ربما يكون من الطبيعي والمعتاد أن يكتب الروائي رواية كبيرة من 200 صفحة تعتمد بشكل أساسي على الفانتازيا والغموض والرعب، لكي ينقل تلك الحالة إلى القارئ بشكلٍ كامل، ولكن أن يكتب أحدهم قصة قصيرة لا تتجاوز عشر صفحات ونجد فيها هذا القدر من الإثارة والرعب و«حبس الأنفاس»، فهذه مهارة خاصة لا يقدر عليها الكثيرون.

في مجموعته القصصيّة الصادرة مؤخرًا عن دار الكرمة «أفراح المقبرة»، يعرض «أحمد خالد توفيق» تسع قصصٍ مختلفة تدور في عوالمه الأثيرة التي عرفها قراؤه وأحبوه من خلالها، مازجًا فيها بين الواقع والفانتازيا والأساطير وبين الغموض والإثارة وحس السخرية والفكاهة في الوقت نفسه، وهو يفعل كل ذلك من خلال قصص قصيرة تعتمد على التكثيف واختزال المشاهد والمواقف بشكل كبير، وينجح في كل مرة رغم هذا التكثيف في تصوير المشهد الذي يريد أن ينقله للقارئ مباشرةً.


البناء الكلاسيكي للقصة

في كتابه المهم والمؤسِس «فن كتابة القصة القصيرة» يتحدث «رشاد رشدي» عن «لحظة التنوير» في بناء القصّة فيقول:

وعلى الرغم من كلاسيكية هذا التصوّر، وتجاوز عدد من كتّاب القصة له، بل ربما التمرد عليه أيضًا، فإن «أحمد خالد توفيق» يبدو حريصًا كل الحرص على ذلك الشكل في بناء قصصه، بل إن «لحظة التنوير -النهاية» لديه في القصص التسع تبدو الأكثر إحكامًا في بناء القصة كلها، ولعل مرد ذلك إلى أن القصص أصلاً تنتمي كلها إلى عالم الإثارة والتشويق، لذا يكون من الضروري لها أن تحافظ على القارئ متشوقًا طوال قراءته للقصة لهذه اللحظة الكاشفة، وهو حتى إن دار في عقله بعض النهايات المحتملة فإن ذلك لا يمنعه من مواصلة القراءة والاستمتاع حتى بالتفاصيل الجانبية في القصة.


أسلوب أحمد خالد توفيق المميّز

المتعة، والتشويق، والإثارة: ثلاثة عناصر أساسية استطاع «توفيق» أن يضمنها قصص مجموعته كلها، ويبدو للقارئ المتابع لكتابة «أحمد خالد توفيق»، وربما تلاميذه أيضًا، أن تلك العناصر أساسية في تركيب وبناء الكتابة الأدبية عندهم، ولا شك أن أي كتابة أدبية تسعى إلى توفير قدرٍ من المتعة لقرائها، وإلا ما واصل القارئ قراءة العمل، ولكن تضافر عنصري الإثارة والتشويق قد يغيبان عن الكثير من القصص والكتابات الأدبيّة بشكل عام، ليحل محلهما التركيز على عناصر أخرى، كالواقعية السوداء مثلاً، والاهتمام بتشريح المجتمع، وغير ذلك.

يعتمد أسلوب «التشويق» الذي يسير عليه «أحمد خالد توفيق» في قصصه على التدريج في نقل الحدث ووضع لغز أو فكرة عامة غامضة يُبنى عليها النص ويظل القارئ في انتظار النهاية التي تكشف له السر أو توضح له الصورة، وفي أغلب القصص تأتي المفاجأة في النهاية عكس كل توقعات القارئ، تلك التوقعات التي تكون مطروحة أيضًا منذ بداية العمل، ولعل مكمن البراعة هنا في هذه المجموعة وغيرها أن يتمكن الكاتب من وضع خطة واستراتيجية للكشف عن اللغز أو السر في عدد أقل من الصفحات، لا يتجاوز ستين صفحة في أطول قصص المجموعة.

