لأكثر من 13 يومًا، ورغم حرارة الجو اللاهبة، رابطَ (أبو محمد) و(أبو عبد الله) في تلك المنطقة الخطيرة شرق جحر الديك على بعد بضع مئاتٍ من الأمتار من السياج الحدودي الفاصل بين وسط قطاع غزة، وأراضي فلسطين المحتلة.

 تمسَّكَ المرابطان التابعان لقوات النخبة في كتائب القسام، الجناح العسكري لحركة المقاومة الإسلامية (حماس) بهذا الموقع الحساس رغم القصف الإسرائيلي الواسع للمنطقة بسياسة الأرض المحروقة على مدار أيام، إذ كان المتوقع أن تكون تلك المنطقة من أوائل محاور الاجتياح البري لقطاع غزة الذي يهدد به العدو منذ اندلاع الحرب.

بالفعل حدث المتوقع، وفي فجر اليوم الرابع عشر، أنبأتْ وحداتُ الاستطلاع المرابطيْن بأن هناك تجمعًا لعدد من جرافات ودبابات العدو في بوابة النسر القريبة، وأن هناك توغلًا بريًا وشيكًا في منطقتهم. بعد دقائق هزَّ المنطقةَ دويَّ انفجارٍ هائلٍ، أعقبه صرخات استغاثة وتأوهات ألم باللغة العبرية لا تقل دويًا، وانقشع غبارُ الانفجار عن دبابة ميركافا إسرائيلية تقطّعت جنازيرُها إربًا إربًا، وتحولت دروعها إلى فولاذ مصهور. 

في ذلك الصباح المبكر من يوم ٢١ يوليو ٢٠١٤، نجح أبو محمد وأبو عبد الله في تفجير عبوة برميلية شديدة الانفجار زنتها ٦٠ كيلوجرامًا في الميركافا، وانسحبا بسلام من المنطقة التي تعرضت لقصفٍ انتقامي مسعور، ورويَا هذه القصة البطولية بعد مرور أكثر من عام على حرب غزة ٢٠١٤م، التي عُرفت بمعركة العصف المأكول. ولن تكون تلك الواقعة آخر ما سيشهده جحر الديك من فصول في كتاب المقاومة الباسلة ضد الاحتلال الإسرائيلي.

المنطقة المنكوبة بموقعها الحيوي 

على مسافة ستة كيلومترات إلى الجنوب الشرقي من قلب مدينة غزة، توجد منطقة جُحر الديك الحدودية، الملاصقة للسياج الحدودي الإسرائيلي وسط قطاع غزة من جهتها الشرقية، بينما يحدها من جهة الغرب طريق صلاح الدين الشهير الذي يسكنه قرابة خمسة آلاف من السكان جلُّهم من البدو، الذين يعملون في الزراعة وتربية الحيوانات. تبلغ مساحة المنطقة ستة كيلومترات مربعة، أكثر من 98% منها أراض زراعية منبسطة، تتخلَّلُها العديد من أشجار الزيتون والبرتقال، حتى أن البعض يصفون تلك المنطقة بسلة غذاء قطاع غزة. 

عانى سكان تلك المنطقة على مدار سنوات طويلة من الاعتداءات والتوغُّلات الإسرائيلية، وتخريب المزارع القريبة من السياج الفاصل، وسرقة المياه الجوفية عبر أنابيب ومضخات من تحت الأرض. كما ظلوا يشكون لسنوات من التهميش النسبي في مدى توافر الخدمات بتلك المنطقة المعزولة نسبيًا عن باقي أجزاء القطاع.

في الحربيْن الكبرييْن السابقتيْن على غزة، حرب 2008م و حرب 2014م، دفع سكان جحر الديك أثمانًا باهظة للاجتياح الإسرائيلي، حيث ارتقى عشرات الشهداء، ودمرت مئات المنازل والمزارع. فتلك المنطقة كانت دائمًا الهدف الأول لأي توغل بري إسرائيلي واسع في غزة لأنها المدخل الشرقي لمنطقة وادي غزة الفارغة – مخرٌّ للسيول – التي تفصل قطاع غزة إلى شطريْن شمالي وجنوبي.

 في حرب 2008م، وصفت الجزيرة حجم الدمار الذي لحق بجحر الديك من جراء العدوان الإسرائيلي بقولها إن إسرائيل أزالت جحر الديك من الوجود، ونقلت صدمة سكانها بعد عودتهم إليها إثر انسحاب القوات الإسرائيلية، إذ عجزوا عن التعرف على بيوتهم وشوارعهم بعد طمس الخراب معالمها. 

