة إلى الظهور من العدم بأن علاقةً غراميةً مع زوجة مسئول هي السبب وراء هذا الاختفاء.


عندما رَوَت دماؤهم الأرز

ما أن يتخذ المرء القرار بأن يصبح صحافيًا في هذه المنطقة عليه أن يدرك أن ذلك قد يؤدي إلى مقتله أو اغتياله
هكذا تنبأ جبران غسان تويني بمصيره

12 ديسمبر/ كانون الأول 2005 يوم جديد تشهده لبنان لكنه الأخير في حياة جبران، سيارةٌ مفخخة تكتب النقطة الأخيرة في قصته. كان المدير العام لمجموعة النهار الإعلامية التي أسسها جده وترأسها والده غسان تويني، وهو أيضًا ابن الشاعرة ناديا تويني. انتُخب عضوًا في البرلمان اللبناني قبل شهور من عملية اغتياله.

جبران يرفض أي تواجد غير لبناني على الأراضي اللبنانية، خاصةً التواجد السوري في الجولان. لم يترك سقطةً من سقطات النظام السوري ليوضح للشعب اللبناني أن الوصاية السورية خطر، وأن بشار الأسد لا يريد خيرًا لشعبه فكيف لشعب آخر. جهر بذلك صراحةً في خطابات متكررة وعلنية للأسد، حتى حين توقف عن الكتابة بنفسه فترة دخوله معترك السياسة، لم تتوان جريدته عن انتهاج خط العداء للتواجد السوري.

رثاء محمود درويش لسمير قصير. ليست الحرية وحدها من تتعطش إلى دم العشاق، بل لبنان كذلك. سمير كان لبنانيَ المولد، فلسطيني الأب، سوري الأم. يعمل صحافيًا في جريدة النهار، مسماه الوظيفي أنه يعمل لدى جبران تويني، لكن الاثنين متقاربين في السن والهدف، وموعد الموت، وطريقة الموت.

في يونيو/ حزيران 2005، يحاول سمير تشغيل سيارته لتنفجر عبوةٌ مفخخة زُرعت فيها. سمير كان ينتقد النظام البوليسي اللبناني، وينتقد بضراوة النظام العسكري الذي فرضته سوريا على لبنان. كانت نافذته الأولى على الصحافة جريدة «لوموند ديبلوماتيك»، ثم تسلم جريدة النهار بعد استقراره في لبنان.صادر الأمن اللبناني جواز سفره في البداية، فتدخل رفيق الحريري، اغتيل هو الآخر في فبراير/ شباط 2015، لحمايته. لكن اختار الأمن اللبناني أو النظام السوري أن يكتم صوت سمير بطريقته المفضلة.


أقلامه في قلبه

سليم اللوزي، وُلد في طرابلس، سافر إلى فلسطين ليعمل في إذاعة الشرق الأدنى، ثم إلى مصر ليعمل في جريدة روز اليوسف، ثم إلى بيروت عام 1950 بعد انتقاده السلطة المصرية، لتبدأ رحلة نهايته. أصدر مجلة الحوادث من هناك، لكن تمت مصادرة أعدادها في مايو/ آيار 1957 بسبب إحدى مقالته.

وفي 1973 دخل الجيش السوري لبنان لتصل حدة معارضة اللوزي إلى حد لم تستطع السلطة احتماله، فاضطر للهروب إلى لندن ليصدر المجلة من هناك. ثم 25 فبراير/ شباط 1980 ماتت والدته فعاد، رغم التحذيرات، لدفنها. قبض عليه في المطار ثم عُثر عليه بعد 9 أيام مقتولًا بطلقة في رأسه من الخلف، وذراعه اليمنى مسلوخة جلدها، وأصابعه سوداء من شدة التعذيب، وأقلامه مغروسة في قلبه من الخلف.

في الأردن هذه المرة، وبتاريخٍ حديث عام 2016،ناهض حتر. طالب الملك حسين بالإصلاح، أخبره أنه يفضل أهل الولاء له على المنتمين للوطن، يحب خريجي الجامعات الأمريكية بدلًا من خريجي معاناة الأردن، لذا تم اعتقاله أعوام 1977، 1976، 1979. ثم تعرض لمحاولة اغتيال عام 1980 قادته لسلسة من العمليات الجراحية. ثم صار رئيسًا لموقع كل الأردن الإلكتروني، وعمل في صحيفة العرب اليوم.

حتر يؤيد النظام السوري في الحسم العسكري على التمرد المسلح – على حد وصفه. كان يرى أنه يدافع عن سيادة الدولة في مواجهة مؤامرة خارجية. كما يؤمن بحزب الله كقوة عسكرية تحفظ حدود لبنان، وتساعد الأسد في معركته.

دخل السجن 15 يومًا في تحقيقات تتعلق بسب الذات الإلهية إثر منشورٍ له على موقع فيسبوك، لكن أُخلي سبيله في 8 سبتمبر/ أيلول 2016. وفي 25 من نفس الشهر توجه إلى قصر العدل لمواصلة التحقيق معه، لكن اختار قاتله أن يُنهي التحقيق سريعًا بثلاث طلقات في الرأس، ليسقط على أعتاب قصر العدل الأردني.


لا نهاية للمقال

إن الحرية، على ما فيها من جماليات، قد تتوحش ليلة العرس، وتتعطش إلى دم عشاقها وسمير قصير هو واحد من أجمل هؤلاء العشاق

آخر الأمثلة، في المقال لا في الواقع لأن الأمر لا ينتهي، تتشابه مع أولها. جمال خاشقجي يدخل مكانًا لا يخرج منه ولا يُعثر له على أثر. قد يتجاوز التشابه مجرد البداية، فربما تكون نهاية خاشقجي نهايةً مفتوحةً مثل رضا هلال، أو نهايةً بتعذيب وأجزاء مُقطعة بأقلام مغروسة في قلبه مثل سليم اللوزي.

اقرأ أيضًا: خرج ولم يعد: من هو المعارض السعودي «جمال خاشقجي»؟

قد تنزعج من ذكر أمثلة قديمة التاريخ، أو متماثلة المكان مثل لبنان، ربما تحدوك الرغبة لمعرفة أمثلة من دول أخرى، لكن ممارسة الصحافة في لبنان كمصر كالأردن كالعراق. يمكنك تغيير المكان والزمان والأسماء وستبقى لك قصةٌ واحدةٌ تتكرر مع كل صوتٍ يرتفع، أو صوتٍ يطلب، أو صوتٍ يختلف.

مقدار ارتفاعه يُقاس بما تحدده السلطة، ومطالبه جريمة بغض النظر عن ماهيتها، فالمطالبة بدل الرضا بالممنوح جريمة، واختلافه يُحدده كل من يحمل السلاح فردًا كان أو حكومةً.