كذلك لا تخلو قصة من قصص المجموعة من الاعتماد على فكرة علمية أو تاريخية أو حتى أسطورية، تكون هي الأساس الذي تقوم عليه القصة وتدور حوله، فلا يبني «توفيق» قصصه من الخيال والفانتازيا فحسب، بل يعمد دومًا إلى عرض شيءٍ من ثقافته أو معلوماته التي تدور في أغلبها بين أروقة الطب والتاريخ وما بينهما من مصادر ومعلومات وغرائب ونوادر، لذا لم يكن غريبًا مثلًا أن يتحدث عن فكرة «مصاصي الدماء» وانتشارهم في الثقافات والشعوب المختلفة من الصين شرقًا إلى غانا وساحل العاج غربًا في القصة الأطول في المجموعة «نادي أعداء مصاصي الدماء».

كما نجده يعتمد على بعض الظواهر العلمية النادرة مثل حالة «زينوجلوسيا» التي يتحدث فيها الشخص بلغةٍ أجنبية لم يتعلم منها حرفًا من قبل في قصة «نيولوجيزم»، وغير ذلك من الحالات والمواقف العلمية النادرة منثور في قصص المجموعة، وكيف تكون مثل هذه الأفكار والظواهر مادة خصبة ليس للقصة التي يسردها «أحمد خالد توفيق» هنا، بل ربما لاستعادتها والدوران حولها مرة أخرى في عقول وكتابات عدد من القراء أيضًا.


السخرية ومخاطبة القارئ

إن كاتب القصة القصيرة لا يُعنى بسرد تاريخ حياة، أو إلقاء أضواء مختلفة على أحداث مختلفة، أو الإبانة عن زوايا متعددة للأحداث والشخصيات كما يفعل كاتب الرواية، لأن كاتب القصة ينظر إلى الحدث من زاوية معينة لا من عدة زوايا، ويلقي عليه ضوءًا معينًا .. فهو يهتم بتصوير موقف معين في حياة فرد أو أكثر لا تصوير الحياة بكاملها، ولذلك فإن النهاية في القصة القصيرة تكتسب أهمية خاصة، إذ هي النقطة التي تتجمع فيها وتنتهي إليها خيوط الحدث كلها، فيكتسب الحدث معناه المحدد الذي يريد الكاتب الإبانة عنه، لذا فنحن نسمي هذه اللحطة «لحظة التنوير».
ماذا عن «جابر هَبو» ورفيقيه؟ هذا ليس موضوعنا.. القصّة ليست بوليسية.. لربما قُبض عليهم أو هربوا أو قتلوا.. ليست قضيتنا كما قلت، فهي مجرد حبكة فرعية كما يقول كتاب السيناريو.. ولكن يبقى السؤال عن رجلٍ وزوجته بلغ بهما الحظ الحسن أن يُطلق عليهما سيلٌ من الرصاص فيظلان سليمين، فقط يبدو عليهما الرعب وينفضان الثياب. ما معنى هذا؟ معناه ببساطة أن هؤلاء قومٌ لا يموتون. أولاً الولد الذي مرت فوقه السيارة، ثم الأب والأم. ما تفسير هذا؟ أنت لا تموت لسببٍ واحد، هو أن تكون قد متّ فعلًا أو أنت شبح.
من قصة «عشر علامات»

أصبح من المعتاد والمتعارف عليه أن يحتوي كل نصٍ وأي كتابة «لأحمد خالد توفيق» على قدرٍ من السخرية، سواء كانت سخرية البطل من نفسه، أو من الموقف الذي يمر به، أو من مصر وما يجري فيها حتى، جنبًا إلى جنب مع توجيه الخطاب إلى القارئ، ومشاركته في الأحداث والمواقف بطريقة تجعله متفاعلاً بدرجة أكبر مع ما يقرأ ليبدو كأنه يتحدث معه أو مع صديقه، هذا ما يفعله أحمد خالد توفيق وما يجعل القراء متعاطفين دومًا مع أبطال رواياته وحكاياته مهما كانت غريبة وغير متوقعة.

تجدر الإشارة إلى أن هذه المجموعة ليست «الأخيرة» في إنتاج «أحمد خالد توفيق» القصصي، بل إننا نجد له عددًا من القصص المسلسلة المنشورة هنا في «إضاءات»، كان منها قصة «هشام يخفي سرًّا» المنشورة في هذه المجموعة، وقصص أخرى لما يتم تجميعها ونشرها بعد، هذا بالإضافة إلى عدد من المقالات الاجتماعية المهمة.

رحم الله أحمد خالد توفيق، فقد عاش عمره كله مخلصًا لكتابته المتميزة وأسلوبه الخاص، حريصًا على تقديم أعمال أدبية تجذب اهتمام الشباب، وترقَى بأفكارهم وعقولهم في الوقت نفسه.