أما في حرب 2014م أصبح سكان جحر الديك من بين أكثر من 150 ألف مشرد في قطاع غزة، نتيجة الدمار الواسع في المناطق الشرقية من قطاع غزة، ما فاقمَ الأوضاع الصعبة التي بدأت منذ إحكام الحصار على غزة عام 2006م. وقد دمر العدو في تلك الحرب قرابة 900 منزل في جحر الديك كليًا أو جزئيًا. 

 وأسهمت بلدية منطقة وادي غزة بالتعاون مع العديد من الجمعيات الخيرية من الكويت وغيرها في تعويض المتضررين في الحروب السابقة، وإعادة بناء الكثير من البيوت، واستصلاح المزارع المتضررة. ولكن ها قد عاد العدو في هذه الحرب بمستوى غير مسبوق من القتل والتدمير، ولكن أتتْه جحر الديك من حيث يحتسبُ ولا يحتسبْ، وقذف المقاومون فيها في قلب جنوده الرعب.

طوفان جُحر الديك 2023

حلل يا دويري !

أحد مقاتلي كتائب القسام هاتفًا في حماسة بعد إصابة منزل تحصّن به بعض جنود الاحتلال في جُحر الديك بقذيفة، والمُنادَى هو اللواء فايز الدويري محلل قناة الجزيرة الرئيسي لحرب 2023م والمعروف بانحيازه الصريح للمقاومة.

أصبحت منطقة جحر الديك أحد أبرز عناوين صمود المقاومة وتميزها في هذه المعركة، حتى أصبحَ نجمُها يُزاحمُ مناطقَ الملاحم الأخرى مثل جباليا وخان يونس والشجاعية. وكان أبرز ما يلفت النظر في عمليات المقاومة النوعية المتكررة في تلك المنطقة، التي استمرت رغم مرور قرابة الشهرين على احتلال العدو لجحر الديك، وهي منطقة كما ذكرنا متناثرة المنازل ومنبسطة الأرض في مجملها، فليسَ فيها تضاريس تسهِّل على المدافعين مهمتهم، وبالتأكيد عوّضت شبكة الأنفاق العبقرية التي أنشأتها المقاومة غياب الطبيعة المؤاتية.

اقرأ أيضًا: خان يونس: تاريخ ونضال ومذابح

وقد نقذت المقاومة أكثر من عشرة عمليات نوعية كبيرة ضد قوات العدو في جحر الديك، سوى العديد من مرات الاستهداف لتجمعات العدو فيها بقذائف الهاون والصواريخ قصيرة المدى. وكانت بداية العمليات الكبيرة يوم 31 أكتوبر 2023م مع بداية الاجتياح البري الواسع، عندما استهدفت المقاومة ودمرت 4 آليات مدرعة للعدو، وفي العاشر من نوفمبر دمرت المقاومة حفارًا عسكريًا في جحر الديك، وبعد يومين، استهدفت كتائب القسام 3 آليات مدرعة على الأقل في تلك المنطقة، ثم عادت يوم 15 نوفمبر واستهدفت حفارًا عسكريًا ثانيًا، وأوقعت قوة مشاة مصاحبة له بين قتيلٍ وجريح.

في صباح يوم 19 نوفمبر ذكر أبو عبيدة، المتحدث الرسمي باسم كتائب القسام، أن المقاومين نجحوا في قتل 6 جنود إسرائيليين في جحر الديك بقذيفة مضادة للأفراد، وفي مساء ذلك اليوم، تبنت القسام استهداف قوة إسرائيلية خاصة متحصنة في منزل في جحر الديك بقذيفة الياسين-TBG الحارقة ثم اقتحموا المنزل وأجهزوا على من بقي فيه من الجنود. 

وفي يوم الثالث من ديسمبر، أصدرت كتائب القسام بلاغًا عسكريًا عن استهداف كبير بالعبوات الناسفة في جحر الديك أسفر عن سقوط عشرات القتلى والجرحى من جنود الاحتلال، وبثت لاحقًا مقطع فيديو لمراقبة قوات الاحتلال في جحر الديك من مسافة قريبة للغاية وهم في خيامهم، قبل الهجوم عليهم.

فجر اليوم تمكن مجاهدو القسام من رصد تمركز لعشرات من جنود الاحتلال (60 جنديًا) داخل خيام شرق جحر الديك، فزرع المجاهدون 3 عبوات مضادة للأفراد بشكل دائري حول التمركز، وفي تمام الساعة 4:30  تم تفجير العبوات في جنود الاحتلال وتقدم أحد المجاهدين للإجهاز على من تبقى من أفراد القوة، وانسحب المجاهدون إلى مواقعهم بسلام بعد إيقاع عدد كبير من جنود الاحتلال قتلى.

أما في يوم الجمعة 15 ديسمبر، فقد تمكن مقاتلو القسام من الهجوم من المسافة صفر على تمركز لقوات العدو في جحر الديك، وبثت قناة الجزيرة مقطعًا شهيرًا لتلك العملية مصدره المقاومة، ويظهر فيه بعض مقاتلي القسام وهم يهاجمون العدو ببسالة وهم حفاة الأقدام، بينما ظهرت جثة أحد جنود العدو المقتولين على أرض المعركة الخاطفة. 

ولا يبدو أن العمليات في جحر الديك تنكسر بمرور الوقت، إذ كان الأسبوع الأخير حافلًا بالجهد المقاوم. يوم السبت 23 ديسمبر أكّدت القسام أن مجاهديها فجروا عين نفق في قوات العدو، ثم قصفوا بقذائف الهاون قوات النجدة التي هرعتْ إليهم، وفي اليوميْن التالييْن أعلنت القسام عن كمين بالعبوات الناسفة ل4 جيبات عسكرية إسرائيلية في جحر الديك، وأصدرت مقطعًا قصيرًا أظهر انفجار عبوة ناسفة في أحد تلك الجيبات، وتبنت كذلك استهداف قوة إسرائيلية تمركزت في أحد المنازل بقذيفة مضادة للتحصينات.

وكان آخر البلاغات العسكرية التي أصدرتها المقاومة من جُحر الديك لحظة كتابة هذه الكلمات يوم الأربعاء 27-12-2023م، من نصيب أحد أصغر الفصائل في غزة، وهي قوات الشهيد عمر القاسم (سُميَّت تيمُّنًا بالمناضل اليساري عمر القاسم الذي توفي في سجون الاحتلال عام 1989م):

كتائب المقاومة الوطنية (قوات الشهيد عمر القاسم) خاضت اشتباكات عنيفة مع جيش الاحتلال بمحور جحر الديك جنوب شرقي غزة وأوقعت القتلى والاصابات في صفوف العدو معركة **#طوفان_الأقصى

اقرأ أيضًا: الشجاعية: حي الجهاد والملاحم

الصراع الإستراتيجي في جُحر الديك وأخواتها

خلال الشهور القادمة، من المفترَض أن ينتقلَ جيشُ الاحتلال إلى ما يسميه المرحلة الثالثة الأقل كثافة والأطول زمنًا، التي سيحاول التمركز فيها في ما يسميه المناطق العازلة داخل أراضي قطاع غزة، والتي يريد بها إدامة سيطرته الأمنية على القطاع، واستخدامها كمنطلقات لتنفيذ هجمات خاطفة في عمق القطاع ثم الانسحاب. حتى اللحظة لا تعرَف بالتحديد حدود تلك المناطق وشكلها النهائي، لكنها ستكون بالطبع في بعض المناطق الشمالية والشرقية من القطاع، قريبًا من السياج الحدودي الفاصل، ومن المتوقع كذلك أن يسعى العدو للتمسك بمنطقة الاختراق الرئيسية لقواته في وادي غزة وسط القطاع، من جحر الديك شرقًا إلى ساحل البحر جنوب غربي مدينة غزة، الذي يقسم بها القطاع إلى شطرين، ويحكم الحصار التام على شمال القطاع. 

إذًا من المتوقع في الأسابيع والشهور القادمة أن تظلَ جحر الديك هدفًا لعمليات المقاومة – لأنها ستظل من نقاط تجمع وتمركز قوات العدو الرئيسة – سواءً بالتسلل واستهداف آليات العدو وقواته المتحصنة بالعبوات الناسفة والقذائف بشكل مباشر، أو بقصف تجمعات العدو فيها من مسافة بضعة كيلومترات بقذائف الهاون والصواريخ قصيرة المدى، لاستنزافها بشكل متواصل، ورفع كلفة استمرار الاحتلال. 

ولعل الهدف من توسيع العدو لمنطقة عملياته وتوغله جنوب جحر الديك في المناطق الشرقية من مخيم البريج والمغازي منذ الإثنين 25-12-2023م، هو لتأمين أجناب قواته المتوغلة في وسط القطاع، وتوسيع المنطقة العازلة في ذلك الاتجاه المحوري الذي يمنحُ العدوَّ قدرة على الضغط على مناطق عديدة من القطاع، واستمرار المساومة بورقة حصار شمال قطاع غزة وعزله عن الجنوب. وفي هذا الوضع، سيصبح زخم عمليات المقاومة في جحر الديك حاسمًا على المستوى الإستراتيجي، ومصير الحرب ككل، والتسوية اللاحقة.